الأدب والفن ووظيفتهما في الحياة الاجتماعية

الأدب والفن ووظيفتهما في الحياة الاجتماعية


clear.gif
يمكن القول بشكل مختصر بأن الفن عكس جميع جوانب حياة الإنسان، ولعب دوره في تمثيل هذا الإنعكاس بشكل مناسب وجمالي. ولكن الفن من خلال إنعكاسه للواقع، لم يعطي فقط صورة من هذا الواقع، بل حاول أن يوضح للإنسان ماهو أحسن وأفضل وأجمل في ذلك الوقت حسين شاويش
لم يكن الإنسان في مراحله الأولى يدرك العلم والفكر والمعرفة والدين كما هو الحال في المرحلة الراهنة. لقد كان يفتقر إلى هذه الظواهر المتقدمة إلى حد كبير. لذا كان يحاول حل مشاكله عن طريق السحر والشعوذة والدين البدائي. وقد كان السحر والدين البدائي بمثابة الفن في تلك المراحل الاولى من الحياة البشرية. يقول .ع. أ حول هذه المرحلة مايلي: " لقد كان علم الإنسان الأول على شكل شعوذة (سحر) والدين، كانت هذه الظاهر بمثابة الفن." في تلك المرحلة كانت تقام مهرجانات للسحر (مازالت هذه العادة دارجة عند بعض القبائل الإفريقية) مرافقة بالموسيقا والرقص والغناء والتمثيل المسرحي. بعد تطور المجتمع إلى مراحل أخرى مختلفة عن المراحل الأولى، إفترق السحر والفن عن بعضها البعض. في مسيرة هذا التطور الحاصل، تم استخدام الفن ( الموسيقا، الغناء، الرقص الشعبي) في العبادات الدينية والمناسبات الاجتماعية، في المناسبات الدينية كانت الفعاليات الفنية تهدف إلى احياء الآلهة وكسب رحمتهم وشفاعتهم. بينما في المناسبات الاجتماعية كان هدف الفعاليات الفنية هي إحياء ذكرى القواد (شيف) الطبيعيين للمجموعات القبلية الأولى. وقد كان يحصل ذلك بعد مماتهم، وكانت هدفها تقليد ذلك الشيف أو القائد لكي يتم ترسيخ تصرفاته وتجربته والدعاية لها ضمن إطار أفراد القبيلة كلها. لأن هؤلاء القواد الطليعيين ( أصبحوا قواد من خلال تجاربهم وبطولاتهم وتضحياتهم....)، كانوا يحمون قبائلهم من الكوارث الطبيعية ويوجهونهم من خلال تجربتهم وليس من خلال أية سلطة اجتماعية مفروضة. لذا كان أفراد العشيرة يقلدونهم بهدف تخليد تجاربهم وتضحياتهم، والتقليد عادة محببة لدى الإنسان، حيث يحاول تقليد ماهو أفضل، من خلال إرادة روحية موجودة في سيكولوجية الإنسان. وقد كان أفراد القبائل الأولى ينظروف إلى قائدهم بنظرة الإعجاب ولذا كانوا يحاولون تقليدهم.
المصدر الآخر للفن كان موجوداً في ظاهرة عدم فهم الإنسان أو فهمه القاصر لكيفية تأمين بعض ضروريات حياته أو حل العوائق التي تعترض إستقراريته في الحياة أثناء المراحل الأولى لتطوره. لذا من أجل حل هذه المعضلة أبدع فن المسرح أو التمثيل البدائي وقد كان هذا المسرح عبارة عن عملية تقليد لا أكثر. وقد كان هدفها القيام ببعض التشبيهات المجازية القريبة من المسرح الحالي ظناً منهم، بأن هذه التصرفات الفنية التقليدية سوف تنسحب إلى الواقع وتؤثر عليه لحل المشكلة! مثلاً: عندما كان يحصل الجفاف يحاول الإنسان في تلك المرحلة تقليد أصوات هطول المطر وحركات ماقبل الهطول وأثنائها وبعدها. لأنه كان مقتنعاً بأنه سوف يستطيع تأمين هطول المطر بهذه الطريقة وحتى في أيامنا الراهنة مازال هذا التقليد موجوداً بأشكال مختلفة فمثلاً في بلاد الأكراد تقوم النساء بحمل أوعية الماء (تنكة) والهجوم على أي رجل يقع بين أيديهم وضربه، وهم يعتقدن بأنهم سوف يؤمنون هطول المطر بهذه الطريقة. وكما أن الإنسان حاول وقف الفيضانات والسيول الخطيرة من خلال القيام بفعاليات فنية (غنائية، موسيقية، فلكلورية) حول الشيء الذي حولوه إلى إله للفيضانات والسيول، وقد كانوا يقدمون احترامهم ومحبتهم للآلهة من خلال فعالياتهم الموسيقية والغنائية والمسرحية الراقصة، طبعاً كان المسرح في تلك الأثناء مختلفة عما هي عليه الآن، ولكن كلمة المسرح نفسها جاءت من كلمة ( تيونس، زيوس، زونس، زوش) الأغريقية والتي تعني الإله المقدس في لغتهم . وهذا دليل كبير على أصل المسرح أو مايسمى بـ تياترو قد تطورت أو ظهرت في أثناء عملية العبادة للآلهة أو في عملية محاولة إرضائهم وكسب صداقتهم.
إن الإحتفال بعيد نوروز من قبل الأكراد وعدد من الشعوب الأخرى في المنطقة، قد جاءت من مصدر ديني له علاقة بعبادة الآلهة حسب بعض المصادر التاريخية القديمة. ففي الإسطورة البابلية ( أسطورة ماردوخ و تيامات) هناك مؤشر حول هذه المسألة، يقول أدهم غمكين في كتابه ( المعتقدات الدينية في كردستان) مايلي حول هذا الموضوع: " قوة الطبيعة التي تنبعث مجدداً في الربيع وتتجدد، كما إن الصراع بين الشتاء البارد والشمس الحار تؤدي إلى نتيجة لصالح الشمس في الربيع. وكيوم لرأس السنة يتعادل فيه الليل والنهار ويتم الاحتفال به كيوم الربيع. وقد تحول إلى تقليد وعادة في المنطقة مع هذه الإسطورة (ماردوخ وتيامات). وقد تم الإحتفال بيوم المعروف بـ 21 آذار حالياً في بابل كعيد كبير منذ القديم. بشكل جماهيري صاخب".
حسب الإسطورة كان الناس متشككين بمجيئ الربيع مرةً أخرى بعد الشتاء القارس لذا كانوا ينظمون عبادات جماعية في شهر آذار لكي يصلوا إلى الربيع. أي من أجل تأمين مجيئ الربيع المشكوك بمجيئه كانوا يقيمون العبادات الجماهيرية والاحتفالات الدينية في شهر آذار. وقد تحول الإحتفال بعيد النوروز فيما بعد إلى عادة تقليدية عريقة عند شعوب المنطقة حتى بعد أن زال الشك عندهم بمجيء الربيع بعد الشتاء. أي أن النوروز كان في البداية عيداً دينياُ متعلقاً بالطبيعة الخصبة والخيرة، أما بعد ذلك تحول إلى يوم المقاومة والفن والثقافة . إذاً في البداية كان نوروز أخضراً مثل لون الربيع وبعد ذلك أصبح أحمراً مثل لون المقاومة ضد الظالم ضحاك. هكذا امتزجت حب الربيع مع حب الحرية في فن وثقافة نوروز.
في مصر القديمة كان الناس يشككون بمجيئ الشمس بعد غروبه. لذا كان يقوم بفعاليات فنية ذات صبغة دينية بعد غروب الشمس، ظناً منهم بأنهم بهذه الطريقة سوف يستطيعون تأمين شروق الشمس مرة أخرى. وكما كان الصيادين في المراحل الأولى من تطور البشرية كانوا يرسمون عملية صيد الحيوانات. ( كيفية التقرب من الحيوان، كيفية ضربه، كيفية جره... إلى أخره) على جدران المغارات والكهوف قبل عملية الصيد الحقيقية. وهكذا كانوا يحولون حياته الحقيقية إلى نتاجات فنية حافظت على قيمتها التاريخية والمعنوية حتى يومنا هذا. هكذا إذاً يمكن القول بشكل مختصر بأن الفن قد عكس جميع جوانب حياة الإنسان، ولعب دوره في تمثيل هذا الإنعكاس بشكل مناسب وجمالي. ولكن الفن من خلال إنعكاسه للواقع، لم يعطي فقط صورة من هذا الواقع، بل حاول أن يوضح للإنسان ماهو أحسن وأفضل وأجمل في ذلك الوقت.
إن الإنسان في العهد القديم الأولي كان يجهل أسرار الكون وتعاقب الليل والنهار والفصول والكوارث الطبيعية، ولذا كان يخاف من الكون وظواهرها الطبيعية. وحتى يستطيع أن يتغلب على خوفه هذا ويكسب قوة معنوية له وضع روحه وعواطفه تحت الخدمة ووصل بهذه الطريقة إلى عتبة الإبداع الفني المعروف. يقول ع . أ حول خصوصية الكون هذا مايلي: " الفن ، هو دخول مجمل قابلية الحواس الموجودة في روح الإنسان الذي دخل الضيق، ضمن نشاط استثنائي أو قفزة نوعية".
بهذا المعنى يقوم الفن بإعطاء الشكل واللون للحياة، لايمكننا أن نفكر في الربيع بدون الأزهار والورود ولا يمكننا أن نفكر في الطعام بدون لذة وطعم، إذا لايمكننا أن نفكر في الحياة بدون فن، مثلاً في وطننا يتم القيام بجميع الأعمال مرافقاً مع الأغاني والموسيقا والرقص ـ أي مع الفن، ففي عملية الحصاد يقوم رئيس أو شيف الحصادين بترديد نغمات الأغاني الفلكلورية المناسبة لعملية الحصاد ويشترك الجميع في ترديد كلمات الأغنية وتكرارها مع العمل النشيط وبروح عالية وبدون توقف حتى النهاية. نغمات الأغنية وكلماتها تنسجم وتمتزج مع حركة المنجل والأيادي الخشنة للحصادين، هذه الأغاني تبعد القساوة والصعوبة في قلوبهم. وكما أن الراعي يستخدم الـ بلور (bilor ) أثناء عملية الرعي ويستطيع أن يجمع أغنامه ويأتي بهم إلى الأنهار والسواقي لكي يشربوا الماء على صوت بلور الحزين والعاطفي جداً. وبهذه الطريقة يستطيع الراعي أن يزيل عن روحه أي ضيق أو قساوة ويخفف عن نفسه ويوجه قطيعه حسب مايريد، لأن صوت الفن يخفف من قساوة الحياة وشقاوتها ويبعد الخشونة النفسية والروحية عن الإنسان. لذا الفن هو غذاء الروح والنفسن.
أحمد خاني ( ehmede xani ): حسب المستشرقين الروس، هناك ثلاثة من أعلام الأدب الأساسيين في الشرق، أحدهم الفارسي الأصل الفردوسي والثاني الجيورجي الأصل فاسيلي، والثالث هو الكردستاني أحمد خاني. أحمد خاني سمي بـ أمير الشعراء الكرد من قبل الأدباء والمثقفين ورجال الفكر، وهو فعلاً يستحق هذا اللقب وبجدارة، وهو في مرتبة شكسبير الإنكليزي وجلال الدين الرومي والفردوسي وغيرهم من أعلام الأدب العالمي بشهادة رجال الأدب. ولكن أحمد خاني غير معروف عالمياً، والسبب متعلق بوضع الكرد وكردستان من الناحية السياسية والثقافية، خاني بالنسبة إلى الكرد أكثر من أديب ملحمي وشاعر بل يتعدى حدود الأدب ويصل إلى مرتبة فيلسوف ومؤسس روح الوطنية عندهم، وقد قال السيد ع . أ . في احدى كلماته حوله مايلي " أنا أطبق ما مثله أحمد خاني".....
يعتبر خاني ثورة في الأدب الكردي، حيث أكسب الأدب نوعية جديدة غير مألوفة حتى تلك المرحلة وخصوصاً من الناحية السياسية والعواطف الوطنية الداعية إلى حل المسائل السياسية الحاصلة في جغرافية كردستان. لقد تمكن خاني من وضع يده على المشاكل الاجتماعية والسياسية في تلك الحقبة واقترح حلولاً واقعية وعلمانية لها، على الرغم من إنحداره من المدارس الدينية إلا أنه تجاوز ثقافة المدارس ووضع كل إمكاناته الذهنية في خدمة تحليل وتصوير الوضع الاجتماعي والطبقي ـ السياسي في كردستان عبر شخصيات ملحمته الشهيرة (مم وزين)، أهم آثارها الأدبية هي مم وزين وعقيدا إيمانة ونوبارا زاروكان وكما كتب بعض الدراسات حول الشعر في كردستان. لقد إستطاع خاني من شرح فكره وفلسفته وعواطفه وخصوصياته الشخصية عبر أدبه....
لاشك بأن مم وزين هي أهم أثر أدبي في الادب الكردي الكلاسيكي وهي ملحمة الكرد القومية الأولى من نوعها، هذه الملحمة إقتبسها أحمد خاني من الملحمة الكردية الشعبية مم آلان ونرى بأن خاني قد تمكن من تحويل هذه الملحمة الشعبية الشفهية الدرامية والغزلية بنفس الوقت إلى ملحمة كتابية ذات أبعاد جديدة شكلاً ومضموناً.
عندما نقرأ مم وزين نلاحظ فيها البطولة والخيانة والإنتهازية والعشق والتضحية والإنسانية وروح الوطنية والمفاهيم السياسية والغضب والحب والعادات الشعبية والمناسبات الإجتماعية إلى جانب الفلسفة الزهدية المستكية والغزل والدراما. يكسب خاني بعداً جديداً للعشق، بعد أن كان الكرد يفتقرونها في أدبهم وحياتهم وهي عشق الوحدة وحب التعاون الاجتماعي. لقد صور خاني في شخصية بكو عوان (بكر) الخيانة الاجتماعية والوطنية والفتنة بين الناس، وكما صور في شخصية مم وزين الوحدة بين جميع مكونات الشعب وضرورة حبهم لبعضهم إلى درجة العشق والتضحية من أجل بعضهم. وكما صور في شخصية تاجدين ذلك الشعور الحي من أجل التضحية والفداء في سبيل وحدة الشعب وقيمه. و صور في شخصية جكو وعارف تلك الروح البطولية الشعبية لدى الكرد، وكما صور في شخصية مير (الأمير) تلك السلطة التي تقع تحت تأثير الخيانة والفتنة ولاتعرف الصح من الخطأ إلا بعد فوات الآوان وتلعب سياساتها الخاطئة بوحدة الشعب وحبه وتعاونه الاجتماعي.
لقد أكد خاني بأنه جعل من مم وزين وسيلة شرح مايدور في عقله وقلبه، ويمكن أن نرى هذه الحقيقة في السطور التالية:
Şerha xemê dil bikim fesane
Zîn û memê bikim bihane
Nexmê we ji perdê derînim
Zîn û memê ji nû vejînim
Meêlûl bûyîn hebîb û aşiq
Îro he wekî tebîbê haziq
Derman bikim ez ewan dewa kim
Van bê mededan ji nû ve rakim
وتعني بالعربية مايلي:
"أجعل الألم القلب ملحمة (مفهومة)
أجعل مم وزين حجة
هكذا أخرج النغمة من البردة (من آلة الموسيقا)
أحيي مم وزين من جديد
الأحباء والعاشقين أصبحو معلولين
اليوم مثل الطبيب الحازق
أعالجهم أنا، أداويهم
من جديد أحيي هؤلاء المساكين"
إذاً أراد خاني إحياء العشق والمحبة من خلال مم وزين بعد أن رسم طريق الوصول إليها وعالج الموضوع مثل حكيم وعارف، وبهذا خلد العشق والمحبة بين المجتمع الكردي من خلال الأدب والفن، بعد أن إبتعد الناس عن المحبة وتحولوا إلى مرضى معلولين. وقد حول خاني هذه الملحمة إلى أداة لإحياء الإنسان الكردستاني وخلق عاطفة التعاون والمحبة ضمن المجتع.
ـ لقد حاول خاني البحث عن الجواب للأسئلة الحيوية المتعلقة بوضع المجتمع الكردستاني مثل، لماذا هذه التجزئة بين الكرد، لماذ لم يتحولوا إلى سلطة سياسية في وطنهم، لماذ لم تظهر قيادة سياسية تاريخية ناضجة ضمن المجتمع؟ وإلى آخره...
وقد تناول هذه المواضيع كلها في مم وزين والسطور التالية هي تعبير عن ذلك:
Ger dê hebûya me patîşahek
Layîq bidiya xwedî kulahek
Teêyîn bibûya jî bo wî tezhek
Zahir vedibû ji bo me bextek
Hasil bibûya ji bo wî tacek
Elbete dibû me ji rewacek
Bifikir ji ereban heta ve gurcan
Kurmanc çi bûye şubhê bircan
Ev rom û ecem bi wan hesarin
Kurmanc hemî li çar kenarin
Herdû terefan qebîlên kurmanc
Bû tîrê qeza kirine armanc
يعني مايلي بالعربية:
" لو وجد لنا ملكاً،
لو رأينا حكمداراً لائقاً
عين لنا عاصمة
يظهر لنا بختاً
جعل له تاجاً
لاشك صار لنا أيضاً رواجاً."
"فكر من العرب حتى الجيورجيين،
مثل الأبراج،
هؤلاء الروم والعجم تسترين بهم.
الكرمانج كلهم في النواحي الأربعة،
كلا الطرفين حولوا قبائل الكرمانج."
إن أفكار خاني حول ضرورة وجود أمير أو حكمدار قوي عقلاني يستطيع أن يبني عاصمة وحكومة قوية موحدة ويفتح الطريق أمام التقدم من جميع النواحي حتى من ناحية الآدب، تشبه أفكار ميكافيلي ( في كتاب الأمير). لأن ميكافيلي أيضاً دعى إلى إدارة ملكية قوية عاقلة فاعلة متيقظة تستطيع وضع زمام الأمور في يدها وتوحيد جميع الإدارات المجزأة في بوتقة واحدة منسجمة في إيطاليا وذلك في نفس المرحلة التي عاش فيها احمد خاني. إن خاني يدرك بشكل عميق بأن إنتشار الأدب ورواجه مرتبط بنهضة وطنية قومية ووحدة سياسية في كردستان.
إن خاني استعمل كلمة " الكرمانج" بدلاً من كلمة "الكرد" ونحن هنا نود أن نشير على أن كلمة " الكرمانج" لها مغزى سياسي وطبقي وشعبي إلى جانب مغزاها اللغوي واللهجوي. معروف بأن الكرمانج هم العامة "الفئات الشعبية" من مكونات المجتع الكردستاني وهم يختلفون عن الأرستقراطيين (الفئات الحاكمة) في المجتمع من الناحية الاقتصادية وطبعاً من حيث إسلوب المعيشة. وأن الضحية الأساسية لأوضاع كردستان السلبية والمأساوية هم هذه الفئات الشعبية المعروفة بـ كرمانج.
لقد أشار خاني على أن الكرمانج تحولوا إلى قلاعاً وأبراجاً لغيرهم في جميع الأماكن المحيطة بوطنهم، وهم محاصرين من قبل الروم (العثمانيين ـ الكرد يسمون جيش العثماني بـ عسكرة رومة) والعجم (يقصد بهم الصفويين في إيران) وتحولوا على يدهم إلى أهدافه لأسلحتهم أو جيشهم الغازي. أي أن قبائل الكرمانج (الكرد) وقعوا فيما بين نارين، نار العثمانيين ونار الصفويين وهم في الوسط. طبعاً يصور خاني مرحلة حرب الإمبراطوريين على كردستان واتفاقهم في نهاية الأمر على أثر معاهدة قصر شيرين وتقسيم كردستان إلى قسمين في سنة.....1536
لقد خلق احمد خاني في ملحمة مم وزين الشخصية الكردية وخصوصياتها الاجتماعية السلبية والإيجابية ومسألة الدولة والوحدة السياسية والعوائق التي تقف أمام هذه المسائل من الناحية الروحية والسايكولوجية والذهينة. وكما أشار بلغة أدبية وبأسلوب مجازي أحياناً والمباشر أحياناً أخرى إلى التجزئة ضمن المجتمع الكردستاني وتحولهم إلى لعبة بيد الغير وعدم تحركهم ضمن إطار استراتيجبة واحدة والصراع فيما بينهم في تلك الحقبة من الزمن.
وقد صور هذا الوضع في الأبيات التالية:
Lew pêkve hemîşe bê tifaqin
Daîm bi temerid û şîqaqin
Ger dê hebûa me ittifaqek
Vêkra bikira me inqiyadek
Tekmîl dikir me dîn û dewlet
Tehsil dikir me ilm û hikmet
Temyîz dibûn ji hev meqalat
Mimtaz dibûn xwedan kemalat
يعني مايلي بالعربية:
"لأن الجميع غير متفقين مع بعضهم البعض،
دائماً منقسمين ولايطيعون بعضهم البعض،
لو كان يوجد لنا إتفاقاً،
عملنا مع بعضنا إنقياداً،
كنا كملنا الدين والدولة،
كنا قد حصلنا العلم والحكمة،
لتمييز كل المسائل عن بعضها البعض
ولأصبح ممتازين أصحاب العرفان والفضيلة."
إن خاني يضع يده على لب المشكلة وكأنه يعيش في هذا العصر أيضاً لأنه يؤشر بوضوح تام، بأن الكرد غير متفقين ولا يتوحدون ولا يطيعون بعضهم البعض، ولولا هذا كله وإذا حصل إتفاق بينهم فإن الدين سوف يأخذ مجراه الصحيح المثالي وليس الخاطئ، كما أن الدولة تشكل شكلها المثالي (المكمل) وكنا قد وصلنا إلى درجة استخدام العلم في حياتنا واتخاذ الفلسفة كنهج للفكر، ولتمييز كل المواضيع عن بعضها البعض وسلم كل واحدة منها في مجراها المناسب دون تعقيد مع هذا كله فإن أصحاب العلم والفكر والفضيلة والقيم يصلون إلى درجة ممتازة قديرة ومستحقة.
إن احمد خاني لايحل مسائل عصره بل أعطى الحلول لمشاكلنا الحالية أيضاً. لأن حالة انعدام الإتفاق والإنقسام والتشرذم وعدم الطاعة لبعضهم البعض وعدم اتخاذ موقف صحيح من الدين أو فهمه بشكل سلبي وهدام وعدم وجود موقف مناسب يتفق مع طبيعة التطورات الكونية من الدولة كلها موجودة في يومنا أيضاً ولم يتم حلها بشكل تام أو مناسب.
إن خاني إلى جانب تحليله للجانب السلبي من خصوصيات المجتمع الكردستاني فأنه أشار بنفس الوقت إلى جوانبه الإيجابية وحللها من نواحي عدة. يقول خاني بأن الكرمانج (الكرد) بشكل عام ليسوا جهلاء أو محرومين من القيم والفضيلة لكنهم محرومين من الإمكانيات والأرضية اللازمة والقيادة الحكيمة لذا لم يستطيعوا أن يحولوا فضائلهم ومعرفتهم وإنسانيتهم إلى نظام له رسمية وسلطة جيدة، أي أن الكرد لديهم مفكرين وعظماء إلى جانب فضائل وقيم كبيرة، إلا أنه لم يتهيأ الظروف اللازمة لبروزها إلى السطح، بسبب فقرهم وحرمانهم من مجموعة نخبوية تقودهم إلى بر الأمان. يمكن أن نفهم هذا كله في السطور التالية:
Kurmanc ne pir dibê kemalin
Fil – cimle ne cahil û nezanin
Belkî di sefîl û bê xwedanin
مامعناه بالعربية:
" الكرمانج (الكرد) ليسوا محرومين كثيراً من الفضيلة
جملة ليسوا جهلاء
قد يكون فقراء وبدون وجهاء
إن خاني يرى في الكرمانج أي العامة أو الفئات الشعبية أناس فقراء وبدون قيادة، ولكنهم يملكون الوعي والعرفان والقيم والمثاليات الإنسانية، فإذا سنحت لهم الظروف، فأنهم سوف يثبتون فضيلتهم، هنا إنحاز خاني إلى جانب العامة (أي الشعب والأكثرية) وليس الأقلية الحاكمة التي ليس لها هم سوى مصالحها. وكما أكد خاني هذا الانحياز السياسي والاجتماعي والطبقية في السطور التالية:
Ema ji ezet xwedê wisa kir
Ev rom û ecem li ser me rakin
Tebîêta wan eger çi are
Ew ar li xelqê namîdare
Namûse li haiim û emîran
Tewan çiye şaîr û feqîran
بما معناه:
أما من الأزل جعل الله هكذا
جعل هؤلاء الروم والعجم حكاما علينا
طبيعتهم ولو كان أي عار
فإن ذلك العار له معنى على الملأ
ناموس على الحكام والأمراء
ماهو ذنب الشعراء والفقراء
إذاً أشار خاني إلى المراحل الطويلة لحكم الروم (العثمانيين) والعجم (الصفويين) على كردستان، وكأنها أزلية وقدرة إلهية! وكما وضع المسؤولية على عاتق الحكام والأمراء الذين يتمسكون بزمام الأمور ولهم تأثير في مجرى الأحداث. وبالمقابل يسأل خاني عن ذنب الشعراء وعامة الشعب أي الفقراء في وصول الوضع إلى نقطة مأساوية وسلبية، فيرى بأن هذه الفئات (أي الأدباء والعامة) ليس لهم ذنب، لأنهم يريدون كل الخير والحرية لبلدهم ولكنهم لايستطيعون التأثير على مجرى الأحداث بسبب عدم سيطرتهم على زمام الأمور في المجتمع.
إن خاني أشار في أثره المسماة بـ طرفة الأطفال بإنه لم يكتب للأرستقراط والفئات الحاكمة النخبوية بل لأطفال الكرمانج (عامة الشعب).
أي يهمه أطفال الشعب الكادح وليس النخبة الأرستقراطية.
هذه السطور التالية تكشف لنا هذه الحقيقة:
Ev çend kelîmene ji luxatan
Vêk xistain ehmedê xanî
Navê nûbara piçûkan lê danî
Ne ji bo sahib rewacan
Belkî ji bo biçûkêt kurmancan
لا شك كلمة الكرمانج تعني هنا كما سبق وقلنا، الفئات الشعبية من المجتمع والتي لاترتبط بروح العشيرة كثيراً وهم الرعية على الأغلب بينما كلمة "صاحب رواج" الموجودة في السطر الرابع فهي تعني رؤساء العشائر الأرستقراطيين. وتعني هذه السطور بالعربية مايلي:
هذه عدة كلمات من اللغات
جمعها احمدى خاني
سماها طرفة الأطفال
ليس من أجل أصحاب الرواج (أصحاب الجاه)
قد يكون لأطفال الكرمانج
وكما رسم احمد خاني صورة للحاكم أو الأمير المثالي في أثره طرفة الأطفال "نوبارا بجوكان، وأكد على أن الأمير الجيد عليه أن لا يكذب ولا يتكلم خطأً مهما كانت الضغوطات ومهما كانت الظروف. لأن القائد أو الأمير يستطيع أن يكسب احترام وحب الشعب بهذه الخصوصية (الصراحة والشفافية) حسب خاني ونود أن نشير بأن فكرة خاني حول خصوصيات الأمير يتناقض مع فكرة ميكافيلي في هذه المسألة وكما يتناقض مع فكرة أفلاطون الموضحة في كتابه " جمهورية أفلاطون" لأن أفلاطون أيضاً يرى مشروعية الكذب عند الشخصية الحاكمة أو الأمير في ظروف معينة بحجة "حماية مصالح الدولة العليا".
في النتيجة، نظام الفكر البارز في أدب خاني وتستند إلى النمط الغربي والشرقي معاً، فمن حيث النظرة التصوفية ـ الزهدية والإنسانية إلى المسائل فهي شرقية النمط، وأما من حيث النظرة العلمانية والطبقيةـ الاشتراكية والتقدمية إلى المسائل فهي غربية النمط فهو جمع بين ميكافيلي ( من بعض الجوانب) ومحي الدين العربي من ناحية، وكما جمع بين زردشت وطاليس من ناحية أخرى، أي جمع بين وحدة الوجود والديالكتيك وفلسفة الطبيعة والحداثة السياسة، يمكن القول بأنه مركب لأفكار متناقضة من بعض النواحي ومتجانسة من النواحي الأخرى. إن خاني يطرح مشروعاً سياسياً وفكرياً واجتماعياً حديثاً حسب زمانه ومكانه والظروف المحيطة به.
يقول السيد ع . أ حول أ. خاني مايلي: في إحدى كلماته حول الأدب "لايوجد عشق بدون وطن، بدون سلطة الشعب لايوجد عشق وحب الحكاية تثبت ذلك {يقصد مم وزين، الإشارة هنا}. أراد احمد خاني فعل شيء ما قبل 300 عام . في القرن السابع عشر، مرحلة الحروب الوطنية والديمقراطية، هذه السنوات تشكل بداية لنمو روح الوطنية. نمت في أوربا وحتى في الشرق الأوسط، كان هناك ضرورة لمثل هذا الروح في كردستان. وقد أثبت أحمد خاني. وهو يقول: "لو كان لنا وطنا وسلطة، لما سقطنا تحت سيطرة الترك والعجم و ....." . هكذا إذاً العيش على ذلك والقيام بالنوروز والعشق نظرة صحيحة، هذا خيال تقدمي".
إن المدرسة الأدبية لأحمد خاني استمرت في تأثيرها على الأدباء حتى يومنا هذا، كعماد أساسي للأدب الكتابي في كردستان، وقد استمر بعد خاني جملة من الأدباء على هذا المنوال، منهم علي ترموخي ونالي وقادر كوي وغيرهم.
 
أعلى