الحقيقة في الفن والفن في الحقيقة

الفن يعتبر من احد الدعائم الأساسية لحقيقة الحياة الاجتماعية وبحوثاته.
جيهان أرن
بداية صائبة لحياة جديدة في يومنا الراهن، تمر من تثبيت قوة تناول تاريخنا الاجتماعي بأسلوب جديد في الشرق الأوسط. حيث أنها تساعد الإنسانية على إدراك الماضي عبر الحاضر بسهولة، كونها سجلت كل ما يتعلق بها في ذاكرتها الاجتماعية. كما أنها ستؤمن السهولة في تناول مدخراتنا التاريخية بنمط جديد. فالشيء الواجب علينا أن نتخلص منه هو مرض إحياء كل شيء من اجل الحاضر "اللحظة" فقط. فمبدأ الذاكرة الاجتماعية "التاريخ هو الآن"، سيمكننا من تطوير أسلوب جديد وسيصون إصرارنا في البحث عن الحقيقة. فالأسلوب الجديد لحياة جديدة يعني في نفس الوقت البحث عن حقيقة جديدة أيضا. فكل بحث يؤثر على الحياة، يؤثر على كافة الساحات الثقافية أيضا. كما انه يعنى في نفس الوقت انضمام الساحات الثقافية إلى كل بحث جذري جديد. وبهذا المعنى فان الفن أيضا أصبح قوة ريادية للإنسان في بحثه عن الحقيقة. وهذا بدوره يتطلب معرفة دور الفن في بحث الإنسان هذا وعلاقته بظهور الحياة الاجتماعية وأسباب نشؤها والغايات من ميادين وجودها التي اكتسبتها الوجودية وعلاقته بهوية المجتمع الأخلاقية والسياسية. فالفن؛ المسؤول عن تحويل الحياة المادية الاجتماعية إلى حياة معنوية وتحويل المعنوية إلى رموز وقيم مادية، ذو طابع ينطوي على الحياة الاجتماعية بأكمله. حيث أن نهج التعبير الفني يستلهم من الحوادث الحياتية. وبتفننها يخلق منابع الهام جديدة لأبحاث جديدة في المجتمع. هذه الخاصية ساهمت بان يكون الفن معني بساحات الحياة الاجتماعية كافة. وبالتالي فان الحياة الاجتماعية ذات صلة وثيقة مع الفن أكثر من الميادين الثقافية الأخرى، هذه الصلة الخاصة تُغذي وتتغذى.
لماذا وجد الإنسان ضرورة صنع الفن؟ ما هو الشيء الذي رغبته الإنسانية تعريفه من خلاله، وكيف؟ نعلم بأنه كتبت مجلدات مملوءة بكتابات متعلقة بالفن حول هذه الأسئلة وأسئلة أخرى قبل الآن بكثير. إن ادعاء الفنانين المحترفين في راهننا والذين يتظاهرون بإصرار شديد في هذا الموضوع بقول أنهم قالوا كل ما هو واجب قوله، وأغلقوا الدفتر المتعلق بهذا الموضوع منذ أمد بعيد، وان الأسئلة رغم ذلك نابع من جهالتنا، سيقومون بإثبات وجودهم من خلال فنونهم ولغتهم الأدبية. بلا ريب هناك بعض الأجوبة المعلومة لسؤال: لماذا الفن؟. إلا انه من الواضح؛ بان هذه الأجوبة فتحت الطريق أمام ضمور الحقيقة التي حاول الإنسان البحث عنها وتعريفها بالفن. خاصة عندما نرى اللافن الذي عاشه مجتمعات الشرق الأوسط، يمكننا أن نرى بسهولة بان الفن لم يمارس أو يعرف بصواب. مثلا، ألا يمكننا تسمية ما يعيشه الشعب العربي بتراجيديا من بعدما كان يقود فن وثقافة الإنسانية لآلاف السنين؟ أليس لهذا صلة مع البقاء من دون فن؟ بإيجاز عندما ينحط من شأن الفن، أفلا مفر من البحث عن الفن الذي له علاقة عضوية بالحياة الاجتماعية وخاصة في منطقتنا؟.
إن حقيقة الإنسان يكمن في تاريخه الاجتماعي. وانه مجبر على البحث عما يريده فيه. هكذا لم يثبت بوجود آلية أخرى غير المجتمع يستطيع الإنسان من خلاله أن يّكون حياته. حتى وان كانت قد تم خسارة الكثير من الأشياء بخصوص الحقائق المتداولة حول الفن كما في الميادين الأخرى للثقافة، فمن دون شك ان سببه نابع من خسارة أو انتهاء الحياة الاجتماعية التي تعتبر من أهم المصادر الأساسية للفن. إلا أن حيوية وجمال الفن مرتبط بالحقائق التي خلقتها الفن ضمن المجتمع. لهذا السبب ليس من السهل اعتبار أو القول بان كل ما تم معايشته ضمن الحياة الاجتماعية سيتم معايشتها ضمن الساحة الفنية أيضا، لان الفن يعتبر من احد الدعائم الأساسية لحقيقة الحياة الاجتماعية وبحوثاته. حيث ان طبيعته تدفعنا إلى التصدي لابتعاد الإنسان عن حقيقته عند الإحساس بها أو رؤيتها لأنها تمثل الحياة الحرة. الأعمال الفنية هي نفسها تلك الجمل التي تتلى علينا وتكسبنا القوة. ففي المراحل التي بدأت فيها الحقائق بالزوال ضمن التاريخ، تحول الفن في بعض الأحيان إلى خنادق يتم الاحتماء بها وفي بعض الأحيان إلى مقاومات وعصيانات على ذرى الجبال. حيث أن الفنون الشعبية تعتبر من احد الأمثلة التي تثبت هذا بشكل نقي ومذهل. في هذا الموضوع بالذات نعلم مدى غنى الفن الشرق الأوسطي على وجه الخصوص. ففي يومنا الراهن نجد حركة الادباء والفنانين في منطقتنا على عكس هذا الميراث، أدى بشعوب منطقة الشرق الأوسط بان تبتعد عن حقيقتها. فان وصول الكثير من القيم المعنوية وفي بدايتها الإسلام إلى الحضيض، نابع أيضا من قضاء أناسنا على الحقائق ضمن الساحة الفنية.
كما هو معلوم ان الإبداعات الفنية تقدم أكثر الإمكانات غنى من ناحية الأبحاث الجديدة ضمن القيم الاجتماعية. لهذا السبب فان الانتاجات الفنية ستصون متابعتنا وإحساسنا بفكر وعاطفة وثفافة وتاريخ المجتمع، كما أنها صاحبة مكانة لها القدرة؛ ليس فقط على توضيح ما الذي تم معايشته من سعادة وآلام وكذلك من قبح وجمال؛ بل لها القدرة على توضيح كيف تم معايشتها بشكل مذهل وضاربة للنظر أكثر. من الواجب عدم الاعتبار بأنه كان للفن مكانة استثنائية ضمن كل الأساليب التي استخدمها الإنسان بخصوص بحثه عن الحقيقة، أمر مبالغ فيه. الفن كان لغة المجتمع في المرحلة التي لم يتم فيها اكتشاف الكتابة بعد؛ حيث أن الصور ونمط الألحان المقدسة الأولى للإنسان تفيد هذا بكل وضوح.
إن أول شيء من الواجب قوله من اجل الفن هو انه يمثل حقيقة "جمال" الحياة الاجتماعية. من هذا المنطلق فان الحياة الاجتماعية ليست فقط عبارة عن بنية مادية، إنما وسيلة من اجل ولادة الفن. فالفن تقابل جهد الإنسان المعنوي في تعريف وإعطاء المعنى لذاته. حيث أن الساحة الفنية التي تعتبر ميتافيزيقية بالكامل، هي أفضل إثبات في عدم قدرة الإنسان على التعبير عن حياته من خلال القواعد الفيزيائية والظواهر المادية فقط. فالفن يدفع الإنسان إلى الغوص في بحر الإدراك عن طريق قوة العقل والعواطف التي خلقها من دون إن يلمسها وعاشها من دون أن يراها. فالفن كبوابة الأمل المفتوحة لمعرفة سر حيوية الحياة، والحياة التي لم تُعرف بالشكل التام وهي تعاش. هذا الوضع يعرض لنا إمكانيات أكثر من الميادين الأخرى للحقيقة بخصوص تعريف طريق خلق الحقيقة التي تمثل الحياة الحرة من خلال العملية الفنية، وطريق الخلاص من السيناريوهات الخاطئة المتعلقة بالحقائق.
إن الحياة الاجتماعية هي حياة أخلاقية وسياسية. " الأخلاق، تعبر عن تحقيق كافة النشاطات الاجتماعية وفي بدايتها الاقتصادية بأسلوب مناسب أو جيد،. الحقيقة هي كل شيء تعبر عن الاجتماعية. وان كل شيء أخلاقي هو في نفس الوقت اجتماعي. "إن كانت مهمة أو دور الأخلاق هي تأدية الأعمال الحياتية بأفضل الأشكال، فان مهمة السياسة أو دورها هي إيجاد أفضل الأعمال". حيث ان الفن ولد كجزء من الحياة الاجتماعية. للإجابة على سؤال "لماذا الفن؟"، من الواجب في البداية معرفة مكانة الفن ضمن السياسة والأخلاق التي تمثل الحياة الاجتماعية بذاتها. إن إعطاء الجواب لهذا السؤال يساعدنا على تجاوز المشاكل الراهنة في منطقتنا. ففي يومنا الراهن من الواجب على فناني الشرق الأوسط أن يلعبوا دورا طليعيا لمجتمعاتهم أكثر من غيرهم عبر التحلي بالأخلاق الاجتماعية والسياسية. وخاصة ان شعبنا هو بأمس الحاجة الآن إلى فنانين اصيليين وكُتاب حقيقيين للأدب أكثر من أي وقت مضى.
إن المهمة الأولى الموكلة للفن للبحث وإيجاد "أفضل الأعمال" وحث المجتمع على القيام "بأفضل الأعمال"، هي ان تكون لغة الإبداع والعملية "جيدة". يمكن ان يتم اعتبار تحول الفن إلى لغة ضمن البحث عن الحقيقة وحقيقة المصدر التي تلبي حاجة المجتمع إلى تلك اللغة كأول قاعدة. لغة الفن التي تفوق لغة المحادثة، هي أسلوب توضيح تعبر عن معناه الأصح. فالفن مع هذه الخاصية جعل من الذين خلقوا اجتماعيتهم ان يلتقوا مع عواطفهم وأفكارهم بثقة. إن الأشياء "الجيدة" ضمن الحياة الاجتماعية، هي الأشياء التي تكسب الحياة الاستمرارية والأمان. والفن عليه ان يزيد من الأشياء "الجيدة" أو أنه يعبر عن حقيقة "أفضل" العمليات الأساسية للإكثار من الأشياء "الجيدة" ومن ضمنها الإمكانيات. حيث ان أكثر النشاطات الفنية للإنسان المبدع تستمد مصدرها من هنا.
يتم عرض الأساليب التي تم التطرق لها من اجل البحث وإيجاد "أفضل" حياة اجتماعية والتشجيع لها على أنها "جميلة"، وهنا يتم عقد علاقة وثيقة بين كل من"الأفضل" و"الجميل". حيث انه تم إعطاء مكانة لمبدأ "الجميل، هو المسيس" ضمن الحياة الاجتماعية بسبب هذه العلاقة. إن لم يتم إنشاء حياة اجتماعية بشكل "جيد" والبحث وإيجاد "الأفضل" وان لم تصل هذه إلى سوية يتم فهمها وتقبلها ما وجدت الحياة. إذن؛ ان جواب السؤال "لماذا الفن؟" يمكن ان يكون للحاجة الماسة إلى إنشاء حياة اجتماعية وتطويرها الجواب الأقرب إلى الصواب. فهي حقيقة حياة اجتماعية ويصون استمراريتها. حيث ان الفن انضم إلى هذا البحث عن الحقيقة من خلال بحثه "الأفضل" وأسلوب عملية جميلة، للبحث في خصوص تبضيع جوهر الفن. ولهذا فان الفن وصل إلى مرحلة أصبح فيه جزا أساسيا من الحقيقة الاجتماعية. وبالتالي فان الحياة الاجتماعية تحمل آثار المراحل التي مرت بها. لكون البحث عن ما هو "الأفضل": من إحدى مهماته، يقع على كاهله المهمة الأساسية والأولية ضمن مرحلة التغيير والتحول في المراحل الاجتماعية. إن الفن من خلال الإبداعات والخلقيات التي خلقتها للمجتمع يجلب معه غناً في المعنى. حيث ان كل عملية اجتماعية ترادفها عملية فنية. فالفن من خلال هذه الخاصية يعتبر أسلوب أساسي ضمن كل السبل والأبحاث المتطورة والتي تم التطرق لها من اجل الوصول إلى الحقيقة حتى الآن وانه في وضع له القدرة على الاستمرار في ان يكون العملية التي تكسب المجتمع القوة بمعناها الشامل والعميق ضمن المرحلة اللاحقة أيضا.
من هذا المنظور فانه يقع على عاتق جميع الفنانين والأدباء في الشرق الأوسط الكثير من الأعمال، لأنه في هذه المنطقة اختلط الجيد بالسيئ، والجميل بالقبيح، والخطأ بالصواب. إن وصول أهل هذه الأرض التي كانت المربية للإنسانية عبر آلاف السنين إلى وضع يفرض عليه الانحطاط من قبل الامبريالية الغربية والمتواطئين المحليين معها، تعني انه من الواجب علينا ان نعيد التفكير والنظر بهذا الوضع عميقا. يقال بان منطقة الشرق الأوسط منطقة تعمها الفوضى، هذا صحيح، إلا ان هذه الفوضى تعانيها الذهنية في الأساس. يمكن القول بان كل من الفنانين والأدباء هم المسئولون الأوائل في عدم السعي لإيجاد الحل لهذه الذهنية التي تعم بالفوضى رغم استمرارها منذ المئات من الأعوام. عندما نقول هذا لا نغض الطرف عن الضغوطات والمصاعب التي فرضت عليهم، الا انه لا يمكن قبول المواقف التي تفرض ذاتها في راهننا بأي شكل من الأشكال أو بأية حجة من الحجج، بوجود تاريخ نفتخر به وخلق من قبل الفنانين والأدباء من خلال تقديم البدائل، والمكتسبات التي تحققت بخصوص الفن، والثقافات المقاومة.
الفن هي عملية تذكير بالادخار الاجتماعية التي خلقت الحياة وطورتها وعظمتها. حيث ان الفن يحمل أو يمتلك خاصية تذكير المجتمع بما تم إحيائه. فالفن من خلال إحياء ما عايشه المجتمع باللغة الخاصة به من جديد، يقوم بتحقيق عملية التذكير. وهذا بدوره يجعله يشغل مكانة كبيرة في الذاكرة الاجتماعية. فمن خلال إضافة خلق شيء ضمن الحياة الاجتماعية إلى خاصية الإنسان الميتافيزيقية، يساهم في فتح الطريق أمام كبره وعظمته. وهذا بدوره يدفع بالفن بان يكون خالق عند تذكير عملية إحدى الانتاجات الفنية. إذن، ان عملية التذكير عن طريق الفن ليست بعملية تذكير تعني "إحياء اللحظات". فمن الواجب ان تساهم في تذكر الأشياء الجديدة والتي تحتوي على منفعة. إن كل شيء يساهم في فتح الطريق أمام الحياة يتم تعريفه في ذاكرة المجتمع بانه "الجيد" و"الأفضل". كما يعني في نفس الوقت الإبداع والتشكيل بأسلوب فني. في حين عندما يتم النظر إلى فناني وأدباء الشرق الأوسط على وجه الخصوص يرى وبكل وضوح عدم أحياء الذاكرة من خلال الفن لانقطاعهم عن ماضيهم. بلا شك من الواجب التوضيح ان كان مجازا ان الكثير من الفنانين والأدباء احترقوا، لسعيهم بان يكونوا وفق حقيقة الفن الإبداعية والخلقية. إلا أن الكثير من الفنانين والأدباء يتخذون من تقليد الغرب أساسا لهم رغم وجود الكثير من الأمثلة الايجابية. حيث ان هذا التقليد لا ينحصر فقط بأسلوب القصة الغربية، انما يحمل في ثناياه تأثير إيديولوجية استعمارية عميقة لتنفيذه بتأثير الاستشراقية. حيث أن السبب الأساسي في افتقاد الشرق الأوسط لهويته الثقافية في يومنا هذا نابع من تأثره بالرؤية الاستشراقية. حيث أن الاستشراقية تصون استمراريتها في منطقتنا عن طريق الفن والأدب. سيستمر نزيف الدم على ارض الشرق الأوسط وتدفق البترول إلى الغرب، مادامت الاستشراقية تصون استمراريتها فيه.
فالتطورات التي قادها كل من علماء وفناني الشرق الأوسط في المراحل الأولى ومراحل الحضارة من التاريخ، كانت تطورات قريبة دائما من الاجتماعية والفن الحقيقي. فالفن والأدب بدءا بالابتعاد عن جوهرهما أكثر، عندما بدا الحكام المهيمنين باستغلالها لسلطتهم في العهد الإسلامي، ووصل إلى الذروة في مرحلة الرأسمالية. هذه المنطقة التي قامت فيها الشعوب بإحياء المقاومة ضد استعمارية واستيلاء وغزو الدول العبودية عن طريق مقاومات بدنية، ثقافية، ملاحم، أمثال، حكايات، أغاني، دبكات شعبية، ومن خلال الزي المزركش الذي كانوا يتزينون به واللون الجبلي بكل فخر وعظمة وبتعبير فني. يسمى كل هذا بهوية وفن الشعوب. فالقيم الفنية والثقافية للشعب الكردي، وكذلك الحياة الثقافية للعشائر العربية تعتبر أفضل الأمثلة على ذلك. لمعايشة مجتمعات الشرق الأوسط حقيقة المجتمع الأخلاقي والسياسي بشكل قوي، ساهمت في أن تمتلك فرصة تقوي من إصرارها وعزيمتها في إكساب ميراثها الفني الغنى والاجتماعية رغم كافة الانطلاقات الحضارية المنحرفة. حيث أنها لا تستمد قوتها من الطرب الشرقي والميراث الفني فقط، بل أنها بالأغلب تستمد قوتها من قوة الظاهرة الاجتماعية والمناهضة للنظام التسلطي. أما السبب الآخر فيعود إلى المصدر الأصل للإبداع الفني لهذه الجغرافيا فمنطقة الشرق الأوسط تشكل مركز انطلاقة كل من المجتمع السياسي والأخلاقي والحضاري أيضا، الفن أيضا لعب دوره المفروض في بحث هاتين الصيغتين الاجتماعيتين عن الحقيقة. فالسومريين الذين يعتبرون أولى الأمثال في العبودية؛ استثمروا الإبداعات الفنية من دون حدود لتعريف أنفسهم، فبهذه الوسيلة استطاعوا أن يقوموا بإثبات نفسهم لأصحاب الفكر المختلف عنهم وتقديس مكانتهم. إن حكاية وقصة الفن هذه في الشرق الأوسط تبدو في ملاحم الشعوب ودبكاتها المتنوعة، ويمكن رؤيتها في الكتب على شكل نصوص مكتوبة بلغة شعرية وأدبية، وكما في فخامة وعظمة الأبنية المقدسة وفي موسيقاها الغنية بالمقامات، أي انه استطاع ان يستمر على هذا النسق من التطور.
لا يصح اعتبار الفن في الشرق الأوسط خاضع لسيطرة الحاكمين أو في خدمة أبحاثهم عن الحقيقة بالكامل، حيث ان الفن الشرقي اثبت وجوده بالبحث عن "الأفضل" في كل الأوقات. فلوحدة منبع ظهور كل من الفن والدين، إلا ان الأديان التوحيدية همشت الفن في مرحلة تمأسسها، لدرجة لم تعطي اعتباراً لوجوده "مادمتُ موجودا، فلا داعي لوجودك"، حقيقة لا يمكن إنكارها. فهذا الوضع دعك من استغلال الفن لخدمة النظام المهيمن، أصبح منبعا يعيقه من التطور والحاجة للإنتاج الفني. رغم ظهور وتغذي كل من الفن والدين من نفس الجذور، لكنهما لم يقبلا بعضهم البعض في كل الأماكن وفق المنطق. فالفن في جوهره يناهض الدينوية ضمن الدين، أي ان استغلال الدين لأجل مصالح الحاكمين وتسييسها يفتح المجال أمام فقدان الدين قدسيته. استخدام الحضارة الفن بكثرة لتقديس ذاتها ضمن المراحل العبودية على وجه الخصوص، ساهم في تشكيل أرضية ضمن الأديان التي تعتبر " الفن عمل آثم أو ذنب" تحد من التطرق إلى الفن والقيام بأعمال فنية. فلسعي الأديان التوحيدية إلى تخطي النظام العبودي، تعمقت ردود أفعال الأديان السماوية ضد الفن، وان منطقة الشرق الأوسط نالت نصيبها من ذلك.
تركت كل الفنون الأخرى للنسيان ماعدا الأدبيات والموسيقا والهندسة المعمارية التي تتوافق أو تتناسب مع فلسفة الدين التابعة لنظام السلطة المركزية. حيث تم منع كل من صنع الهياكل بالكامل والنقوش والزينة والنحت غيرها من الصور، لان السلاطين الساعين للوصول إلى الحكم عن طريق الدين يعلمون وبشكل جيد، أن لغة الفن هي اللغة الأفضل في تعريف القبح الذي ألحقوه بقداستهم. ففي يومنا الراهن يمكن وبكل وضوح رؤية بداية فناء حقيقة الحياة الاجتماعية اثر ضغوطات الدينوية والتي تمثل جوهر الوضع السيئ الذي حل بالفن في الشرق الأوسط. لا يمكن القول بأنه ليس هناك وجود لأية أبحاث مقابل زوال الحقيقة. حيث ظهرت خبرات وتجارب وغنى عظيمة من الحان وكلمات هذه الأرض، إلا أن بعد الابتعاد عن هذا الميراث والدخول تحت تأثير هيمنة الاستشراقيين، نرى بان كل "من الموسيقا وماعدا القليل القلة من الشعر" يتعرضون للفناء بالكامل.
فان ميراث الفنان الشرقي يظهر بحثه عن الحقيقة من خلال أشعاره وألحانه وكلماته ولم يتوانى في اية لحظة عن هذا، حتى ولو تم تمزيق جسده وحرقه وسجنه ونفيه مدى الحياة. حيث " لا يمكن التفكير في مجتمع بلا فن. وعلى العكس مما يعتقد فانه وأكثر من كونه نتاج النخبة، يجب فهمه على انه لغة الجواب الذي قدمه الشعب للميثولوجيات وللدين وللفلسفة، وأنه يعبر عن استيعاب الشعب للأفكار والأخلاق التي نتجت عن الإرادة والذهنية الرفيعة المستوى وسبكها في قوالب تحقق الانسجام. كذلك تتطور مختلف الفنون وتحصل على ميلادها عند تكوين الفرد؛ فالفرد والفن متلازمان وعندما يكون أحدهما موجوداً يلحق به الآخر. الفن يعني إنشاء أجنحة للذهن والروح، ويتحقق التحليق بدلاً من المشي. إذاً فالتحليق بالنسبة للمجتمع أو للحضارة يعني الحصول على القوة الجوهرية والسير نحو المجد."
لوجود التطورات التي تتوافق مع هذه التثبيتات ضمن مجتمع الشرق الأوسطي بشكل متقاطع، ساهمت في إعاقة لعب الفن دوره بشكل كامل. وعلى وجه الخصوص تم تجميد الفن أكثر اثر قيام الحاكمين بتسييس الدين الإسلامي بالكامل. حيث ان التخلف والافتقاد إلى اللون والتنوع الذي يطفي على وجه الحياة في الشرق الأوسط هو سبب ونتيجة الوضع الذي يعانيه الفن. بلا شك من الخطأ القول بأنه تم معايشة كل المراحل على هذه الجغرافية وفق هذا النسق. حيث سعينا إلى توضيح هذه الحقيقة بألوان مختلفة. كما لا نقول بان العهد الإسلامي كان كما هو عليه الآن بالكامل. مثلا بشكل عام لا يمكن اعتبار أبحاث بصدد الحقيقة التي تم معايشتها ضمن الأعوام المحصورة مابين 800-1200 بتطورات تصغر أو تهمش التعبير الفني. حيث من الواجب معرفة بان هذه المرحلة كانت المرحلة التي لم تكتمل فيها نهضة الشرق الأوسط أي انها كانت مرحلة مهمة بالنسبة إلى المنطقة.
ان الفارابي المؤيد للفكرة القائلة بان الإنسان له القدرة على الفصل بين الجيد والسيئ عن طريق العقل ضمن مفهوم الأخلاق، يقول بان الفلسفة التي تتجه نحو الصواب والتي تظهر الجيد والجمال للواقع هي التي تختلط ما بين العلم والفن. كما أوضح بان الصفاء والنقاء يطرأ على روح الإنسان من خلال هذا العمل وكما انها تكسب الإنسان الصفة الأبدية، وانه من خلال تعريف طريق الحقيقة بذل جهودا من اجل ان يكون صرخة هذه الجغرافية. حيث أوضح بان كل من الفلاسفة والعلماء والأنبياء أو الإداريين الحقيقيين والفنانين هم أوفر حظا من غيرهم للسير في هذا الدرب. إذن؛ وفق فارابي ان كل من الفلاسفة والعلماء الذين وصلوا إلى الصواب، والإداريين الحقيقيين الذين اظهروا ما هو جيد للواقع والفنانين الخالقين أو المبدعين للجمال أناس لا يختلفون عن بعضهم البعض. حيث ان هذا تعبير مسبق ومختلف لمبدأ "الكل هي الحقيقة" الذي سنراه ضمن فلسفة هيغل الذي طوره فيما بعد.
كما ان قول النورانيون الممتدوين بجذورهم إلى زردشت وماني: " ليس من العدل إظهار الجمال لمن ليس بأهل له " أثرت كثيرا على تطور ثقافة فناني الشعب في الشرق الأوسط. إن تحليل كل من الاكتشاف والرؤية والإلهام على أنها الطريق المفتوح للحقيقة يعتبر أساسا ضمن فلسفة "الشرقيين"، حيث أنهم قاموا بالتطرق إلى الشعر كأسلوب تعبير بكثرة ضد ضغوطات النظام الحاكم. فان السحر وردي الذي يعتبر من رواد هذه الفلسفة، كان باحثا يقتدى به من خلال أسلوب الشعر الذي كان يستخدمه قبل ان يفارق العالم المادي. حيث استخدم اللغة الشعرية بشكل رائع في دواوينه الشعرية. ليس فقط السحر وردي، حيث ان كل من منصور الحلاج، بستامي ومولانا وشمس الذين ظهروا من بعده حوالي ثلاثة قرون استخدموا هذا الأسلوب الشعري. تم قبول الشعر كآخر مرحلة من نهج المحاور الفلسفية في الفلسفة الشرقية.ان الشعر يعتبر صرخة الحرية والبحث عنه في عالم يسوده القمع والظلام
. ان حقيقة الشرق الأوسط مخفية في الأبيات الشعرية. كما يمكن رؤية البحث عن الحقيقة على هذا الأساس فيما بعد عند كل من فقي طيران، يونس امره، دادال اوغلو، وجكرخوين ومحمود درويش. إن استمرار هذا البحث عن الحقيقة على شكل ميراث اعاقته من التحول إلى رماد ضمن لهيب الحياة التي تحوي على معنى. إن كل هذه الأمثلة تظهر مدى امتلاك الشرق الأوسط بنى جذرية في بحث الفن عن الحقيقة، ويتوضح طابعه التحرري من خلال أشعاره. حيث أن هدفه هو الوصول إلى الحرية. فالفنانين الشرقيين عبروا عن مبدا "الحرية هي الإدراك" على وجه الخصوص ضمن أبياتهم الشعرية. إن هذا في نفس الوقت اثبات المقاومة التاريخية من دون انقطاع على طريق عشق الحقيقة. إن الشيء المهم؛ هو اطفاء الروح الحرة للحياة إلى هذا الميرات بشكل اقوى، والسعي إلى صون حيويته مجددا في راهننا من دون ان يخونونها، من الواجب ان يستمر ميراث العلماء والفنانين الذين خلقوا هذا الميراث.
الكثير من المتصوفين العظام أمثال "ابن العربي" وفي نفس الوقت الشعراء والكتاب الكبار تركوا "العشق" اللازم لولادة عالم الفن الأدبي للشرق الأوسط وتحديثه في يومنا الراهن. إن قول الرفيقة والشهيدة الفنانة "مزكين: " الأوتار تشبه الفصول الأربعة للكون" والكثير من الموسيقيين العظام أمثال الكندي وزرياب من خلال أعمالهم الفنية اظهروا مدى علو الفن في الشرق الأوسط.
مثلما أصبح الأسلوب الجديد للبحث عن الحقيقة امرا ضروريا، فمهمة الفن هي إعطاء كل من المجتمع والفرد الروح، وإكسابها الحيوية وإنشاء الذات طوال السير في هذا الدرب. إلا أن كل من الفردية والأنانية والمادية والابتعاد عن القيم الثقافية وغيرها الكثير من الأمور ما هي الا تعبير وصورة تعبر عن انقطاع المجتمع عن اجتماعيته. حيث يتم إحياء حقيقة النظام ضمن الفن أيضا. فمن خلال تمزيق أو تحطيم الفنون التي تمثل الفكر والعاطفة المشتركة لكل من التاريخ والمجتمع، يتم إبعاده من ان يكون حقائق أخلاقية وسياسية، حيث يتم تركه عرضة لرحمة بعض الشخصيات فقط. إن الفن الذي يعتبر إنتاج معنوي للثقافة، أصبح يقاس وفق الأشياء المادية بالأغلب كسلعة مادية ضمن احد الميادين الاقتصادية.
"حيث يتم استبدال كل من الأصوات الطبيعية، الألوان، والحوادث والظواهر الاجتماعية بما هو مصنع. أي أن الانتاجات الفنية وصلت إلى مرحلة يتم معرفة كيف ستنتهي عند سماعها أو رؤيتها كما هو الحال وفق قانون الحركة لدى نيوتن. لان بنية نظام الدولة القومية أطفت على كل شخص وكل الثقافات طابع واحد. ليس فقط في الشكل، حيث انه دفع بجوهر الإنسان إلى ان يشبه بعضه البعض من ناحية افتقاده إلى المعنوية. كما تشبه كل الأفلام السينمائية والتلفزيونية والموسيقا بعضها البعض.
"أما مكانةُ الفنِّ الاجتماعيِّ الذي يَسمو بعواطفِ الإنسان ويُجَمِّلُها ويَجعَلُها سِلميّةً مُسالِمة، فقد حُوِّلَت إلى نقيضِها تماماً. فالبورجوازيُّ الطّمّاعُ الذي لا يَعرِفُ قيمةً سوى مكاسبِ الربح، أفضى إلى تضليلٍ يعكسُ استغلالَ الجمالياتِ والسموِّ ومشاعرِ السِّلمِ وكأنه الفنُّ بذاتِه، في سبيلِ بلوغِ مآربِه. ولكي يتربعَ كلُّ إنسانٍ على الجائزةِ الموعودة، فكأنهم صُيِّروا كالخيولِ التي تَعدُو في حَلَبةِ سِباقِ الخيل.
بقيت العلومُ والفنونُ التي رَسَمَت الوضعيةُ إطارَها وجهاً لوجهٍ أمام سقوطِ أقنعتِها في التعبيرِ عن الحقيقة، بعدَما نالَت نصيبَها من أزمةِ ما بعد السبعينيات. إنه حَدَثٌ ذو صِلةٍ وثيقةٍ مع تَشَتُّتِ دوغمائيةِ الدولةِ القومية. ما حَصَلَ هو تنويرٌ ثانٍ في نقاطِ الظلامِ المتبقيةِ من التنويرِ الأول. بتقطيعِ الدولةِ القوميةِ للطبيعةِ الاجتماعيةِ بمشاريعِها الهندسية، لا تُفسِدُ الواقعَ الظواهريَّ فحسب، بل وتُعَطِّبُ إدراكياتِه أيضا. ذلك أنه لدى إفناءِ الظاهرة، يَغدو لا مَهرَبَ عندئذٍ من إلحاقِ الضربةِ بإدراكياتِها أيضا
النتيجةُ الأهم للحقائقِ المُعاشَةِ طيلةَ التاريخِ فيما يتعلقُ بالأزمةِ الاجتماعيةِ وحُلولِها، هي ازديادُ تَعَمُّقِ عمليةِ المعرفة، والشعورُ بالحاجةِ إلى ذلك. بهذا المعنى، فالعلمُ والفلسفة، بل وحتى الأديان والفنونُ قد تَطَوَّرَت مُرتبطةً عن كثب بالحاجةِ إلى الردِّ على احتياجاتِ الأزماتِ الاجتماعيةِ الثقيلةِ الوطأة." عبدالله أوجلان.
إن الشيء اللازم للفنانين والفن في يومنا الراهن، هو الإصغاء إلى الأصوات المقدسة التي تخرج من حناجرهم وفق مبدأ الوجود.
نقل هذا المقال من موقع الشرق الأوسط الديمقراطي.
 

كول نار

G.M.K Team
مقالة رائعه جدا مع انها طويلة
بس روعه كتير
شكرا لالك اخي مظلوم
 
أعلى