ملحمة مموزين

من روائع الأدب الكردي في القرن السابع عشر


ملحمة مموزين

قصة حب نبت في الأرض وأينع في السماء

ملحمة ( ممو زين )للشاعر الكبير

الشاعر العلامة الكبيرأحمد خاني

ا
 
حياة أحمد خاني

حياة أحمد خاني



صاغ أحداث هذه القصة شعرا , شاعر كردي كبير هو أحمد خاني , وهو واحد من علماء الأكراد الذين برعوا في علوم الفقه والفلسفة والتصوف والأدب . وكان من آثاره ديوان شعر باللغة الكردية دون فيه أحداث هذه القصة .
في مدينة بيازيد ,التي أخذت مكانها على صدر منطقة هكاري بكردستان تركيا . المضطجعة في أحضان الجبال الشاهقة , والمتزينة بأبهى حلة من السندس والياسمين , وبأشجار الصنوبر والسنديان , أضافت الحياة الى قائمة المشردين طفلا آخر , مشردا جديدا زاد في صفوف الفقراء الجائعين , هو أحمد خاني . نعم .. ولد أحمد جائعا , عاريا كغيره من أبناء الفقراء , حتى ان أحدا لم يبالي به فيدون يوم مولده , مما أدى الى اختلاف كبير من قبل من جاء بعده في تحديد ذلك اليوم الذي شهدت شمسه ولادة طفل غير عادي , سوف يغدو شاعرا كبيرا , وعبقريا فذا وصوتا من أصوات الحق ينادي بحرية شعبه . ولكن ما اتفق عليه المؤرخون هو 1650 م .
كغيره من أبناء عصره , تلقى خاني علومه الإبتدائية في الكتاتيب والجوامع , على أيدي شيوخ زمانه , ثم في المدارس التي كانت متوفرة أنذآك في المدن الكبيرة, مثل تبريز وبدليس , حيث ظهرت فيه علائم النبوغ مبكرة , وهو لم يتجاوز الربيع الرابع عشر من عمره . وسعيا وراء المزيد من العلم , زار مدنا كثيرة , وتجول فيها , وأقام في مرابعها ردحا من الزمن , مثل الآستانة-استانبول- ودمشق . كما زار مصر أيضا , فاطلع على علوم عصره . وتلقفها فجمع بين الأدب ولا سيما الشعر , وبين الفقه والتصوف , فذاعت شهرته مقرونة بالثقافة الواسعة والمعرفة العميقة في الأمور الأدبية والفلسفية والدينية .
في هذه الفترة من التاريخ كانت كردستان ملعبا من ملاعب الصراع بين الدولة العثمانية , والدولة الصفوية , اللتين قسمتاها بينهما إثر معركة جالديران الشهيرة 1514 م , وراحت كل منهما تحاول أن تضم اليها الإمارات الكردية . فكانت الدماء الكردية تراق مدرارا على الرغم من انه لم يكن للأكراد في كل ذلك أي شأن وطني أو إنساني , بل كانت الخسارة تحصدهم من الطرفين في كلتا الحالتين . وكان خاني يتأمل هذا الوضع المتردي ويقلبه على كل اوجهه , عسى أن يجد فيه بعضا مما يستحق أن تراق , من أجل الوصول إليه , هذه الدماء , ولكن أنى له ذلك !! ليس في كل ذلك شيئ مما يخص الأكراد في أمور حياتهم , بل عليهم الطامة , وضياع البلاد , ولعل ذلك الواقع المر , بل ولادته في خضمه , ثم تأمله فيه وتفاعله معه وإنفعاله به كان من أهم عوامل تكوينه الفكري .
كانت اللغات العربية والتركية والفارسية بالإضافة الى اللغة الكردية هي اللغات السائدة في المنطقة . فإنكب خاني عليها جميعا , وغرف من معينها إلى أن أتقنها كلها . ثم التفت للأطفال , فجسد حبه لهم من خلال تعليمهم وتلقينهم مبادئ اللغتين الكردية والعربية , فوضع قاموسه الكردي - العربي , الذي خصهم به , حتى انه أسماه ( الربيع الجديد للصغار ) وراح يفتح المدارس , ويتطوع للتعليم فيها بنفسه دون مقابل مجسدا بذلك حبه للعلم .
وعلى الرغم من تمكنه من اللغات العربية والفارسية والتركية , تراه قد آثر أن يكتب مؤلفاته باللغة الكردية , ليؤكد بذلك مساهمة الأكراد في بناء الحضارة الإنسانية . فخلف من بعده أروع ما كتب في الأدب الكردي . مبدعا الشعر القصصي في هذا الأدب وذلك من خلال ( ممي آلان ) و (ممو زين ) ديوانه الذائع الصيت الآن في الشرق والغرب , والمنتشر بين الآداب العالمية .
ويبدو أن المدينة التي انجبته قد استاثرت به طيلة حياته , ولم تستغن عنه إلا لبعض الوقت وآثرت أن يوارى في ثراها , فاختطفته يد المنون وتوفي - رحمه الله - في مدينة بيازيد مسقط راسه سنة 1708 م .

إن لبطلي هذه القصة المؤثرة قبرين معرفين في جزيرة ابن عمر . وقد أقيم عليهما , فيما بعد , مدرسة كبيرة لطلاب العلوم الشرعية . والقبران جاثمان هناك لكل من يريد رؤية الحب الذي نبت في الأرض , وأينع في السماء
.
 
في محراب الإلهام

في محراب الإلهام


تعال ايها الساقي فاملأ هذا الجام خمرا ... املأه من تلك الخمرة الوردية التي اعتصرت من جنى الروح , واستخلصت من ذوب سر القلوب .ثم اسقنيها من شفاه كؤوسك الدرية المجوهرة أقداحا إثر أقداح , اسقنيها نشوة تهيج مني فؤادي الغافي وتسكر عقلي الحيران .(1)
وأنت أيها الشادي ...تعال فاجلس الى جانبي لتتم سكرة الروح بشجي من غنائك , أسمعني أنغام الناي والكمان , أطربني بوقع الدفوف والألحان .
أبهجوا عيني بمرآى الورود الفاتنة والأغصان المتمايلة , دعوا كل هذا ياخذ بمشاعري وإحساسي ليسكرني عن هذا الوجود الذي حولي , فعسى أن تضمحل مني كثافة هذه المادة والجسم فأظل قلبا وروحا , وأبقى معنى وإحساسا . وعسى أن يدكرني إذ يدركني إذ ذاك فيض من نور القدس , فيعكس إلى نفسي قبسا من إشراقه ويقذف فيها نورا من ضيائه , فيصفو مني القلب وتجلو أمام عيني أسرار هذه الحياة . لكي أغدو مع كل صباح فأترجم للناس حديث النسيم مع الأغصان , وأشرح لهم مغازلة الطيور للأزهار , ولكي أسير مع الأصائل فأقرأ لهم آيات الشمس المنبسطة فوق صفحة الخمائل والغدران , وأردد مع العنادل والبلابل أنغام الحب والجمال , ولكي أسكرهم من جمال هذا الكون بخمر من مداد قلمي , وأطربهم من ألحانه ببيان قلبي ولسني .
هات أيها الساقي... هاتها كؤوسا مترعة من هذه الراح , لكي أنفض بها من قلبي أحزانه , ولكي أغدو مخمورا بحرارة لذعها ويسكر مني العقل بنشوتها .
هاتها ليهيج مني الفكر فأنطق بأسرار القلوب , ولتستعلي مني الروح فأنثر من مكنون المعاني ودرها , وأكشف عن خلجات النفوس ووجدها , وأبين عن آلام الأفئدة وحبها .
سأرسلها أنغاما تطرب القلوب من غير أوتار , سأبعثها شذى عطرا يبهج النفوس من دون أزهار , سأبعث اليوم تاريخا من الحسرات والآلام أغمض عينيه من دهر ونام , سأشعل من جديد زفرات لمعت في صدور .. ونارا الهبت في قلوب , ثم خمدت بعد أن أحالتها إلى رماد ! سأعيد الحياة بروح من بياني إلى ( ممو ) و ( زين ) ضحيتي نار الحب والغرام . لأدواي قلبيهما بفيض من شعري وإحساسي , إذ لم يرحمهما أحد بدواء الوصل والإسعاد , سأزيح للناس الحجاب عن قلب ذلك المسكين الذي كواه الحب المستعر وسحقه الكيد والحقد , وعن قلب تلك البريئة الطاهرة طهارة المزن بين السحب . تلك التي أذابها الشقاء واعتصرتها يد الظلم كما تعتصر الوردة الناعمة في كف غليظة قاسية . سألبس كلا من هذين الحبيبين ثوبا مطرزا من بياني , ثم أرفعهما إلى أوج التاريخ فليخلدا وليخلد صدى زفراتهما مدى الدهر والحياة , ثم ليمر من أمامهما كل مستعرض وناظر . فليبك أناس حرمانهما واحتراقهما , وليفتتن آخرون بلطف (زين ) وجمالها .
وعسى أن يسأل لي الرحمة أيضا كل من يسترحم لهما , وعسى أن يدركني أنا أيضا أثر من عطفهم وقبس من دعائهم , وعسى أن يقول أناس : رحمه الله فقد وشى حياتهما بوشي جميل , وغرس قصتهما في بستان الخلود .
وعسى أن يتلطف الناقدون لسفري هذا في نقدهم , فهو وإن لم يبلغ درجة الكمال ولكنه طفلي الغالي ... عزيز الى نفسي , مدلل عند قلبي , جميل في عيني . وهو بستان وإن كان قد يرى بين ثماره ما هو فج غير يانع , غير يانع , غير أنها حديقة فؤادي وأزهار فكري ولبي . وحسبهما من جهدي ما قدمت , وحسبي منها ما أثمرت

1 الشاعر كما قلت في المقدمة صوفي النزعة وعلى جانب كبير من الدين والعلم ... فحديثه عن الخمر والأقداح ونحو ذلك مما يعبر به كثير من الشعراء والمتصوفة على سبيل المشاكلة والمجاز
 
الجزيرة الخضراء

الجزيرة الخضراء

حدث ذلك في حوالي عام 1393 م في جزيرة ( بوطان ) المعروفة اليوم باسم - جزيرة ابن عمر - تلك التي تقع على شاطئ دجلة , وتمتد في اتساع شاسع بين الهاب والتلال الخضر الواقعة في شمال العراق .
واسم هذه الجزيرة يتألق في مقدمة ربوع كردستان التي يمتاز معظمها بقسط وافر من جمال الطبيعة وبهائها , اذ ننشعب بين ريض طبيعية بديعة , وينعكس اليها من شائر أطرافها بريق دجلة الذي يحف بمعظم جهاتها , كما يزيد في روعة جمالها جبالها الشاهقة في جو السماء , التي تفاخر في علوها العجيب وفتنتها الخضراء معظم جبال العالم , وتنتشر من حولها سر الخلود وآيات الجلال .
وانبعثت حوادث هذه القصة من قصر أمير الجزيرة ( الأمير زين الدين ) , حيث كانت بلا الأكراد آنذاك وما بعد ذلك العصر إلى أواسط عهد العثمانيين منقسمة إلى عدة إمارات , يتولى إدارة كل منها أمير يتمتع بالجدارة والقوة .
ولم يكن الأمير زين الدين ذا كفاءة عاليه فحسب ... بل كان يتمتع إلى ذلك بغنى واسع وبمظهر كبير من القوة والسلطان . والغريب أن ذلك لم يكن ليمنعه من امتلاكه العجيب لقلوب أمته , واكتسابه محبة سائر طبقات شعبه , مما أذاع اسمه مقرونا بالهيبة والإجلال لا في بوطان وحدها , بل في سائر أنحاء كردستان وإماراتها .
ولم يكن قصره الذي كان يرى من بعيد كأنه برج هائل , كقصور بقية الأمراء من أمثاله , وإنما كان آية من آيات الفن والإبداع .. كان منتهيا إلى أقصى حد في البذخ المبذول لتصميمه وتشييده وإقامة أبهته ..!
ولم تكن في داخله أبهاء وقيعان فاخرة فحسب , وإنما كان يزدان أيضا بمتاحف تضم مختلف العجائب والنوادر , وأنواع المجوهرات الغريبة والفاخرة ..!
أما رحابه وشرفاته فكانت تميس بعشرات الغلمان .. وبمثل ذلك من أجمل الجواري والفتيات ... يجبن في أنحائه , ويضفن على رحابه جوا سحريا يشع بالفتنة والجمال .
غير أن الآية الكبرى للجمال في ذلك القصر لم تكن منبعثة عن أي واحدة من تلك اجواري والحسان , وإنما كانت سرا لدرتين شقيقتين غير كل أولئك . خلقهما الله في ذلك القصر ، بل في تلك الجزيرة كلها مثلا أعلى للجمال ، ونموذجا كاملا للفتنة والسحر الإلهي في اسمى مظاهرهما ، وكأنما أبدعتهما يد الخلاق هذا الإبداع العجيب في ذلك القصر الرائع ليؤمن كل فنان بارع ، ومبدع وصانع ، بأن الجمال إنما هو هذا ..!
 
لا رصف الأحجار وفن النقش وصنعة التلميع ، هذه فتنة تبهر القلوب وتسكر الألباب ، وذلك رونق يبرق في الأعين ويزيغ بالأبصار ، وشتان ما بينهما من فرق .
ولم تكن هاتان الشقيقتان سوى أختين للأمير زين الدين . كان اسم كبراهما ( ستي ) وكانت بين البياض الناصع والسمرة الفاتنة / قد أفرغ الجمال في كل جارحة من جسمها على حدة ، ثم أفرغ بمقدار ذلك كله على مجموع جسمها وشكلها ، فعادت شيئا أبرع من السحر وأبلغ من الفتنة .
وأما الصغرى واسمها ( زين ) فقد كانت وحدها البرهان الدال على أن اليد الإلهية قادرة على خلق الجمال والفتنة في مظهر أبدع من أختها وأسمى .
كانت هيفاء بضة ذات قوام رائع ، قد ازدهر في بياضها الناصع حمرة اللهب ، ذات عينين دعجاوين أودعهما الله كل آيات الفتك واللطف التي تتسامى على التعبير .
ولم تكن شقراء ، غير أن شعرها الاسود الفاحم - وقد أحاط كسحر الليل بوجهها الذي قسمت ملامحه أبدع تقسيم وامتزج فيه عند الشفاه ولهب الوجنتين ببياضه الناصع - كان يثخن الألباب فتكا ويغمر العقل سكرا .
وكانت لها الى ذلك كله رقة عجيبة في روحها ، وخفة متناهية في دمها . فكانت في مجموعها خلاصة لأروع أمثلة المال والخفة واللطف .
وعلى الرغم من أن هاتين الغادتين كانتا لؤلوتين محجوزتين في صدفة ذلك القصر عن معظم الأبصار ، فقد كان اسماهما ذائعين منتسرين في سائر أطراف الجزيرة بل في كثير من بلاد كردستان ، يتخذون من شهرتهما المقياس الأعلى والمثل الكامل للجمال .
وقد كان من الغريب في الواقع أن تخلق تلك الفاتنتان في قصر أمير بوطان لتصبحا أجمل زهرتين تحبسان في رحابه عن الأنظار ، لولا أن الشعب الكردي عامة وأولي الزعامة فيهم خاصة غرست في طبيعتهم غيرة ملتهبة لا تكاد تفارق جوانحهم ، مما يجعلهم يتحرجون من اختلاط الجنسين ألا بمقدار ... هذا ألى أن شقيقهما الأمير كان قد أوتي مزيدا من هذه الغيرة بين جانبيه ، وزادها ما كانت تتمتع به اختاه من ذلك الجمال النادر الذي أبى إلا أن يذيع اسميهما في الجزيرة كلها وفي معظم البلاد الاخرى .. ولذلك فقد كان من العسير جدا أن يكون لعشاق ذلك القصر الكثيرين نصيب منه غير السماع ... وتسقط الأخبار
 
أعلى