إقليم غرب كوردستان و إستراتيجية التحرير (2)

G.M.K Team

G.M.K Team
إقليم غرب كوردستان و إستراتيجية التحرير (2)
مجتمعات الشرق الأوسط
د. مهدي كاكەیي
الثورة الكوردستانية في إقليم غرب كوردستان هي نتاج طبيعي للعولمة والتطورات الثورية في وسائل الإتصال و نقل المعلومات. إن الإنتفاضات و الثورات التي تكتسح الدول ذات الأنظمة الدكتاتورية و الشمولية و الفاسدة ستستمر الى أن تتم الإطاحة بالأنظمة الإستبدادية المتخلفة. هذه الإنتفاضات و الثورات الشعبية تحصل في مجتمعات متأخرة، عاشت في ظل أنظمة قمعية حالت دون تطور هذه المجتمعات فكرياً و إجتماعياً و إقتصادياً و سياسياً بصورة طبيعية لتتحول من مجتمعات أبوية رجالية زراعية قبلية متخلفة الى مجتمعات صناعية تتساوى فيها المرأة و الرجل و تحكمها القوانين بدلاً من الأعراف و التقاليد و تجتاز المرحلة الإقطاعية و العشائرية الى حيث مجتمعات منفتحة، و تؤسس أنظمة حكم ديمقراطية، تقبل الآخر المختلف و تنبذ إستخدام العنف و الإرهاب و الكراهية.
إن الأنظمة الشمولية التي حكمت هذه الشعوب لم تكتفِ بإعاقة تطور الأفراد و المجتمعات التي رزحت تحت حكمها، بل حرّفت مسار التغّيرات الفكرية و الإجتماعية و الإقتصادية و السياسية لهذه المجتمعات و خلقتْ منها مجتمعات مريضة عنصرية، تلجأ الى العنف و الإرهاب و الكراهية في سبيل تحقيق أهدافها، بسبب الإضطهاد و الإرهاب و التعذيب و السجون التي تعرضتْ لها هذه المجتمعات و الحروب المدمرة التي أُرغمتْ على خوضها إرغاماً و معاناتها من الجهل و المرض و الجوع.
نتيجة البيئة السيئة و المرعبة التي نمت و ترعرعت فيها أجيال عديدة من هذه المجتمعات و المعاناة التي عاشوا في ظلها، فأن هذه المجتمعات تحتاج الى أجيال عديدة لتصبح مجتمعات سليمة تتعافى من أمراضها الإجتماعية لتصبح مؤهلة للبدء بمسيرتها التطورية الطبيعية للعمل على تحقيق التقدم و الرُقي و للتمكن من التفاعل و التلاقح مع المجتمعات الراقية لتصبح جزءً من العالم المتحضر و المتقدم.
عليه يجب أن لا ننتظر حدوث المعجزات بعد نجاح الإنتفاضات و الثورات في المنطقة و لا يمكن تغيير هذه المجتمعات المريضة الى مجتمعات سليمة خلال بضعة أشهر أو بضع سنين. نتيجة الإرهاب و الظلم و الحروب و الحكم الشمولي و الكبت و الحرمان، فأن هذه المجتمعات تحتاج الى فترة نقاهة تمتد لعدة أجيال للتخلص من أمراضها. إن تغيير هذه المجتمعات إيجابياً يتم فقط في حالة توفر ظروف طبيعية لهذه المجتمعات لإستعادة وعيها و إرادتها و عافيتها، و إلا ستستمر عائشة في ظلام التأخر و التخلف.
مما سبق يمكن للمرء أن يُكوّن لنفسه تصوراً واقعياً عن الحياة السياسية لهذه المجتمعات التي تُزيح الأنظمة الدكتاتورية و الشمولية. قد يحاول العسكر السيطرة على مقاليد الحكم في تلك الدول لتثبيت الإستقرار فيها، إلا أن الحياة قد تغيّرتْ على كوكبنا و لا يمكن للجنرالات حكم الشعوب بإستخدام القوة و سيفشلون في مسعاهم مهما لجؤوا الى البطش و القوة و تجارب الإنتفاضات المصرية و الليبية و السورية تشهد على ذلك. قد يحاول السياسيون الكلاسيكيون من سرقة الثورات الشعبية، إلا أنهم عاجزون عن تحقيق ذلك لإفتقارهم الى مؤهلات تتيح لهم التفاعل مع التغيّرات الكبرى التي حدثت على كوكبنا الأرضي. الشباب القائمون بالثورة بدورهم جزء من هذه المجتمعات المتخلفة و تنقصهم الخبرة السياسية و متفرقون الى مجموعات متنافرة غير قادرة على التوافق و التوحد و بذلك فأنهم غير مؤهلين لقيادة هذه المجتمعات و حكمها بنجاح.
يكاد يكون كل دولة من دول المنطقة متكونة من مزيج من شعوب و قوميات و أصحاب ديانات و مذاهب متنافرة فيما بينها بسبب إنفراد فئة معينة، سواء كانت مجموعة قومية أو دينية أو مذهبية، بالحكم في هذه الدول لفترات طويلة و إضطهاد و محاولة إلغاء الشعوب و القوميات و الأديان و المذاهب الأخرى. على سبيل المثال، يعيش في سوريا، القوميات العربية و الكوردية و الأرمنية و الشركسية و السريانية و التركمانية، و بالنسبة الى الأديان، يعيش هناك المسلمون و المسيحيون و العلويون و الدروز و الإيزيديون و المذاهب، هناك السُنة و الشيعة.
المشكلة هي أنه بعد إنتهاء الحرب العالمية الأولى تم إنشاء كيانات سياسية مصطنعة في الشرق الأوسط، من بينها سوريا، حسب إتفاق سايكس – بيكو و بموجبها أُجبرت و حُشرتْ مجموعات عرقية و دينية و مذهبية، بخلاف إرادتها و لا تجمعها بالبعض سوى الجغرافية، في كيانات سياسية لم تتم إتاحة الفرصة لأصحابها لتتفاعل بعضها مع البعض لتكوين ثقافة موحدة و إيجاد مصالح و أهداف مشتركة تجمع هذه المجموعات البشرية و توحدها و تجعلها تشعر بالإنتماء الى هذه الكيانات السياسية الجديدة و قبول العيش المشترك.
التنوع العرقي و الديني و المذهبي سيكون من أهم العوامل التي تخلق عدم الإستقرار في الدول التي تنهار فيها الأنظمة الشمولية الإستبدادية بسبب تطلع الشعوب و القوميات و أصحاب الديانات و المذاهب نحو الحرية و التمتع بحقوقها، حيث أن هويتها و وجودها تعرضتا للإلغاء و الإنكار من قِبل الحكومات الدكتاتورية العنصرية. إنها كانت محرومة من حقوقها القومية و الثقافية و الدينية و المذهبية و لذلك كانت تعيش مع البعض ضمن هذه الكيانات السياسية بالقوة و الإكراه. الآن يختفي جبروت الحكومات الشمولية فتكسر هذه الشعوب و القوميات و الأديان و المذاهب قيودها و تناضل من أجل التمتع بحريتها و حقوقها التي كانت محرومة منها منذ أن أصبحت جزء من شعوب هذه الدول الجديدة التي ظهرت في المنطقة بعد الحرب العالمية الأولى.
الثقة المفقودة بين هذه المجتمعات العرقية و الدينية و المذهبية و تأخر المجتمعات في الدول النامية تجعلان الإستمرار في العيش المشترك لهذه المجتمعات المتنافرة أمراً مستحيلاً في الوقت الحاضر و في المستقبل المنظور. كما أن التركة الثقيلة التي تتركها الحكومات الشمولية بعد إنهيارها من تفشي الأُمية و الفقر و المرض و البطالة في هذه البلدان الى جانب الأمراض الإجتماعية، تجعل مُهمة الحكومات، التي تحلّ محل الحكومات المستبدة صعبة جداً و تواجه مصاعب كبيرة جداً في سعيها لتطوير هذه المجتمعات و الإرتقاء بها. العراق هو النموذج لكل الدول التي تُطاح بحكوماتها من قِبل الثورات و الإنتفاضات القائمة في المنطقة، حيث أنه منذ تخليصه من حكم البعثيين قبل أكثر من 12 سنة، لا زال يعيش في فوضى سياسية و يُتوقع أن تصبح الأوضاع فيه أسوء من الآن بكثير بعد مغادرة القوات الأمريكية للعراق، حيث إزدادت التدخلات الإقليمية في شئونه الداخلية و أنه مُرشّح لقيام حرب أهلية طاحنة فيه بين العرب و الكوردستانيين و السُنة و الشيعة الى أن تنبثق منه ثلاث دول جديدة. نتيجة إصطناعية دول المنطقة و تماسكها بالقوة و الإكراه و فقدان الثقة بين مكوناتها و تأخر سكانها، فأن إحدى نتائج الثورات و الإنتفاضات السائدة في المنطقة هي تغيّر الخارطة السياسية و الجغرافية لمنطقة الشرق الأوسط و إعادة تكوين كيانات سياسية على أسس قومية و دينية و مذهبية.
ملاحظة: أأمل أن تساهم الصديقات والأصدقاء، خاصة المثقفون و الأكاديميون والسياسيون في إثراء هذه السلسلة من المقالات التي تتناول غرب كوردستان بشكل خاص و كوردستان بشكل عام والتي تخدم شعب كوردستان. أرحّب بملاحظاتكم وإنتقاداتكم وأفكاركم و طروحاتكم لنكتمل معاً هذه الدراسة.
 
أعلى