أمين عالي بدرخان و الاسرة البدرخانية ...




أمين عالي بدرخان و الاسرة البدرخانية ...

لا نحسب أن أحداً يجهل أنّ أبناء الأسرة البدرخانية كانوا يتسنمون منصب الإمارة "البوتانية" ضمن حدود الإمبراطورية العثمانية الواسعة. وكانت هذه الإمارة دولة شبه مستقلة، في عام (1842-1847)م ولكنها لم تكن خارجة عن هيمنة السلطان العثماني، ولم تكن منفصلة عن هذه الإمبراطورية انفصالاً كلياً. ولتحرير هذه الإمارة تحريراً كاملاً وقطع كل علاقة لها بالإمبراطورية العثمانية فقد قام الأمير بدرخان بانتفاضة أعلن فيها استقلال الإمارة واتخذ مدينة (الجزيرة) عاصمة لدولته الفتية. غير أن هذا التحرر والاستقلال لم يدوما طويلاً. ونتيجة لهذا الإخفاق أصدرت السلطات العثمانية قراراً بنفي العائلات البدرخانية إلى استانبول، ثم الى مدينة قندية -كريت. وقد كانت لأحوال العائلة البدرخانية في مسيرتها التاريخية الأثر البالغ في حياته، هذه الأحداث التي جرت قبل ولادته ولم يكن له بها أية علاقة أو رابطة فكان من شأن ذلك كله أن يتشرد مع أفراد أسرته في أصقاع الأرض كما تشرد آلاف الأطفال من شعبه وولدوا في ديار الاغتراب.

إن الدارس لتاريخ الشعب الكردي يتبدى له بجلاء موقع الأسرة البدرخانية السامي. ولا يجهل أحد أن العائلة تحتل في كردستان المراتب العالية. لقد تركت شخصيات هذه الأسرة منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى القرن العشرين بصماتها على كثير من الصحف والمجلات والروابط والجمعيات والمعاهد التي تأسس جُلها خارج أرض كردستان وأنشئ بعضها في كردستان.

ان البدرخانيين
يشكلون حلقات جوهرية في سلسلة تاريخنا
المعاصر، ليس في مجال السياسة والثورات والانتفاضات فقط بل في مضمار بناء مؤسسات مدنية، وثقافية، وعلمية، وأدبية. و تسعى جاهدة بكل ما تملك من قوة إبراز الهوية الكردية في المحافل الدولية وإظهار الأكراد في أبهى صورة حسب الظروف المتاحة والفرص السانحة. وأحد أعلام هذه العائلة هو أمين عالي بدرخان بك.

ولد محمد أمين علي أو أمين عالي بدرخان أو أمين بك عام 1851م، وهو أبن بدرخان باشا، وعندما شبَّ عن الطوق تلقى العلم في المدارس والمعاهد السلطانية التي أنشئت لاستقبال أبناء الأمراء وكبار رجال الدولة ونال إجازة في القانون من كلية الحقوق، وقد جعلته شخصاً متنوراً وفتحت له أبواباً واسعة من الثقافة. الا أن الحكومة العثمانية كانت قد أخضعته مع أفراد أسرته للإقامة الجبرية في استانبول ومنعتهم من العودة الى كردستان. كان بدرخان بك "والد أمين عالي بدرخان" قد شرع أبواب مجلسه أمام المغنين والمنشدين والشعراء ورواة القصة والحكايات، وكان يُرسل في طلبهم وجلبهم من كردستان الى استانبول لتعليم أولاده اللغة الكردية والحكايات والقصص والعادات والتقاليد الكردية قديمها وحديثها وكذا الطرائف والأحداث التاريخية، وإذ كان أمين عالي بدرخان فتى نابهاً فقد أستطاع اكتساب معرفة جمة من أولئك الوافدين الذين كان يصغي إلى أحاديثهم فلما دخل معركة الحياة العملية أبلى فيها بلاءً حسناً.

كان أمين عالي بدرخان يسير على نهج آبائه وأسلافه في الدعوة إلى الكفاح وتحرير كردستان وتحقيق استقلالها. وسعياً إلى هذه الغاية فقد "غادر أمين عالي ومدحت بك استانبول سراً عام 1889م، وسافر مدحت الى طرابزون وهناك احتك بالشعب الكردي وخالطه عن طريق مصطفى نوري شامي أفندي، واتفقوا على ان ينتظروا قوة مسلحة كبيرة بقيادة زعماء الأكراد في جويزليك الواقعة بين أرضروم وطرابزون. وصلت القوة الكردية المتفق عليها الى المكان المذكور، وذهب السيدان الى هناك سراً، ولكن الشخص الوسيط الذي كانت له روابط بالقوة العسكرية وأبناء بدرخان قد أخبر الباب العالي بطريقة ما عن هذه العملية، وطلب إرسال قوة عسكرية مسلحة من أرضروم وأرزنجان لتحاصر الطريق من الجهتين، أي الطريق التي سيمر منها ولدا بدرخان اللذان لا يعرفان شيئاً عن المكيدة (المصيدة) التي تنتظرهما. جاء ولدا بدرخان مع القوات المذكورة فوجدا نفسيهما محاصرين من قبل قوة تركية على حدود مدينة بايبورت، فعرفا تماماً أن مكيدة قد دبرت لهما، وبدأت الحرب بين القوتين وكانت حرباً مدمرة، انتهت بهزيمة القوات الكردية، التي اضطرت الى الانسحاب الى جبال ارغماني المعدنية للدفاع عن نفسها[1]. أُخمدت الانتفاضة ولم يكتب لها النجاح. إلا أنهم ظلوا على صلة بالحركات الكردية وآزروا المؤسسات الثقافية والاجتماعية في النشر والدعوة الى نصر القضية الكردية.

وحين حصلت الدولة على الوثيقة، أرسلت في تشرين الأول عام 1898م الى طرابزون. كانت الوثيقة تحمل توقيع منتسبي العائلة البدرخانية، وتدعو الشعب الكردي الى الثورة، فسجن أمين عالي بدرخان وأخوتـه مدة ثلاثة أشـهر، وبعـدها وكلوا المحامي "كونت اوستووتوف"، ثم تم الإفراج عنهم[2].

وبعد أن وضعت الحرب الكونية الأولى أوزارها تأسست في استانبول جمعية "نهضة الأكراد " وعيّن أمين عالي بدرخان رئيساً ثانياً(مساعداً) لهذه الجمعية. ومكث يكتب ويحرر في الصحف والمجلات الكردية عن الأكراد وأحوالهم وكل قضاياهم الإنسانية والسياسية. وخشية تفاقم أمر هذه الحركة الجديدة أصدر السلطان العثماني قراراً بتشتيت العائلات البدرخانية وتبديد شمل أفرادها داخل أراضي الإمبراطورية العثمانية الشاسعة، المترامية الأطراف، ولكي تستطيع الدولة العثمانية تنفيذ خطتها حاولت التزلف إليهم ومنحهم مناصب رفيعة في الدولة فوثقت بينها وبينهم الروابط, وقد لقي هذا التوجه هوى في نفوس البدرخانيين ليستطيعوا تحت ستارها مزاولة حركاتهم السياسية، وعلى سبيل المثال فإن أمين عالي بدرخان أنيطت به وظيفة "المفتش العام" في محاكم استانبول و"سيلانيك" و"أضنة" وخلال عمله في عدلية "أنقرة" و "قونية" نفي الى اسبارطة. عندما تم القبض عليه، نفي الى عكا للمرة الثانية، وبقي هناك مدة ثلاث سنوات، ثم عمل موظفاً في نابلس. بيد أن البدرخانيين على الرغم من تودد الحكومة العثمانية إليهم وعلى الرغم من تكريمها لهم لم ينسوا أمر بلادهم ولم يتخلوا عن قضية شعبهم. وعندما تأكد للبدرخانيين أنهم محوّطون وأنَّ كلَّ تحرك عسكري بات غير ممكن، وجهوا جهودهم إلى العمل الثقافي، ونشر الوعي بين طبقات الشعب وإيقاظه من غفوته وبث الروح القومية.

في عام 1906م حين اغتيل رئيس دائرة الاستخبارات: رضوان باشا ارتاب السلطان في الأبناء البدرخانيين واعتقد –رجماً بالظن- أنَّ لهم ضلعاً في عملية الاغتيال، وكان اسم عبدالرزاق نجيب بدرخان واسم علي شامل بدرخان يُسردان ويكرران- بشكل خاص- في لائحة الاتهام. فعمد السلطان الى إصدار قرار بنفي أولاد البدرخانيين ولكن في مضمار الإمبراطورية العثمانية. وهكذا نفذ القرار بإبعادهما إلى مدينة "طرابلس" في ليبيا. وفي خضم قرارات النفي أبعدت الحكومة العثمانية أمين عالي بدرخان وشقيقه صالح بدرخان "والد الأميرة روشن بدرخان" إلى مدينة "اسبارطة".

في عام 1908م اضطر السلطان عبد الحميد تحت ضغوط الأمم والشعوب التي تشملها الإمبراطورية وتخضع للسلطة العثمانية –إلى تطبيق الدستور الذي وضع عام 1876م الذي تنص بنوده على المساواة في الحقوق والواجبات ومنح الحريات لكل المواطنين دون استثناء. وعندما تم الإعلان عن بنود هذا الدستور من جديد سُمح للشخصيات الكردية التي أبعدت عن استانبول، بأوامر العثمانيين، بالعودة إليها. وهكذا عاد –مرة أخرى- أمين عالي بدرخان الى استانبول واستأنف عمله في المجال الثقافي وتنوير أفكار بني قومه وإنعاشها.

في عام 1908م أسس السياسي الفذ والمفكر المتنوّر الذائع الصيت أمين عالي بدرخان- يؤازره الجنرال شريف باشا، ونجل عبيد الله النهري: عبدالقادر أفندي، والجنرال "أحمد ذو الكفل" في استانبول جمعية باسم "جمعية الترقي والتعاون الكردية" إلا أنها حُظرت على يد الوحدويين الأتراك الذين تسلموا مقاليد الحكم في البلاد عام 1909م، وعندئذ لجأ هؤلاء الوطنيون إلى إحداث جمعية أخرى أطلقوا عليها اسم "جمعية نشر المعارف الكردية "، وقد كان إنشاء معهد علمي في حي "جنبري طاش" أحد المشاريع التي نهضت بها هذه الجمعية. تأسست في الفترة الأخيرة جمعية شكلها زعماء وأشراف ووجهاء الأكراد والمفكرون والمثقفون تحت اسم: "جمعية التنظيم الاجتماعي الكردي" ولما أدرك السلطان العثماني أن البدرخانيين لا يكفون عن نشاطهم هنا وهناك أصدر قراراً لنفيهم مرة أخرى. أما أمين عالي بدرخان فما كان يستتب به المكان في المنفى إلا قليلاً حتى ينُفى إلى منفى جديد، وقد تردد نفيه بين مدن كثيرة نذكر منها على سبيل المثال: عكا ونابلس في فلسطين وسالونيك في اليونان وانقرة وسبارطة وقونية... وغيرها. وقد ورد في البند الثاني عشر من مبادئ ولسون الأربعة عشر في الثامن من كانون الأول 1918م: (ان القوميات الواقعة تحت الحكم العثماني ينبغي لشعوبها أن تتمتع بحياة كريمة آمنة).

ولقد تكللت نهاية الحرب العالمية الأولى بتوقيع اتفاقيات باريس السلمية، (منظومة فرساي) خلال عامي 1919-1920م المعقودة بين دول الائتلاف وحلفائهم من جهة وألمانيا وحلفائها من جهة أخرى، وقد شملت هذه الاتفاقيات اتفاقية "فرساي" عام1919م واتفاقية "سان جرمين" عام1919م واتفاقية "نين" عام 1919م واتفاقية "توي آتون" عام 1920م وأخيراً اتفاقية "سيفر" عام 1920م[3].

كانت اتفاقية سيفر جزءاً مكملاً لمنظومة فرساي حيث أن المطامح الاقتصادية والسياسية للدول الامبريالية في الشرقيين الأدنى والأوسط، نالت ما تستحقه من الصياغة في هذه الوثيقة[4]. فهي تتألف من (13) باباً و(433) بنداً أعدتها خمس لجان خاصة تفرعت عن مؤتمر باريس[5].

من خلال أعمال أمين عالي بدرخان المتعلقة بالمسألة الكردية وخاصة بعد عام 1919م اتصل بمسؤولي دول الغرب المنتصرة في الحرب وعلى رأسهم المسؤولون الانكليز، وحاول كسب تأييدهم ودعمهم، ولكنه لم يذهب الى كردستان ولم ينشط فيها بل قام بنشاطه في استانبول. كتب الرائد الانكليزي الميجر نوئيل عام 1919:"...كان الأكراد يخشون الانكليز بسبب تأييدهم لتأسيس دولة أرمنية، وترك الأكراد لمواجهة هجمات هذه الدولة الجديدة!. قابلت زعماء الأكراد في 30-تموز-1919م عند وصولي الى استانبول. أولا رأيت الشيخ عبدالقادر وأفراد العائلة البدرخانية، وبعد التحقيقات المكثفة، اقترح الأكراد تشكيل لجنة لإرسالها معي الى المنطقة. فتشكلت لجنة تضم َولَديْ أمين عالي بدرخان (جلادت وكاميران) وسيد معين (زوج ابنة الشيخ عبدالقادر) وشخصاً عقلانياً من ديرسم هو سيد ابراهيم. كان أعضاء هذه الهيئة أشخاص من الدرجة الثانية في الجمعية- جمعية نهضة كردستان- ويعود سبب عدم ذهاب زعمـاء الأكـراد معي الى تخوفهم من أن يوجه الأتراك إليهم

تهمة الخيانة"[6].

حسب ما ذكره نوئيل: أن "أمين عالي بدرخان من الأشخاص المميزين في عائلة بدرخان، وأنه طويل القامة، وذو لحية بيضاء وله هيبة وشخصية مؤثرة. كان له نفوذٌ بين الأكراد وخاصة أكراد منطقة بوتان. أراد الأتراك تعيينه والياً على دياربكر في ربيع عام 1919م، ولكنهم ألغوا الفكرة لأنهم عرفوا أن أمين عالي بدرخان لن يبدل قضية استقلال وحرية كردستان بكرسي أو منصب في الدولة. كان أمين عالي زعيم المجموعة التي أيدت استقلال كردستان وناضل من أجل ذلك خاصة بعد عام 1920م."

والى جانب نشاطاته السياسية والفكرية والاجتماعية كان يحب لعبة الشطرنج كثيراً، وله اهتمام كبير بالأدب الكردي والثقافة الكردية وخاصة الشعر. وكان مولعاً بقراءة أشعار الملا أحمد الجزري وأحمد خاني والشاعر "حاج قادر كوئي" ويمتلك شخصية قوية، وروحاً رياضية عالية. يحب النكتة والطرفة كثيراً، متواضع لا يتكبر على أحد، ويحب أن يساعد الضعيف ويساند الفقير. ويتضح من تفسير جلادت بدرخان ان القصيدة المنشورة في جريدة كردستان الصادرة في مصر عام 1898م في عددها الثالث قصيدة موقعة باسم (لاوي شيخ أ.فتاح) هي لأمين عالي بدرخان باسم مستعار.

ونشير هنا الى أن أمين عالي بدرخان المعارض بآرائه للحكومة، عمل إدارياً في بعض مناطق الإمبراطورية العثمانية، ومثلما كان من مؤسسي (الحزب الرديكالي العام) ومن أعضاء مجلس إدارته. وشغل منصب مدير المركز (القيادة) العامة لحزب (الحرية والائتلاف) الذي كان من أكبر الأحزاب المعارضة في الفترة الأخيرة من الحكم العثماني في عام 1920م[7].

عندما أخذ الكماليون زمام الحكم ودخلوا استانبول عام 1922م أصدروا أحكاماً بإعدام المناضلين الأكراد ونفيهم. وكان صدور هذه الأحكام- كما بدا آنذاك- خاصاً بالبدرخانيين الذين اتهمهم الكماليون بمحاولة الانفصال عن الدولة التركية. وفي لائحة الاتهام كان قد ورد اسم أمين عالي بدرخان وأسماء خمسة من أبنائه: ثريا وجلادت وكاميران، وصفدار، وتوفيق وكذا اسم "حقي" النجل الأكبر لثريا. لذلك اضطر هؤلاء الوطنيون إلى الاختباء سريعاً والمبادرة الى النزوح من استانبول على عجل. استطاع أمين عالي بدرخان يرافقه نجله الأكبر "ثريا" السفر إلى مصر والاستقرار في مدينة "القاهرة". أما جلادت وكاميران وتوفيق وصفدار فقد لجأوا الى سورية، ونجوا من بطش الكماليين السفاحين، ثم غادروا إلى ألمانيا.

في عام 1926م توفى أمين عالي بدرخان في مدينة القاهرة وترك وراءه سبعة أبناء هم حسب تسلسل سنوات أعمارهم: ثريا، وحكمت، وجلادت، وكاميران، وتوفيق، وصفدار، وبدرخان، وابنة واحدة تدعى: "مزيتْ".

درس جميع أولاده في الجامعات، واغلبهم درسوا في جامعات أوروبا، وبذل أمين عالي جهده لتربية أولاده تربية كردية وتوعيتهم بالإيمان بالقومية الكردية.


بقلم: دلاور زنكي


 
أعلى