سَرحانـيـا


(سَرحانـيـا)



"تاك ..تاك..تاك..تاك..تاك..تاك " أفرغ إبن "عجول" طلقات مسدسه "أبو النجمة " في سماء (المهجورة).. ثـم " كـللللللـلـيـيـيـوووو.. دوم دوم دوم..دددوم دوم دوم..دددوم دددوم.. "شابـاش سرحان سرحان.. من كيس عزيـز الميكانيكي وشاباش كل رفاق سرحان وإخوانه ومن لفّ لف سرحان ...شابااا ا ا اش" تاك تاك دوم دوم ..كللللـيـيـيـيـوو .. سبع فتيات في العشرينات كن يخبزن على سبعة "صاجات" نصبت في دار عجول الهائلة ..ينتجن سبع رقائق خبز كل سبع دقائق، يأكلهن سبعة رجال. في حلقة "الدبك" كان العم "رستم" يطلق حنجرتـه الصادحة "هنّار هنّار هنّاره ... درد و درمانم ياره.." وله خزين سرمدي من الأغاني والأشعار لا نفاد لـه. كائنٌ وحيد كان في صالة المنزل الكبرى جالساً القرفصاء على سجادةٍ فارسية .."سرحان" لا غيــر. إقترب منه طفلٌ منفوش الأخلاق والشعر ..دسّ في كف "سرحان" قطعة من "الجكليت" يدعوه إلى الصخب والاحتفال أو كأنـها رسالة فرح وإشعار من العالـم الخارجي إلى كوكب "سرحان" القريب على بعد خطوةٍ ضوئية واحدة لو شاء ِّ! جاء جواب "سرحان" إلى الطفلِ سريعاً " لأجل ماذا ؟" . بـهت الطفل وخطف قطعة "الجكليت" من كف "سرحان" التي لم يكن ليضمّها وهرول "كتلة القذارة المنظمة" إلى خارج "الديوان" وكأنـه برقٌ صيفٍ رديء!
بعد ساعة من الوقت دخل "كارزان" ليتناول بندقية "برنَـو" معلقة في الجدار واستغرب وجود هذا البوذيّ في صدر مجلسٍ لا حياة فيه، سلّم عليه واقترب منه يسأله : ألا تحب الرقص والدبك والأغاني يا سرحان؟ هز الأخير كتفيه - وهي إحدى تقنيات الرفض العديدة لديه – ثم أردف بـ "لأجل ماذا؟" بـاردة، واضحة.. كافية لأن يفرغ "كارزان" - لسبب معروف هذه الـمرة – طلقات البندقية على شرف الصمت !
وهكذا بين الفينة والتالية كان الـمدعوون وأهل الـمنزل يصطدمون بصخرة "سرحان" الشمّاء !! كل سكان قرية "المهجورة" يعلمون بأن في دار "عجول" حيّـة هائلـة تظهر بين
وقتٍ وآخر، غير أن لا أحد يجرؤ أن يسبب لها الأذى لأنـها كما أكّد العم "ألياس الأعمى" روح إبن عجول الأكبر الذي صُرع في حادث طلقٍ ناري فتحولت روحه إلى ساكن أليف يشرب لـبن "زليـخا" أمه ويحرس الـمنـزل في غياب كلاب عجول. حسـنٌ ..حتى الحيّة بفحيحها الرصين وخيلائها المرعب فشلت –بعد جولة في الديوان- في أن تطرد "سرحان" إلى حيث تضج الحياة في باحة المنزل على قدمٍ وسيقان. راقبها سرحان وحي تزحف إلى جحرها وعيناه الغائرتان تفيضان : "لأجل مـاذا ؟"!
عشرة خراف سمان ذُبحت وسلخت وطبخت وتبَخرت، أكل منها صغار وكبار "المهجورة"، سُراتـها ومعدموها ، قططها وجرذانـها.. الوحيد الذي لـم يذق طعماً ولم ينبش فخذاً أو كبداً كان "سرحان". أفرغت الصحون ورُفعت السُفر وكُنست القاعة وفاحت رائحة الـهال في الشاي، إلا هو.. كان يرمق كل المشهد ولـم يكن! ينطق ولاينطق.. حاضرٌ وماضي كـخرافةٍ عديـمة الهويـة .
في الحرب، أيام كان "سرحان" رقماً كالبقية، كانت طلقات "العدو" وهي مسرعة خارقـة، تتوقف عند قلبه ووجهه قبل أن تخترق جلـده النحيل وتسأله : هل تريد أن تموت ياسرحان؟ فكان مبتسماً يجيب : "لأجل ماذا ؟" فما كان من الطلقات الغضبى سوى أن تسقط محمرة باردة .. وتـتـناثر حول قدميه كفراشات حديديـة. سأله ضابط ذات يوم وقد أعتل قلبه من الجندي – السؤال "سرحان" :
- ما الذي تفعله أيام الإجازة ؟
أجاب: لاشيء.
- وإذا انتهت الحرب ؟
- لاشيء.
- ولو لم تكن هناك حرب أصلاً ؟
- لاشيء !

هـنا أطرق الضابط وقضم أطراف شاربه المتقوس إلى داخل فمه ثم رفع سؤالا جديداً : - هل صادف أن عاشرت داعرة يا عزيزي؟
-كلا يا سيدي .
- إذن تحب .....؟
- سكت سرحان قليلاً ثم أردف بحزم : بالطبع لا.
- وهل فكرت في الزواج من إحدى صبايا قريتك؟
أجابـه سرحان وقد احتقن شريان رقبته : " لأجل ماذا ؟"!!
عندئذ أدار الضابط وجهه باتجاه حفرة مليئة بالطين والمياه الراكدة وتوجه بحزم وقرار نحوها.. ثم رمى بنفسه فيها وغرق واستراح إلى الأبد! وخلال دقائق عديدة كانت فقاعات الألم والحيرة تتفجر على سطح البركة الآسنة و"سرحان" ذاهلاً .. ينظر باستغراب حكيم جلِد .. "لأجل ماذا ؟".
وهكـذا .. بعد مـائة وثلاثة عشر عاماً من "السَرحَـنـة" ، والسواح اليابانيون وهم يزورون بقايا "المهجورة" يلتقطون الصور أمام المهد الذي ولد فيه سرحان، وقرب نخلة تسلّقها سرحان، وخلف سورٍ قضى فيه سرحانٌ حاجته، وعند تـمـثال "الـمحيـِّر" الحجري الذي يتوسط "المهجورة – وهو من أعمال الطفل القذر الذي تحول فيما بعد إلى نحات معروف في كل أرجاء "سـرحانـيا" - . ثـمة صوت مفزع يهز الأبدان ليلاً -كما يروي ذلك شهود عيان من السوّاح وبعض الباقين النُدُر على قيد الرعب في القرية- .. صوتٌ كعويل الريح المستذئـبـة يخرج من مدخنة منـزل "عجول" – حيث قضى سرحان أسئلته المقسمة إلى إثني عشر شهراً !-. يقول "إلياس الأعمى" الذي يبلغ من العمر ما شاء ، بأنه شبيه بصوت سرحان ويؤكد ذلك متوكئاً على قهقهةٍ شبيهة بفرامل الـ" لاندروفر" العجوز، الوحيدة في " مهجورة". الصوت يقول : " لأجل مـــــاااااذااااا...؟؟" ويقطع اللعاب عن الحناجر . شبح نحيل ،بشاربيـن ثقيـليـن يهرول في منازل القرية ويُسكنها لـمرةٍ جديـدة بمخلوقاتٍ ذات حرف واحد .. تحبو إلى الـمواقد وتشتعل فيها ولا تـموت قبل الفجر.. وكلما يحمض السوّاح اليابانيون أفلامهم التي التقطوها في "المهجورة"، لا يجدون شيئاً !! لا قـريةً ، لا صوتـاً ولا تمثالاً أو شجرة!! ومن دهشة الأمر يصابون سريعاً بنوع لذيـذ من الـهستريـا .. أعراضها أن ينحنوا إنحناءات عديدة باتـجاه القبلة "المهجورة".


· مسدس أبو النجمة ، بـرنو / ماركات أسلحة معروفـة في العراق.
· صاجات ، صاج/ صفيحة لعمل الخبز توقد النار تحتها.
· هنار..هنار..الخ/ أغنية كردية معروفة.
· الجكليت/ حلوى في دارجة أهل العراق.


بقلم

خالد كاكي
 
أعلى