كول نار
G.M.K Team
أمل دنقل ..
وتألمت على شاعرٍ عاش لأمته بنبضه وروحه حتى ذوى جسمه، وانبرى عوده ومضى كشمعةٍ تحترق ، آخر ما قاله : "لا حزن ولا بكاء فقد حزنت وبكيت في حياتي ما يكفى .. أوصيكم بأن تكتبوا على قبرى هذا قبر فلان ابن فلانه بن فلان وكل من عليها فان"، هذا هو أمل دنقل ضمير الشعر في عالم المادة.
حين يتحرر الشاعر من علائق الدنيا السطحية وينصرف إلى التبتّل في محراب الشعر حتى يلفظ أنفاسه وهو يصارع الظلم والفساد والمستعمر ولا يجد في جيبه ثمن الدواء ويكتشف مكفّنه بعد وفاته أن سرواله كان مشقوقاً، هذا هو الشاعر الملتزم وليس من يتزلّف السلطان والبلاط ويزحف أمام الدينار والدولار.
محيط : هانى ضوَّه
لم يكن أمل دنقل, ذلك القادم من الصعيد الأعلى بمصر, وما يحمله ذلك الصعيد من أثقال عنف وثأر, وبدايات تقدم ملتبسة, وما يحمله من هواّم ونأي, يشبه بلدانا عربية قصية, في تركيبته على أكثر من وجه, لم يكن بداية إلا صدى ذلك الصعيد ورجْعه وحنينه وصدقه، والذي سيكون رافداً من روافد الشعر المصري والعربي.
سمه الكامل أمل فهيم أبو القسام محارب دنقل ولد عام 1941 في قرية "القلعة" مركز "قفط" بمحافظة "قنا" فى صعيد مصر، والده الشيخ فهيم كان يعمل مدرسًا للغة العربية بالمعهد الديني في "قفط" وكان من خريجي الأزهر الشريف الذي حصل منه على شهادة (العالمية) عام 1940، والدته سيده ريفية بسيطة لم تنل حظاً من التعليم وكان "أمل" أكبر أخوته الثلاثة حيث تلته أخته "أمينه" ثم أخيهما الأصغر "أنس".
كان والده بحكم عمله جعل العائلة في حاله تنقل ما بين قرية "القلعة" وعمله بمدينه "قفط" فهو في فترة الدراسة يقيم بالمدينة ليعمل بالتدريس وحين تنتهي الدراسة يعود لقريته وهذا التنقل قد أثّر في طبيعة أمل كثيرا فيما بعد، نشأ "أمل" في بيت أشبه بالصالونات الأدبية، فلم يكن والد أمل مدرساً للغة للعربية فحسب، ولكنه كان أديباً شاعراً فقيهاً ومثقفاً جمع من صنوف الكتب الكثير في سائر مجالات المعرفة لذا فقد تفتحت عينا الصغير على أرفف المكتبة المزدحمة بألوان الكتب، وتأمل في طفولته الأولى أباه وهو يقرأ حيناً ويكتب الشعر حيناً.
لم يكد أمل يتم العاشرة من عمره حتى مات والده، وحرصت أمه الشابة الصغيرة التي لم تكن قد جاوزت النصف الثاني من عقدها الثالث على أن يظل شمل أسرتها الصغيرة ملتئماً، مع عناية خاصة توليها لمستوى الأولاد الاجتماعي من حيث حسن المظهر والتربية وعلاقاتهم بأصدقائهم.
إلتحق أمل بمدرسة "قفط" الابتدائية الحكومية التي أنهى بها دراسته سنة 1952 ثم التحق بمدرسة "قنا" الثانوية حيث زامل هناك مجموعة من الرفاق صار منهم فيما بعد الشاعر والمثقف والصحفي والسياسي .. فقد كان من أقرب أصدقائه إلى نفسه "عبد الرحمن الأبنودي" شاعر العامية الشهير و"سلامة آدم" أحد المثقفين البارزين فيما بعد و كان لهم الأثر الأكبر في تحويل مجرى دراسته الثانوية من القسم العلمي للقسم الأدبي.
لهذا كله ولموهبته الشعرية الباسقة لم يكد أمل ينهي دراسته بالسنة الأولى الثانوية إلا وكان ينظم القصائد الطوال يلقيها في احتفالات المدرسة بالأعياد الوطنية والاجتماعية والدينية، وهذه المطولات أثارت أحاديث زملائه ومناوشاتهم بل وأحقادهم الصغيرة أحيانا، فبين قائل بأن ما يقوله "أمل" من شعر ليس له، بل هو لشعراء كبار مشهورين استولى على أعمالهم من مكتبة أبيه التي لم يتح مثلها لهم، أما العارفون بـ"أمل" والقريبون منه فيأملون - من فرط حبهم لأمل- أن يكون الشعر لوالد أمل دنقل، عثر عليه في أوراق أبيه ونحله لنفسه شفقة على أمل اليتيم المدلل الذي أفسدته أمه بما زرعته في نفسه من ثقة بالنفس جرأته -في نظرهم- على السرقة من أبيه.
ولما أحسّ أمل من زملائه بالشك؛ تفتق ذهنه عن فكرة مراهقة جريئة وهي وإن كانت لا تتسق مع شخصيته الرقيقة إلا أنها فاصلة.. أطلق موهبته بهجاء مقذع لمن تسول له نفسه أن يشكك في أمل أو يتهمه، ولم يمض كثير حتى استطاع أمل دنقل بموهبته أن يدفع عن نفسه ظنون من حوله، ولما تفرغ أمل من الدفاع عن نفسه داخل المدرسة تاقت نفسه لمعرفة من هو أفضل منه شعرا في محافظته، فلم يسمع بأحد يقول بالشعر في قنا كلها إلا ارتحل له وألقى عليه من شعره ما يثبت تفوقه عليه، وكأنه ينتزع إعجاب الناس منهم أنفسهم.