بين الإنسان والأتان
فرسخ واحد كان يفصل قريتنا ذات البيوت الخمسة عن أقرب قرية كبيرة فيها مدرسة ابتدائية . فرسخ من الأشجار والصخور والتلال والوديان لا يمكن أن يقطعه المرء إلا راجلا أو راكبا ظهر دابة .
حين بلغت سن المدرسة اشترى لي والدي أتانا , استيقظ في الصباح الباكر وألقي خرجا على ظهرها فيه كتابان ودفتر واحد ثم أمتطي متنها وألكز خصرها بكعبي قدمي فتسير باتجاه المدرسة , وهناك ألف رسنها حول جذع شجرة حتى تنتهي فترة الدوام حيث تعود بي إلى البيت .
في الربيع عندما كانت ترتدي الأرض ثوبها الأخضر المطرز بشقائق النعمان والنرجس والأقحوان كانت رقيقتي تدهشني وتفاجئني بامتناعها عن التبول على المروج المزركشة بمختلف أنواع الأزهار , فتسير حتى تجد أرضا جرداء فتتوقف وتفرد قائمتيها الخلفيتين وتحني مؤخرتها فأضطر إلى التعلق برقبتها بكلتا يدي كيلا أسحل وأسقط من على ظهرها , مستمعا إلى صوت رشق بولها وتنتابني موجة من الضحك حين كانت تطلق ريحا مصوتا من دبرها .
نعم , كانت تلك المخلوقة تعلم أن الأزهار وجدت لتزين الحياة بجمالها وشذاها , وجدت لتضفي على الطبيعة لمسة سحر , لا للتبول عليها .
ذكرياتي مع رفيقتي الحضارية تكاد تطن بين تلافيف دماغي كل يوم منذ فترة كلما جلست لمشاهدة التلفاز , حيث يكاد لا يمر يوم إلا وأجد فيه الإنسان وقد صنع لنفسه عفاريت تطير بسرعة البرق في السماء , ويلقي منها أطنانا من الحمم على رؤؤس الأزهار . منها لم يزل برعما يحترق قبل أن يتفتق , ومنها ذات بتلة أو بتلتين أو ثلاث ...
زهرة كنت عندما سقطت مرة عن ظهر أتانتي وطفق الدم ينزل من رأسي , فظلت واقفة بجانبي حتى توقف النزف لتسعفني إلى البيت , بينما أجد هذه الأيام من البشر من يصوب فوهة بندقيته باتجاه صدور الأزهار ويضغط على الزناد ويهدد ويقصف كل من يأتي لإسعافها ونجدتها .