نواح كردي في هيستنغز (د آلان كيكاني)

G.M.K Team

G.M.K Team
928.jpg




د آلان كيكاني





نواح كردي في هيستنغز






تجاوزت الساعة العاشرة ليلاً بينما كانت الأمطار تهطل غزيرة , والرياح تهب من الشمال تحمل معها نسمات متجمدة من جبال اسكوتلاندا المغطاة بالثلوج , هجعت الأسماك في أمواه مضيق دوفر , وهدأت النوارس القابعة على الصخور وأغصان الأشجار وهي تنفض قطرات المطر عن ريشها , أطبق السكون على الطرقات والأبنية , وسبح الناس في لجة أحلامهم , كانت أمواج بحر قناة الانكليز تدفع الصخور أسفل قلعة هستنغز الراقدة على أسرارها الغائرة في أعماف التاريخ , وعلى طول الشاطئ تتلألأ الأنوار وترسو سفن مختلفة الأحجام هنا وهناك تعلو وتهبط مع حركة الأمواج العاتية , وقوارب ويخوت تتراقص على سطح المياه مع هبوب الرياح . كان الهدوء يلف المدينةٍٍٍٍ إلا من حفيف الأشجار التي كانت تعبث الرياح بأوراقها وتلوي أغصانها وخرير المياه التي بدأت تشكل جداولاً صغيرة في شوارع و أزقة المدينة , وكانت السيارات توقفت عن المرور تماماً وآوى أصحابها إلى الفراش للاستيقاظ مبكرا والذهاب إلى العمل صباح اليوم التالي . كان ثمة مقبرة إسلامية صغيرة في إحدى زوايا البلدة مؤلفة من بضع قبور متلاصقة لضيق المكان المخصص لها . في ذلك الليل الكئيب من ليالي كانون الأول سنة 2004 دخل إلى المقبرة رجل و امرأة تجاوزا الأربعين من العمر , كانت المرأة ترتدي لباساً أسوداً وتغطي رأسها بحجاب اسود سميك والرجل يغطي جسده بمعطف شتائي طويل ويحتمي من قطرات المطر بشمسية كبيرة نصفها فوقه والنصف الآخر فوق المرأة التي كانت تمشي ملاصقة له . ما إن دخلا المقبرة حتى ألقت المرأة بنفسها فوق قبر صغير و أخذت تنوح بصوت حزين وتلمس الشاخصة وتمس الأحجار والحشائش فوق جسد القبر بحرقة و لوعة وكأنها تريد إخراج من بداخله لتعانقه بحرارة و ألم أو تدخل في أغواره لتسكن معه , وصوتها الكئيب يخترق جدار الصمت ويمتزج مع صوت تساقط قطرات المطر على أوراق الأشجار , وأنين الرياح , وحفيف الأشجار , لتعزف معا سيمفونية تراجيدية , أما الرجل , الذي كان يقف وراءها , ويده اليمنى القابضة على منديل لا تبارح عينيه , فقد كان يسمع صوت نحيبه هو الآخر بين كل زفير وشهيق من حنجرة المرأة كنواح ناي بين فصلين موسيقيتين في معزوفة كلاسيكية فارسية , وبينما هم كذلك دخل المقبرة شاب في أوائل العشرينيات , من زاوية أخرى غير الزاوية التي دخلا منها , كان الشاب طويل القامة يرتدي لباساً رسميا وربطة عنقه ذات عقدة كبيرة وفوق لباسه الرسمي يلبس معطفاً جلديا أنيقاً وبيده اليسرى مقبض المظلة وفي اليمنى باقة من الورود , لكن الشاب سرعان ما قفل راجعاً عندما لمح زائري القبر الصغير واختبأ خلف أشجارٍ كثيفةٍ كانت هناك . بقي الرجل والمرأة هناك زهاء نصف ساعة على هذه الحالة حتى نال منهما التعب والإعياء فنصب الرجل الشمسية فوق القبر ثم أخرجت المرأة عشرة شموع من حقيبتها وغرزتها على الطين المغطي لجسم القبر تحت الشمسية ثم أخرجت من بين ثنايا ثيابها قداحة أشعلت بها الشموع العشر ثم أطفآها بالنفخ عليها ومن ثم خرجا يمسحان دموعهما .



بعد خروجهما بدقائق دخل ذلك الشاب وسار حتى وصل إلى نفس القبر ووضع إكليل الزهور عليه ثم وقف يبكي لمدة دقائق ثم انصرف.



سارا تحت المظلة , مشتبكي الأيدي , في شوارع هستنغز قاصدين محطة القطار في الهزيع الثاني من الليل تفصلهم القلعة الشامخة عن الشاطئ الرملي , زعيق القطار القادم من اتجاه الشرق والغادي إلى إيستبورن ومنها شمالا باتجاه لندن كسر حاجز الصمت , وجدا مقعدا مزدوجا شاغرا في العربة التي صعدا إليها واقتعداه , الدفء المنعش أرخى جسميهما وبعث فيهما شيء من الوسن وخلدا إلى النوم حتى أيقظتهما مكبرات الصوت المعلقة على جدار العربة معلنة بانتهاء الرحلة وطالبة من الركاب النزول في مدينة لندن , كان القطار المتجه من لندن شمالا بانتظار الركاب الغادين إلى هول وليفربول ومانشستر واسكوتلاندا , صعدا إحدى عرباته .



بين لندن وهول في تلك الليلة كان القطن البارد يهبط من السماء ندفا غزيرة حتى ليكاد لمن ينظر من نافذة القطار أن لا يرى سوى لوحة بيضاء من صنع السماء تلمع بسقوط أضواء عربات القطار عليها , كان هو من يجلس لصق الشباك وهي ملتصقة به وواضعة رأسها على كتفه تعوم في بحر أحلامها بعد يوم سفر مضن حزين قادهم من هول إلى هستنغز مرورا بلندن , كان يرقب هبوط الثلج من السماء من خلال نافذة القطار , شارد الذهن , سارح الخيال , لحظة مد يده ليزيل الثلج عن شعرها وأكتافها لكنه صحا من شروده وأيقن أن المشهد المؤلم الذي راود خياله قد مضى عليه خمسة عشر حولا . فالثلج هو ثلج إنكلترا وليس ثلج جبال كردستان الشاهقة , وهو في القطار يعود مع زوجته إلى مسكنه في مقاطعة هول وليس يعبر الحدود العراقية التركية سيرا على الأقدام , متأبطا ذراعها , في تلك الليلة التي مضى عليها أكثر من عقد ونيف .



كانت الثلوج تغطي الجبال والسفوح والوديان على الحدود العراقية التركية في ذلك الليل البارد الذي ساد السكون فيه على غير العادة , إذ اعتادت هذه الحدود منذ سنوات على عبور آليات الجيش التركي بين الحين والآخر أو مرور مقاتلي حزب العمال الكردستاني , ولم يكن يسمع أزيز الرصاص أو دوي المدافع أو أصوات جنازير المدرعات أو عواء الذئاب , إذ تجمد كل شيء في ذلك الوقت الذي تحولت فيه السماء والأرض إلى كتلة بيضاء ناصعة , وبعد الساعة الواحدة ليلاً , وكانت ندف الثلج لا تزال تهبط من السماء بغزارة , وصلا إلى ذلك الخط المتعرج الطويل الملتوي كالثعبان بين التلال والوديان , يكتسيان بلباس صوفي وينتعلان أحذية جلدية ذات رقبة طويلة تصل إلى الركاب وكان الثلج يغطيهما حتى يصعب رؤيتهما من على بعد أمتار قليلة , وبين الفينة والفينة يمد يده ليزيل الثلج عن أكتافها وقبعتها الصوفية التي تغطي حتى الأذنين , كانت تحمل حقيبة نسائية فيها حفنة من الزبيب وقليل من التمر وبضع قطع من خبز الصمون القاسي وبعض علب السردين ومبلغ من المال على شكل دولار أمريكي وفي إحدى جيوب الحقيبة كان هناك شريطاً للفنان محمد شيخو ومجسماً أحمراً لقلب مكتوب عليه في الأسفل: " عيد حب سعيد " وبضعة رسائل قديمة , أما هو فكان يتسلح بمسدس حربي تشيكي من عيار سبعة ملم وفي إحدى جيوبه مشعل كهربائي صغير وبنسا قاطعاً للأسلاك وسكين , لم يكن يعرفان في أي لحظة ومن أي جهة ستنال منهما المنية فمن الخلف هما يعرفان حق المعرفة أن حكم الإعدام سيصدر بحقهما دون محاكمة , ومن الأمام جنود مدججين بالسلاح لا يترددون على إطلاق النار على كل من يقترب من الحدود حتى إذا كان يسير على أربع قوائم , ومن جميع الجهات ضوار مفترسة جائعة قد تلتهمهم في أي وقت .



وصلا إلى سورٍ مغطىً بالثلج لم يكن ذلك خافياً على شفان أنها الأسلاك الشائكة فركلها برجله حتى سقطت الثلوج من فوقها فأخرج البنس من جيبه وقطعها و باعد بين أطرافها بعضلاته القوية وعبرا إلى الطرف الثاني يسيران بهدوء وحذر رغم أن شفانا كان مطمئناً من جهة الألغام , فخبرته العسكرية التي اكتسبها خلال عقد ونيف في صفوف البيشمركة علمته أن الألغام لا تنفجر عند الدوس على الثلج السميك المغطي لها , بعد مسير عشرات من الأمتار سمعا هدير محرك ولاح شعاع ضوء من جهة الشرق فهمس شفان بأذن بيريفان طالباً منها أن تنبطح لأن دورية للجيش التركي قادمة , ما إن اقتربت السيارة العسكرية حتى غطاهما الثلج فعبرت الدورية على بعد أمتارٍ من رأسيهما دون أن يراهما أحد , انتظرا حتى غاب الضوء و خفت الصوت فهمس شفان ثانية طالباً المتابعة في السير , كانت أقدامهما تغوص عميقاً في الثلج مانعة بذلك السير السريع الذي يحتاجان إليه الآن , إذ شعرا أنهما اجتازا المنطقة الأكثر خطرا وعليهما أن يستعجلا قبل أن تأتي دورية ثانية , كانا يسيران بشكل مستقيمً خشية أن يعودا إلى الحدود ثانية دون علم منهما إذ أدركا إنهما لم يعودا يميزان الشرق من الغرب والشمال من الجنوب , بعد مسير ساعة تقريباً شعرا بشيء من الأمان وقد كان يفصلهما عن الحدود مسافة ميلين تقريباً توقف شفان فجأة وشد على يد بيريفان وقال :

_ أتسمعين ؟ وبعد صمت قصير أجابت بيريفان :

_ نعم إنه نباح كلب .

_ لا إنه عواء ذئبٍ , والذئاب خطرة في مثل هذه الظروف لأنها تكون جائعة ولا تجد ما تأكله فتفترس كل ذي لحمٍ تصادفه

_أليس مسدسك معك ؟

_ بلى ولكن أخشى أن يتعقب الجيش أثرنا إذا استخدمته , ولكني سأستخدمه فقط إذا شعرت أن وجودنا في خطر.

لقم شفان مسدسه واستأنفا السير بينما كانت بيريفان مذعورةً ,وكانت حدة الثلج قد خفت كثيرا مما ساعد على وضوح الرؤية , و بعد عدة خطوات أقترب صوت الذئب حتى ظهر جلياً أمامهما مكشراً عن أنيابه ومقترباً بخطواتٍ بطيئة إذ كانت أطرافه تغوص في الثلج معيقة بذاك سرعة حركته و قدرته على القفز, احتمت بيريفان خلف شفان مرعوبة , وعندما كان الذئب على بعد مترين أو ثلاثة التقط شفان قليلاً من الثلج وعصره بقوة في راحة كفه حتى بات صلباً وضرب به وجه الذئب بكل ما يملك من قوة عله يهرب بعيداً ويكفيهما شره , ولكنه ارتد خطوتين إلى الوراء وأطلق عواء بصوت عال وكرره مراتٍ عديدة كأنه يطلب النجدة , نظر شفان إلى اليمين ليجد ثلاثة ذئاب أخرى تهاجم, فسدد مسدسه على الذي أمامه وأطلق عليه طلقة واحده ليرديه قتيلاً ثم التفت إلى اليمين ليرى الثلاثة الأخرى تولي الأدبار مسرعةً يتطاير الثلج من تحت مخالبها إلى مسافةٍ بعيدة وهي تعوي خائفةً , استمرت في الهرب حتى غابت عن الأبصار بينما كان يسمع صوت وقع مخالبها على الثلج لدقائق فعرف شفان أنها ولت من غير رجعة , وفي تلك اللحظة سمع صوت إطلاق نار من جهة الخلف وتحركت بعض السيارات مرسلة أضواءها المضادة للضباب لمسافات طويلة وأطلقت قنابل مضيئة عالياً حتى أنارت مساحات واسعة فحمل شفان بيريفان التي لم تعد تستطيع المشي مصدومة من هجوم الذئاب وأزيز الرصاص وسار بسرعة حتى وصل إلى صخرة كبيرة على سفح الجبل كانت حافتها العلوية تمتد خارجاً مثل الرف تاركة تحتها مساحة نصف مغلقة خالية من الثلج تطل على الاتجاه المعاكس للحدود , أجلس بيريفان وسألها ما إذا كانت بخير فأجابت بالإيجاب ثم أخرج المشعل من جيبه ليستكشف المكان فوجد براز تلك الذئاب , دفعه بجزمته خارجاً وطلب من بيريفان أن تجلس مكان ما كانت ترقد الذئاب وجلس هو إلى جانبها ثم فتح الحقيبة وأخرج منها حفنة من الزبيب يضع حبةً في فم بيريفان و يرمي الأخرى في فمه بينما كانت أصوات الطلقات لا زالت تسمع لكن بشكل أخف مما كان , كان المكان دافئاً, إلا أن بيريفان كانت لا تزال ترجف فسألها:

_ لماذا ترتعدين ؟

_ ألا تسمع أزيز الرصاص ؟ أشعر أنهم سيطلون علينا الآن

فقال شفان وهو يمضغ الزبيب :

_ ألا تذكرين قول الشاعر عبدالله كوران عندما يقول: كردي وصخرة وبندقية وحفنة زبيب , فليأت العالم , كل العالم

شعرت بيريفان بالدفء من كلامه لكنها تابعت :

_ إن الشاعر كان يقصد شجاعة المقاتل الكردي عند الدفاع عن الوطن

_ من لا يستطيع الدفاع عن حبيبته لا يستطيع أبداً الدفاع عن وطنه

فابتسمت بيريفان وقالت:

_ اقترب مني أكثر فإن جسمك مثل كلامك يبعث الدفء في جسدي

أقترب شفان حتى التصق بها وأحاط ذراعه حول عنقها ثم نظر إلى الثلج و قال :

_ أتحبين الثلج ؟

_ نعم , إنه يشبه قلبك ببياضه وصفائه .

_ أتذكرين عندما كنا نضرب بعضنا البعض بالثلج في المدرسة عندما كنا صغاراً ؟.

_ نعم أذكر كل خطوة قضيتها معك .

_ وتذكرين مرة عندما ضربتك وجاء الثلج في عينك فبكيت وصفعني المعلم ؟

_ ليته كان يصفعني بدلا منك .

_ كنت أحبك مذ ذاك الوقت . وأنت هل كنت تحبينني ؟

ابتسمت بيريفان ولم تجب , لم ير شفان بسمتها إلا أنه فهم سكوتها .

وفي تلك الأثناء تجاوزت الساعة الثالثة صباحا وسكت الرصاص وكان هناك هدوء مطلق إلا من دقات قلبين وصقصقة أربعة شفاه .



. . .





صباح اليوم التالي وفي الجانب الآخر من الحدود و في قرية كاكان استيقظ كاميران آغا كعادته قبل طلوع الشمس وخرج إلى الحمام بشرواله الفضفاض وقميصه المنقوش وكوفيته الكردية ليتوضأ ويؤدي صلاة الصبح , وكانت ميرم خاتون قد أحضرت له ماءً ساخناً قبل أن ينهض من الفراش , وعندما أدى الرجل فريضته كان فنجان القهوة جاهزاً , احتساها مع ميرم خاتون مسترسلاً معها الحديث, كان كاميران آغا ذا قامةٍ طويلة وشعرٍ غزير وحواجب كثيفة ومتعاقدة وبشرة بيضاء وعيون عسلية ويتجاوز الستين من العمر . عندما تسلقت الشمس ربع السماء اقترب وقت مجيء الزوار الذين يأتون كل يوم طلباً للتشاور أو سعياً لحل المشاكل أو عرضاً لأي خدمة يطلبها الآغا , وليس ذلك غريباً عليه فهو سيد قبيلته وصاحب الكلمة الفصل في محميته وتربطه علاقات وثيقة مع الدولة وشيوخ القبائل القاصية والدانية الكردية منها أو العربية , طلب الرجل من ميرم خاتون أن توقظ بيريفان لتجهز وجبة الفطور, دخلت السيدة غرفة ابنتها لتجد السرير فارغاً نادتها فلم يرد أحد , بحثت عنها في الحمام والمطبخ وغرفة أخويها اللذان كانا لا يزالان نائمين , لكن دون جدوى , عادت إلى غرفتها ثانية فوجدت ورقة على وسادتها , التقطتها وأخبرت الآغا بالموضوع الذي نادى ابنه الكبير سامان بعصبية وطلب منه أن يقرأ ما هو مكتوب على الورقة , فقرأ الولد :

( إلى أبي : لو كان قلبك من حجر فرب صخرة تنفجر وتنبجس منها المياه ولكن قلبك أكثر صلابة , إنني سئمت جبروتك ومللت قيودك وأقفاصك , لقد آن الأوان أن أحطم تلك القيود والأقفاص وأخرج طليقة , إن نير العبودية كسر عظام رقبتي فحان الوقت أن أستبدله بأجنحة أحلق بها في فضاء هذا العالم الجميل, إنه وقت الحرية يا أبي..........)

ما إن سمع الآغا ذلك حتى فقد السيطرة على أعصابه , واحمرت عيناه واحتقنت أوداجه وثار كالأسد الجريح , رمى الكوفية جانباً وتوجه نحو التنور الذي كان في إحدى زوايا حديقة قصره وأخرج منها رمادا ولطخ وجهه ورأسه به وهو يصرخ بصوت عال :

_ يا عالم , يا ناس , تعالوا وانظروا ماذا حل بي وبشرفي وشرف قبيلتي , إنها مصيبة ما بعدها مصيبة .

ثم يلهث قليلاً ويتابع :

_ تعالوا , تعالوا , واسمعوا البهدلة ابنة الآغا يخطفها ذلك الصعلوك ابن القندرجي .



هب الجيران عندما سمعوا صراخ الآغا وانطلقوا صغاراً وكبارا لنجدته ولمعرفة ما يجري , كان البعض يتسلح ببنادق والبعض الآخر أعزلاً وهم يصيحون :

_ ماذا يحدث ؟ ماذا هناك ؟

وقال آخرون :

_ لم يخلق الله بعد من يستطيع المس بابن عمنا .



تقدم الآغا والشرر يتطاير من عينيه التي تحول بياضهما إلى حمار وسط وجهه الملطخ بالشحوار وصاح بهم قائلاً بصوت مبحوح و متقطع :

_ إن ابنتي قد اختطفت , لقد سقط الشرف منا يا أبناء عمومتي , اذهبوا وادعوا كل رؤساء ووجهاء فروع القبيلة إلى الاجتماع في بيتي ظهر هذا اليوم .



عند الظهيرة كان قصر الآغا يعج بالمئات من رجال القبيلة وأسيادها مواسين على المصاب الجلل الذي حل بهم وبسيدهم وعارضين الدعم والمساندة من مال ورجال , خطب بهم الآغا عاليا وفي صوته بحة والزبد يتطاير من فمه وقال :

_ لقد انتهك عرضي اليوم وانتهك معه عرضكم جميعاً وسوف لن تقيم لنا قائمة بين القبائل والعشائر , ولا يقدم ذو شرف على طلب يد بناتنا , وسنظل مطأطئي الرأس أمام الناس , حتى نغسل هذا العار عن أنفسنا . إنني باق هنا في قصري هذا ولن أخرج منه دقيقة واحدة حتى أسمع نبأ مقتلهما .



وفي نهاية الاجتماع تم تكليف محسن آغا وهو الناطق جيداً بالعربية مهمة البحث عنهما عند القبائل العربية ,

تولى عاصم آغا مسؤولية البحث عند العشائر الكردية , بينما ألقى سامان الابن البكر لكاميران آغا على عاتقهو

مهمة البحث في تركيا .



. . .





في ذات الصباح استيقظ الحبيبان بعد ليلة تناوبا فيها على الحراسة , وكانت الغيوم قد انقشعت جزئياً , و الشمس ترسل خيوط أشعتها الذهبية بين الحين والآخر من بين الغيوم المتناثرة في السماء على الجبال والوديان والسهول المغطاة برداء أبيض جميل مثل ثوب العروس مانحة بذلك مشهدا خلابا وبديعا , بينما كانت نسمات الهواء تأتي باردة من جهة الشمال وهي تعبث بذرات الثلج وتقذفها إلى حيث يجلس العاشقان, ولكن هدير آليات الجيش كان يسمع بوضوح من خلفهما , لذلك فضلا المكوث في مكانهما حتى يحل الظلام , فتح شفان علبة سردين ووضع صمونة وسط الثلج كي تلين قليلاً وشرعا يتناولان فطورهما بنهم , قضيا نهارهما الشتائي القصير وهما يستمتعان بالنظر إلى ذلك المنظر الرائع الذي رسمته الطبيعة بريشتها المباركة , ويستعيدان ذكرياتهما الحلوة منها والمرة حتى احتوتهما طلائع الظلام وسمعا صوت آذان المغرب من بعيد كأنه أنين مريض يلفظ أنفاسه الأخيرة , لكنهما لم يستطيعا معرفة جهته , نهضا وسارا دائرين ظهريهما إلى حيث العسكر تاركين وراءهما عالماً زاخرا بالأحداث الأليمة من حرب وأنفال وأعراف بالية , فقد قررا الليلة الماضية أن يمتطيا أجنحة الحب ليطيرا إلى شاطئ الحرية والأمان ليتمكنا من قطف ثمار حبهما البريء اللذان زرعاه منذ ما يقرب من عشرين سنة ولم يحصدا سوى الألم والمعاناة , ولكن إلى أين ؟ هما نفسيهما لم يكن لديهما الجواب لهذا السؤال وإن كان قلب شفان يؤشر إلى بلاد الإنكليز لإلمامه باللغة الإنكليزية من جهة وما كان يسمع عن مهارة أطبائها من جهة أخرى . شعر شفان بالجوع وكاد يشم رائحة خبز أمه المنبعث من التنور عندما كانت تصحو في الصباح الباكر على صياح الديكة , تخلط الطحين بالماء والملح وتعجنها ,تنتظر قليلا , تشعل النار في التنور فيخرج اللهب من فوهته مثل حمم بركان حتى تغدو جدرانه حامية ثم تفرش العجين المسطح على وجهه حتى يبدو أحمرا مثل قرص الشمس لحظة الشروق فتنطلق رائحته الزكية وتقرقر أمعاء شفان فيغمس الخبز في زيت الزيتون أو الزبدة ويتناوله ويرشف من كاس الشاي . قاده خياله إلى تلك الأيام الخوالي من العمر فقال في

نفسه : أين أنت الآن يا أمي ؟ هل تعيشين في نفس الجنان مع أبي سعيد وأختي جيهان والصغير دارا الذي لم أره يوما ؟ إنني اشتقت لكم وكلي ثقة أنني سأراكم يوما

طلب من بيريفان بعض حبات التمر وشرع في تناولها , لم يكن يسمعا غير صوت وقع أقدامهما على الثلج فقال لبيريفان :

_ هل تستطيعين تقليد هذا الصوت ؟

_ كرت كرت كرت . أجابت بيريفان

_ إن بعض الأتراك يقولون مازحين : إن الأكراد سميوا كردا على نغم وقع أقدامهم على الثلج لأن بلادهم كانت مغطاة بالثلوج على مدار السنة قبل آلاف السنين.

ردت بيريفان مبتسمة :

_ وماذا عن : ترك ترك ترك ؟

ضحك شفان وقال :

_ لربما كانت بلادهم مغطاة بالجليد فيتكسر تحت أقدامهم محدثا هذا الصوت .





بعد مسير أكثر من ثلاث ساعات متواصلة شعرا بأمان وكانا يتبادلان الحديث همسا في سكون الليل و كانت أعينهما لا تمل بالبحث عن بقعة مأهولة يحلان فيها لأخذ قسط من الراحة وتناول ما يسد رمقهما إذ بلغ منهما الإعياء وخوت معدتهما , في تلك اللحظات بدأت بيريفان تشكو من الم في قدميها وقالت :

_ أحس بحرقة ووخز في قدمي . فرد شفان :

_ تحملي قليلا , فلعلنا نجد خلف هذه الربوة من قرية أو بلدة نستريح فيها .

خاب أملهما عندما بلغا قمة المرتفع ولم يجدا بصيص نور على مد البصر رغم أن الجو كان صافيا والرؤية جيدة وإنما وجدا منحدرا ويلوح خلفه معالم قمة جبل أعلى ارتفاعا , ارتبك شفان قليلاً وتملكه شيء من اليأس والخوف, فهو يعلم حق العلم ماذا يعني أن تسير في الثلج ساعات طويلة وتحرقك قدماكً , وكان بعض رفاق

سلاحه قد تعرضوا إلى ذات الحالة وانتهى الأمر بهم إلى بتر الأقدام , ولكنه حاول أن يبعد هذا الكابوس عن مخيلته وصار يداعب بيريفان ويشجعها , إلا أنها شكت ثانية وبصوت يدل على إعيائها :

_ لم أعد قادرة على المشي يا حبيبي , دعنا نستريح قليلاً .

فرد شفان :

_ إن التأخير قد يسبب لك مشكلة , دعيني أحملك وأسير في سفح هذا الجبل حتى الجهة الثانية .

حملها على كتفه وانطلق مسرعا ً واجتاز الوادي الذي لم يكن عميقاً وبلغ السفح حيث غير اتجاهه قليلا نحو اليسار وترك القمة على يمينه عله يلف نصف محيط الجبل ويرى ضالته في الطرف الثاني وقبل أن يصله بقليل صارت بيريفان تأن من الألم فخارت هو الآخر قواه وسقط على الثلج وأخذت بيريفان تتدحرج نحو الوادي نهض وتبعها بسرعة وقفز من فوقها وصدها بساقيه كما تصد كرة القدم وكان ذلك قبل حافة الوادي العميق بمترين لا أكثر, حاول جاهدا حملها مرة أخرى فلم يتمكن , نظر إلى يمينه ويساره و أمامه و خلفه فلم يجد سوى بياضا لا حدود له , فتوجه نحو بيريفان وقال بصوت متقطع وهو يلهث :

_ ألا تستطيعين المشي حبيبتي ؟

وهنا حاولت بيريفان أن تخفف من رعبه وارتباكه وتظاهرت قائلة

_ ساعدني على النهوض والمشي .

أحتضنها شفان بين ذراعيه ورفعها حتى كانت واقفة ثم لف ذراعه اليمين حول جذعها وأمسك بيساره يدها اليسرى التي كانت تعانق رقبته وصارا يمشيان ببطء وبعد دقيقة استسلمت بيريفان مرة أخرى جانب صخرة بدا أن تحتها خال من الثلج تشبه تلك التي أمضيا تحتها ليلتهما السابقة , أشعل شفان مشعله ليتأكد من خلوها من المفترسات ثم حمل بيريفان وأجلسها فوق حجرة تحت الصخرة بحث عن أي شيء قابل للاشتعال يمكن أن يتدفآ به فلم يعثر على شيء , ثم شرع بخلع أحذيتها فوجد أصابعها بنية ونهايتها تميل إلى السواد وعند لمسها أخذت بيريفان تتألم بشدة وتبكي لم يتمالك شفان نفسه وانفجر هو الآخر بالبكاء واحتضنها بشوق صارخاً

_ أفديك يا بيريفان , أموت عنك حبيبتي , يا إلهي ماذا أفعل ؟

يشدها على صدره ويضع رأسه بين رأسها وكتفها الأيمن ملامساً بوجهه رقبتها وهو ينتحب قائلاً :

_ الآن تموتين أمام عيني دون أن استطيع فعل شيء , إلهي أرجوك ماذا أفعل ؟ بيريفان لا تموتي حبيبتي لا تتركيني لوحدي , لا تموتي أرجوك .

ثم يحتضن قدميها ويضع أصابعها في فمه وتارة تحت أبطيه لينقل إليها شيئاً من الدفء , ثم يضربهما بكفه علهما يعيدان لونهما الوردي , وفي هذه اللحظة مرت مروحية حربية للجيش من فوق قمة الجبل متجهة باتجاه

الحدود حتى غابت عن الأنظار وهي تطلق رشقات من الرصاص بين الحين والآخر يبدو من صوتها أنها من بندقية حربية خفيفة , وهنا فكر أنه يجب أن يتصرف قبل أن يخسر كل شيء , لقم مسدسه وأعطاه لبيريفان

لتدافع به عن نفسها إذا ما دخل حيوان مفترس يبحث عن صيد , وانطلق يصعد صوب قمة الجبل وهناك صار يصيح بأعلى صوته :

_ النجدة , النجدة هل هناك من يسمعني ؟ النجدة , أنا بحاجة إلى مساعدة أرجوكم .

يشعل مشعله ويديره في كل الاتجاهات ويتحرك من موقع إلى آخر صارخاً :

_ أنقذونا من فضلكم . هل هناك من يراني أو يسمعني ؟ أرجوكم نحن في خطر .

وفي كل مرة كان لا يجيبه سوى صدى صوته المنعكس من القمم التي تحيطه به , ظل في هذه الحالة زهاء نصف ساعة حتى بح صوته وخفت ضوء مشعله , وقف صامتاً وتملكه اليأس وأدرك أن ما يواجهه أقوى منه بكثير شاعراً أنه فقد كل شيء في حياته , ارتخى جسمه وهو يمسد جبينه بأصابعه و شعر بصداع شديد وسالت دموعه من عينيه حتى ذقنه ومن هناك كانت تنقط فوق الثلج , أحس بمرارة الاستسلام وأن طاقته قد نفدت , بادر إلى ذهنه أن يعود إلى بيريفان لتموت في أحضانه ومن ثم يدفنها بيده كي لا يكون جسمها طعاما للذئاب أو الضباع ومن ثم يطلق رصاصة الرحمة على نفسه, تخيل ذلك وانفجر في البكاء , كان أنين نواحه يخترق سكون الليل ويصطدم بالجبال ليعود إليه الصدى ويحفز قلبه على المزيد من الأسى واللوعة , فقال بصوته المبحوح داعياً ربه :

_ يا رب , ارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين , أنقذها يا الله , فليس لي غيرها وأنت تعلم ذلك .

قال ذلك وخطا خطوته الأولى باتجاه بيريفان يرتعد حزناً و برداً وفي تلك اللحظة سمع صوتاً خفيفاً يقول :

_ من أنت ؟

وقف وقال في قرارة نفسه : إنه الهذيان ليس إلا , ثم تابع خطواته ولكن الصوت أتى هذه المرة بشكل أقوى :

_ من أنت أيها رجل ؟ هل أنت عميل للجيش تريد إيقاعنا في الفخ ؟ كن حذراً فأنت في مرمى بندقيتنا .

فانتفض شفان وكان الصوت بمثابة شمس طلعت عليه في منتصف الليل وصاح بصوت نصفه بكاء من الفرح :

_ أنا شفان أرجوكم أنقذونا , حبيبتي في خطر , أرجوكم أنا لست عميلا للجيش , أنا كردي عراقي وقد ضللت الطريق , أرجوكم .

وكانت لهجته قد أعطتهم انطباعا أن الرجل صادق فتقدم الرجال الأربعة نحوه بسرعة قطعوا الوادي وتسلقوا

السفح حتى وصلوا القمة حيث كان شفان بانتظارهم الذي عانقهم باكياً وشاكرا ثم طلب منهم أن يلتحقوا به وسار بسرعة نحو الأسفل فوجدوا بيريفان نصف مستلقية تسند ظهرها على الصخرة وبيدها المسدس , كانت أقل ألما بكامل قواها العقلية وقد عبرت عن تحسنها بعد ما قام به شفان , أعطى أحد الرجال بندقيته لآخر وحمل بيريفان على كتفه وانطلق مسرعاً كالحصان على السفح في الجهة التي خطط شفان أن يسلكها , تناوب الرجال الأربعة على حملها لمدة نصف ساعة , و كان شفان يتبعهم منهكاً يكاد لا يستطيع رفع أقدامه جيداً فيجرها جراً على الثلج , كانت الساعة اقتربت من منتصف الليل عندما وصلوا إلى صخرة كبيرة يغطي الجزء السفلي منها جذوع أشجار مقطوعة متراكمة فوق بعضها , نادى أحد الرجال بكلمة حتى دفعت تلك الجذوع إلى الأمام وظهر خلفها بابا يؤدي إلى ممر طويل , دخل الجميع ثم أغلق الباب .



كان ذلك معسكرا لحزب العمال الكردستاني وهو كهف يمتد عميقاً في الجبل بعرض متغير , وطول يتجاوز الخمسين متراً , وفي نهايته يتفرع إلى شعبتين وعلى امتداده جيوب فرعية تشبه الغرف في شقة سكنية حديثة , خصصت إحدى الغرف للمطالعة وكان فيها مئات الكتب تتحدث عن مواضيع شتى وبلغات مختلفة , وغرفة ثانية رتبت فيها عدة ومكتب الطبيب, وأخرى للقائد , وثلاثة مهاجع للمقاتلين واثنين للمقاتلات و غرف أخرى

صغيرة تتناثر هنا وهناك , أما السقف فكان أحيانا يسمح بمرور جمل وأحيانا أخرى يضطر المرء إلى حني رأسه لكي يعبر, وبالنسبة للأرضية فقد ملئت حفرها بأحجار حتى غدت على سوية واحدة تقريباً , أما الحيطان فقد

اكتست معظمها بأعلام وصور لقادة الحزب ورموزه ولافتات عليها شعارات ثورية , كان يقيم في ذلك المعسكر ما يربو عن ثلاثين مقاتلاً و مقاتلة جمعتهم العقيدة الواحدة , ويقودهم رجل في منتصف الأربعينات متوسط القامة حنطي البشرة حليق اللحى والشارب طليق اللسان لا يخلع بزته العسكرية إلا عندما يلجأ إلى فراشه واسمه شيروان , كان شيروان انضباطياً لا يخلو من الصرامة والجدية يفيق الساعة السادسة صباحاً وينفذ مع عناصره بعض التمارين الرياضية ضمن الكهف وفي السابعة كان موعد الإفطار وفي الثامنة تبدأ الدروس العسكرية والسياسية حتى الثانية بعد الظهر حيث يتفرغ كل منهم إلى ممارسة هوايته في القراءة والكتابة ولعب الشطرنج والضامة حتى الثانية عشر ليلا حيث الموعد مع الفراش , وفي كل يوم كانت تخرج دورية منهم في ساعات المساء حتى أخر الليل لتطلع عما يجري خارجا من تحركات الجيش بعرباته وطائراته , وهكذا كانت تدور أيامهم حتى يطل فصل الربيع وتذوب الثلوج إيذاناً ببدء مهماتهم العسكرية .

في ذلك الليل عندما دخلت عناصر الدورية , ويحمل أحدهم بيريفان على كتفه , كان الجميع قد آوى توا إلى الفراش إذ صاح أحد رجال الدورية :

_ دكتور باران , دكتور باران .

فألتم الجميع في العيادة ظناً منهم أن أحد رفاقهم قد أصيب أثناء مرور المروحية وإطلاق الرصاص منها , بينما وضعت بيريفان على السرير وأخذ الطبيب يفحص قدميها على ضوء فوانيس الكاز معتمدا على أسئلة وجهها إلى شفان , ثم طلب أن يحضر سريعا ماء ساخن في قدر يتسع لقدمي بيريفان , وهو يقوم بغرز الإبرة في وريد المرفق , وما إن علق باران المصل وأخذ يسري في وريدها قطرة قطرة حتى كان الماء الساخن جاهزا فوضع قدميها فيه وحمل سماعته وفحص قلبها ورئتيها ثم التفت نحو شفان قائلا :

_ إن الأمور بخير , وصحتها لا بأس بها , وهذا اللون البني في أصابع قدميها سيعود خلال ساعات لأنه لم يدم طويلا , فلو أنها بقيت على حالها حتى الصباح لكانت الأمور أسوء بكثير .

تنفس شفان الصعداء, وكاد يحتضنها فرحا لو لا الحياء , أمر شيروان بانصراف المقاتلين إلى مهاجعهم وإحضار العشاء للضيفين , جلبت إحدى المقاتلات شوربة عدس ساخنة ورقائق من الخبز الجاف وبضع حبات من التين المجفف , جعل شفان كسرات الخبز على شكل فتات ناعمة وأخلطها مع الشوربة ليجعل منها على شكل فتة سهلة المضغ والبلع وشرع بإطعام بيريفان التي كانت نصف جالسة على سرير الطبيب وقدميها في الماء الساخن , بعد العشاء تبادل شيروان والطبيب باران معهما أطراف الحديث , وكان الطبيب يبدل الماء بأسخن منها كل ربع ساعة حتى بلغت الساعة الثالثة صباحا حيث استعاد القدمان لونهما الطبيعي فوجه الطبيب بيريفان إلى غرفة المقاتلات للنوم فيها , بينما مدد شفان فراشه إلى جانب فراش الطبيب بعد أن شكره على جهده وخلدا إلى النوم .

في الساعة السادسة صباحاً استيقظ الجميع لممارسة حياتهم المعتادة وكان شفان وبيريفان لم ينهضا من فراشهما من شدة الإرهاق الذي تعرضا له في اليوم السابق, وعندما أنهى المقاتلون برنامجهم في الساعة الثانية بعد الظهر من ذلك اليوم , طلب شيروان من المقاتلين أن يحضروا أنفسهم لاجتماع آخر مساء لبحث موضوع الضيفين , وعند الساعة الخامسة مساء انعقد الاجتماع بحضور الضيفين في أكبر المهاجع , جلس المقاتلون متربعين على الأرض بانضباط كبير دون حديث أو همس في خمسة أرتال وفي كل رتل ستة أفراد بينما جلس شيروان والطبيب والضيفان مقابلهم على مقعد خشبي طويل , بدأ شيروان الحديث وقال :

_ نرحب بضيفينا الكريمين و نحمد الله على سلامتهما , ونشكر رجالنا الأربع الأشاوس الذين قاموا ليلة أمس بعملهم البطولي النبيل لنجدتما وإنقاذهما من الموت المحقق , لقد أثبتم أيها الرجال أنكم أصحاب نخوة وشهامة , وأبطال في السلم كما أنتم في الحرب , كما نشكر الدكتور باران على جهوده القيمة وخبرته العظيمة التي أنقذت روح أختنا بيريفان , إن غايتي من اجتماعنا هذا هو أن نتعرف عليهم وندرس مشكلتهم ونشخصها لنضع الخطة المناسبة لحلها قدر المستطاع , والآن ليتفضل أخونا شفان بالحديث .

عدل شفان جلوسه وقال :

_ أشكركم جميعا على ما بذلتموه من أجل إنقاذ روحينا , وخاصة هؤلاء الشباب الأربع الذين تصرفوا بقوة وشجاعة كالأسود , والدكتور باران الذي سهر على صحة بيريفان , بداية أعرفكم بنفسي , أنا أسمي

شفان , ولدت في كردستان العراق في قرية كاكان التي تبعد عن الحدود العراقية التركية مسافة ميل واحد , سنة 1960 من عائلة فقيرة حيث كان والدي يعمل حذاء , لا أرض له ولا مال ولا أقرباء , إذ كان وحيدا

لجدي الذي شارك في ثورة الشيخ سعيد بيران في تركية , وعندما قمعت الثورة وأعدم قائدها حكم عليه بالإعدام , فقطع الحدود العراقية التركية ليلا وسكن أول قرية على طريقه في كردستان العراق , وهناك تزوج من فتاة يتيمة وأنجبا طفلهما الوحيد , وسكان قريتنا والقرى المجاورة هم أبناء قبيلة واحدة يتزعمها كاميران آغا الذي هو والد بيريفان . عندما بلغت السادسة سجلني والدي في المدرسة الابتدائية الوحيدة في القرية وكانت غرفتين من الطين , يسكن المعلم في واحدة منها ونتلقى دروسنا في الأخرى , أمضيت ست سنوات في تلك المدرسة مع بيريفان , كنا نجلس في نفس المقعد , وعند الانصراف كنا نذهب إلى بيتها , وندرس ونكتب وظائفنا سوية في قصر والدها , ونلعب ونغني في حديقته مثل فراشتين, ونتابع برمج الأطفال على التلفاز , وإذا جعنا كنا نأكل ونشرب معا ً , حتى المساء, حيث كنت أعود إلى بيت أهلي المؤلف من غرفة واحدة من الطين لأستمع في ليالي الشتاء إلى صوت سقوط قطرات الماء من سقف الغرفة عندما يهطل المطر , كنت مجتهدا في دراستي فأساعد بيريفان على القراءة والكتابة والحساب , وتساعدني على الرسم . لم يكن في قريتنا مدرسة متوسطة رغم أنها كانت كبيرة , لذلك عندما أنهيت المرحلة الابتدائية اضطررت إلى الانتقال إلى أقرب بلدة عن قريتنا لمتابعة دراستي , أما بيريفان فلم تتابع لأن الآغا منعها من إكمال دراستها استجابة للتقاليد السائدة , فبنظره قد كبرت البنت وعليها مساعدة أمها في أعمال البيت وعدم الاختلاط بالذكور والحديث معهم , لأن ذلك انتقاص لسمعتها وسمعة أهلها . غادرت القرية وكنت آنذاك في الثالثة عشر من عمري وسكنت في البلدة , وشعرت بمرارة الفراق تزداد في قلبي يوما بعد يوم كطفل صغير انفصل عن أمه , كنت أسافر إلى القرية ظهر يوم الخميس لزيارة أهلي وأعود السبت صباحا إلى مدرستي , وخلال هذه الزيارة كنت أحاول اللقاء بها أو حتى رؤيتها من بعيد ,

وعندما كنت أعجز عن ذلك , كنت أقف يوم الجمعة على قمة مرتفع يبعد حوالي مئة وخمسين مترا عن القصر , الذي كان مبنيا على منحدر تلك القمة , وأراقب حديقة البيت حتى تخرج إليه بيريفان فأراها من بعيد وأشعر بنشوة عظيمة , وخاصة عندما كانت تنظر باتجاهي وتلوح لي بيدها حين يخرج الآغا إلى صلاة الجمة في المسجد . وذات يوم وكان ذلك في شباط 1974 دعاني أحد الأصدقاء إلى زيارة بيت جده في الموصل و أثناء سيرنا في أسواق المدينة المكتظة رأيت بعض المحلات التجارية قد امتلأت بالورود والقلوب الحمراء المصنوعة من البلاستيك وبعضها من القماش , سألت صديقي عن السبب فقال : إن اليوم هو عيد الحب , كان لهذين الكلمتين وقع خاص على مسامعي , لم يكن لدي المال الكافي لشراء هدية لبيريفان فاستدنت عشرة دنانير من صديقي واشتريت بها مجسما لقلب أحمر في أسفله مكتوب بالإنكليزية " عيد حب سعيد , أحبك " وفي قمته وردة حمراء . في الأسبوع التالي حملت الهدية وسافرت إلى القرية عصر يوم الخميس وصرت أراقب باب القصر من قمة المرتفع , حتى خرج الآغا مع ابنه سامان وركبا السيارة وانطلقا , عرفت من هندامه أنه يتوجه تلبية لدعوة , وأنه سيتأخر , بعد دقائق خرجت بيريفان إلى الحديقة ونظرت باتجاهي , فأومأت لها أن تنتظر وانطلقت مسرعا باتجاه القصر وعندما وصلت الباب كان مفتوحا وتقف بيريفان خلفه ممسكة بالمصراع المفتوح , ألقيت التحية فردت بأحسن منها وابتسمت , كان اللقاء الأول وجها لوجه منذ سنتين , أخرجت الهدية من جيبي وقدمتها لها قائلا : هذه هديتي لك , جلبتها من الموصل . أخذتها من يدي وشكرتني , ثم خيم الصمت لبرهة فتابعت قائلا : اشتريتها لك بمناسبة عيد الحب , انظري إلى أسفلها , مكتوب عليه " أحبك " بالإنكليزية , نظرت إلي بيريفان وابتسمت , فقلت لها : أحبك يا بيريفان , وسأعمل كل شيء لأحظى بك , لم تعلق بيريفان على قولي , إلا أنها ابتسمت وقالت: إنها هدية جميلة حقا وسأحتفظ بها طول حياتي . غمرتني السعادة وكدت أطير فرحا وقلت لها : إنني أعاني من فراقك فكيف يمكننا التواصل ؟ فأجابت : على ذلك المرتفع الذي تقف عليه يوم الجمعة حجرة كبيرة منتصبة في أسفلها ثقوب , عندما تأتي يوم الجمعة وتقف هناك , ضع لي رسالة ملفوفة بأحد الثقوب , فسأجلبها لاحقا وسأرد عليها بنفس الطريقة . ودعتها والبهجة تلفني كأنني ملكت الدنيا كلها . في عام 1975 كانت الحكومة المركزية في بغداد قد نقضت بوعودها تجاه الأكراد فلجأ الشعب إلى حمل السلاح , وكان الطلاب يتسربون من المدارس للالتحاق بالثورة , وفي 1977 دفعني الشعور القومي وحماس الشباب والغيرة الوطنية إلى ترك المدرسة والالتحاق بصفوف البيشمركة , و قبل أن أقدم على هذه الخطوة وكلت مسؤولا الحزب الديمقراطي الكردستاني في القرية لمناقشة قضيتي مع بيريفان مع والدها كاميران آغا , إلا أن الخبر جاء كالصاعقة علي عندما أبلغت أن الآغا قال أنه مستعد أن يقتل ابنته ولا يزوجها

من ذلك الطرطور ابن الحذاء . وهنا بدأت مأساتنا الكبرى إذ أن مجرد انضمامي إلى صفوف البيشمركة يعني عدم قدرتي على التجول في القرى والبلدات وإلا سيكون مصيري الاعتقال أو القتل لأن عملاء ومخابرات النظام كانت تتربص بنا , وحتى إن لم يكن ذلك فقد نفيت من القرية لأنني سوف لا أكون في مأمن من الآغا الذي نطق

بالحكم علي دون محكمة أو محامين , درت مع رفاق السلاح كل جبال وسهول ووديان كردستان , كنا نقاتل في الربيع والصيف والخريف وفي الشتاء كنا نلجأ إلى مقراتنا في جبال قنديل حيث كنا كما أنتم الآن نتلمس خيوط نور الحرية في غياهب الكهوف وظلماتها , قاتلت بشرف و إخلاص وكان هناك حلمان لا يفارقان خيالي : بيريفان وكردستان , وكنت على يقين أنني سأحظى بهما يومأ . إن القتال كان يشغلني كثيرا ففي كل يوم كانت هناك أخبار جديدة , من انتصارات وهزائم , ومن قتيل وجريح أو أسير بين صفوفنا أو صفوف الجيش . ولكن عند كل هدنة أو هدوء حيث كنا نلتزم مواقعنا ولم يكن هناك ما نفعله كانت تبدأ مشكلتي , كانت بيريفان لا تفارق خيالي , كنت أفكر بها و أنا على سفرة الطعام أو ماشيا , وأرى صورتها في الكتاب عندما اقرأ , وفي وجه القمر عندما يسطع ليلا , وأشم رائحتها في الربيع عندما تتفتح أزهار الأقحوان والنرجس والبنفسج , وأرى شفاهها عندما تتفتق شقائق النعمان وأتذكر ألوان ثيابها عندما يلوح في السماء قوس قزح بعد عاصفة في الربيع . بعد ثلاث سنوات من اللوعة , دفعني الاشتياق إليها إلى طلب إجازة أسبوعية كل شهرين من آزاد الذي كان يترأس الوحدة المقاتلة التي انتمي إليها , متذرعا بزيارة خالتي في قرية جبلية وعرة قريبة من جبال قنديل لا يطالها يد الجيش , وخلال فترة الإجازة كنت أسير مسافة ثلاثة أيام في المنطقة الجبلية المحاذية للحدود العراقية التركية حتى أصل ليلا إلى القرية , وأصعد إلى تلك القمة المجاورة لقصر الآغا وأنام متكئا على تلك الحجرة التي أصبحت صندوق بريدنا , وفي الصباح أفتش عن الرسائل وأقرأها , ثم انتظر خروجها حتى الضحى فإذا طلت من الحديقة كنت أشعر بروحي كصحراء قاحلة جرداء تتهيأ لمعانقة سحابة ممطرة مرت من فوقها , ثم انصرف بعد أن اترك لها رسائلا طويلة كنت قد أعدتها خلال شهرين أو أكثر وكتابا كنت قد أنهيت قراءته . وأذكر

مرة أنني تركت لها شريطا للفنان محمد شيخو كنت أسمعه كثيرا أوقات الراحة . وفي سنة 1981 بشرتني بولاة أخيها الثاني رامان الذي شغل فيما بعد حيزا كبيرا من رسائلها , كانت تعبر عن حبها الشديد له وتصف طريقة ابتسامته ثم كيف يناغي وعندما كبر كانت تشكو من شقائه الكثير وفرط حركيته و عصبيته .

دمت على هذه الحالة لمدة أكثر عشر سنوات , كان مؤنسي الوحيد فيها خارج أوقات القتال هو طريق القرية ورسائل بيريفان والكتاب , لم أكن اسمع شيئا عن أخبار الأهل سوى ما كانت تكتبه بيريفان عنهم في رسائلها , وأحيانا كانت ترفقها بصورة لأختي جيهان أو أخي الصغير دارا الذي لم أره قط إذ ولد بعد التحاقي بالثورة , فقد كانت تحب أهلي كثيرا وتحترمهم , كأنها واحدة منهم , الأمر الذي كانت تذكره دائما في رسائلها .

في أواخر الشهر الثاني من عام 1988 كان الربيع قد اقترب , ولبست الأرض ثوبها الأخضر , والطيور الحبلى بثمارها تجمع قشة من هنا وشعرة من صوف الخراف من هناك , لتبني أعشاشها , أشرقت علي الشمس في ظهر تلك الربوة المجاورة لبيريفان , سحبت الرسالة الوحيدة من أسفل الصخرة لأراها نعيا , فقد غارت طائرة بعد منتصف الليل منذ أيام قليلة على بيت أهلي فاستشهد كل أفراد عائلتي , أبي الذي تجاوز الستين وأمي التي كانت في الرابعة والخمسين , وأختي جيهان ذات العشرين ربيعا التي كانت تجهز أمور زواجها الذي كان سيحدث في يوم نيروز , وأخي دارا الزهرة ذات البتلات التسع والذي لم أره قط , لقد كان وقع الخبر مثل الخنجر في عروقي , جلست وب ..بببكيت .......

تغير لحن صوته وبات أقرب إلى الحشرجة , وهنا مد إليه شيروان كأس الماء , بينما صاح المقاتلون الذين كانون يصغون إليه صامتين : " لا يموت الشهداء , لا يموت الشهداء " وكانت بيريفان آنذاك تمسح دموعها .

وبعد دقيقة ساد الصمت وتابع شفان :

_ بكيت كثيرا في ذلك الصباح , وعيوني لا تبارح القصر حتى ظهرت بيريفان في الحديقة وهي ترتدي الأسود من قمة رأسها إلى قدميها الأمر الذي زادني حزنا وكآبة .





ومنذ ستة أشهر , وفي ليلة صيفية مقمرة , كنا خمسة عشرة مقاتلين في كمين على طرفي واد يؤدي إلى مقر قيادتنا المحلية , عندما سمعنا هدير المدرعات وأصوات جنازيرها آتية باتجاهنا . لم يكن الجندي العراقي على إيمان بقتالنا بل كان يساق عنوة إلى الجبهة لذلك كنا نحاول تجنب قتلهم مفضلين استسلامهم إلا إذا وجدنا أنفسنا في خطر منهم , ولما اقترب منا الهجوم أمرنا بفتح النار عليهم بأسلحتنا الخفيفة والمتوسطة ,كانت نيران القذائف تتلألأ في الوادي والسفح وأزيز الرصاص ودوي الدبابات يمزق السكون في تلك المنطقة التي اعتادت على الهدوء والسكينة , فقد دارت معركة شرسة بيننا راح ضحيتها الكثير من الجنود ودمرنا

ثلاث مدرعات بال آر بي جي وقتل اثنان من رفاقنا وجرح آخر , استطعنا أن نصد الهجوم , وارتد الجيش قافلا وكنا نعقب أثرهم ونحن على السفح في جهتي الوادي , وآخر شيء أتذكره من المعركة هو عندما التفت خلفا إلى رفيقي لأطلب منه ذخيرة فقد وجدت نفسي بعدها مستلقيا على سرير الطبيب في الكهف , سألت عما إذا كانت المعركة لا زالت جارية فقال الرفاق أنها انتهت منذ ثلاثة أيام . استشفيت على يد الدكتور آسو لمدة ثلاثة أسابيع وتحسنت حالتي كثيرا , وقد أخبرني أن هناك ِشظية اخترقت عظام جمجمتي من الخلف واستقرت فوق السحايا , وهي لم تؤذ المادة الدماغية , إلا أن وجودها قد يسبب لي كارثة إذا بقيت ولم تخرج جراحيا , وقد منعني من العمل القتالي ونصحني بالمكوث معه حتى تهدأ الأمور ليتمكن الحزب من إرسالي إلى إحدى الدول للعلاج , كنت بصحة جيدة سوى بعض الصداع الذي كان ينتابني بين الحين والآخر .



قضيت خمسة شهور على هذه الحالة , كانت مهمتي تنحصر في مساعدة الطبيب في بعض الأحيان , وتجهيز وجبات المقاتلين أحيانا أخرى , ولكن الكوابيس لم تكن تفارقني لحظة واحدة , فقد شعرت أن نهايتي اقتربت , وأنني سأموت في هذا الكهف بعيدا عن بيريفان , سأموت دون أن تكون بجانبي لتخفف عني آلام سكرات الموت سأموت دون أن تعلم بموتي لتذرف علي الدموع .



منذ أسبوع طلبت من القيادة إجازة مطولة متذرعا بقضاء نقاهة في بيت خالتي , وانطلقت الصباح الباكر باتجاه القرية , وكان الجو باردا والغيوم البيضاء تغطي وجه السماء وتحجب الشمس عن الظهور , ومعي بندقيتي وكيس من الزبيب والتمر وكسرات من الخبز , قطعت جبالا ووديانا كثيرة غارقا في الأفكار وملهوفا لرؤية بيريفان أو على الأقل قراءة رسائلها بعد غياب دام أكثر من ستة أشهر , كنت أحلم أن ألتقي بها لنناقش ما آل إليه وضعي الصحي الخطر , مساء اليوم الرابع وصلت إلى مشارف القرية , صعدت إلى تلك الربوة التي باتت تمثل لي المأوى الفريد في قريتي , والملجأ الوحيد عند الشدائد , ووصلت القمة بعد آذان المغرب بقليل وكانت خيوط الغسق لا تزال تتراقص على قمم الجبال , و تنعكس أشعة الشمس على أهداب السحب الناعمة في السماء ببريق ذهبي يفصل بين زرقة السماء وبياض الغيم , كنت على عجلة من أمري حتى أصل في موعد قبل

أن يحل الظلام الدامس لأتمكن من قراءة رسائل بيريفان , لكنني عندما وصلت إلى موقع الصخرة وجدتها قد تحولت إلى فتات متناثرة من أحجار صغيرة , فعلمت أن صاروخا قد أًصابها من طائرة حربية , كان التعب قد نال مني مناله , وبدأ الصداع ينخر رأسي ويداي ترتعدان جوعا وبردا , وقفت صامتا وبدأت أفكر : يا إلهي ! أين أذهب , فالعودة مستحيلة , والنزول إلى القرية محفوف بالمخاطر وسينتهي إما بقتلي أو اعتقالي وهو أبشع من القتل , فأزلام النظام موجودون في كل مكان , جلست على حجرة أتناول ما بقي من حبات الزبيب في ثنايا ثيابي وعيني لا تفارق قصر الآغا حتى بلغت الساعة التاسعة , إذ اشتد البرد وبدأ الثلج بالهطول , كان الليل هادئا والرياح شمالية والجو كئيبا , وما ألهب قلبي وزاده حزنا هو صوت محمد شيخو الآتي من القصر فانهالت دموعي وكاد يغمى علي . لحظة رأيت كاميران آغا وميرم خاتون وابنيهما خرجوا من باب البيت مرتدين ملابس فاخرة وركبوا السيارة وانطلقوا حتى وصلوا الطريق العام واتجهوا خارج القرية , وكان صوت الأغنية ما زال يسمع من القصر , نهضت وسرت باتجاه البيت حتى وصلت إلى النافذة التي يصدر منها الصوت وطرقته , وكان له مصراعان حديديان شبكيان من الخارج وآخران خشبيان من الداخل , انخفض الصوت الأغنية وساد الصمت هنيهة فطرقته مرة أخرى , فصاحت بيريفان بصوت مرتعب من الداخل : من يطرق النافذة ؟ فأجبتها : أفتحي بيريفان , أنا شفان . لم تصدقني فكررت : أنا شفان أفتحي النافذة من فضلك , وكنت آنذاك شاحب الوجه طويل اللحى وإشارات التعب والحزن واضحة على وجهي , ففتحت مصراعا خشبيا وفزعت وكادت أن تغلقه فصحت : لا تغلقي , والله أنا شفان وقد أصبت في العركة ودخلت شظية في رأسي , قال الطبيب أنني سأموت ,ولم أكمل العبارة حتى انفجرت بالبكاء , فتحت بيريفان المصاريع الأربعة وبكت وعانقتني بحرارة وضمتني إلى صدرها بحرارة وقوة وهي تمسح وجهها بوجهي , وكان العناق الأول بعد حب دام حوالي عشرين سنة .

ساعدتني بيريفان على الدخول من خلال النافذة , وأبقتها غير محكمة الإغلاق , فاجتمعنا في غرفة دافئة , اعتدنا أن ندرس فيها عندما كنا صغارا قبل ثمانية عشر عاما , تعانقنا ثانية حتى ارتوت روحانا قليلا من لظى ظمئهما فشعرت أنني غير قادر على الوقوف أكثر , استلقيت على سرير بيريفان بينما انصرفت هي إلى المطبخ فأحضرت لي على عجالة وجبة من الرز ولحم الدجاج الطازج وعصير البرتقال ,تناولت العشاء فقالت أن الحمام جاهز , دخلته , اغتسلت وحلقت لحيتي , ثم اتفقنا على المغادرة الساعة الثانية عشر من الليلة التالية عندما يكون الجميع نياما على أن تصطحب معها كل ما يلزمنا في طريقنا إلى المجهول , عانقتها للمرة الثالثة بعد أن

استرجعت قواي قليلا , ثم زودتني بيريفان بلحاف شتوي فخرجت من الشباك وسرت باتجاه ملاذي وبين الفينة والفينة كنت التفت إلى الوراء لأرى بيريفان لا تزال تقف خلف الشباك تلوح لي بيدها , وعندما وصلت إلى مأواي وبعد دقائق قليلة وكنت فيها استند ظهري إلى صخرة وأراقب النافذة وقفت سيارة الآغا أمام باب البيت فأغلقت

بيريفان الشباك وأطفأت الأنوار , بينما قمت لأفتش عن صخرة أو شجرة تحميني من الثلج لأنام تحتها . وفي الليلة التالية وعلى الموعد تماما بانت بيريفان فانطلقنا نشق طريقنا .



. . .



عندما خلص شفان من كلامه عم الصمت لثوان , ثم رفع احد المقاتلين يده وكان أسمه كابار وأصله من القامشلي , فأومأ له شيروان بالحديث فقال :

_ أقترح أن يكون غدا يوم عطلة لنحيي لهما حفلة زواج ونعقد قرانهما , فقد اشتقنا إلى الأعراس والدبك .

التفت شيروان إلى الضيفين وقال :

_ هل توافقون على هذا الاقتراح ؟

_ نعم موافقون . قالها شفان , بينما أحنت بيريفان رأسها خجلا .

ابتهج الجميع فرحا منتظرين يوما ليس ككل الأيام , يتخلصون فيه من الروتين اليومي القاتل , ويذكرهم بالأعراس التي كانت تقام في مدنهم وقراهم . بعد العشاء انصرف المقاتلون والمقاتلات إلى التحضير لمراسيم حفل الزفاف .



في اليوم التالي كان هناك عرس ليس ككل الأعراس , فالمكان كهف وليس قاعة احتفالات أو مطعم فخم . ولم يكن هناك أم أو أخت أو صديقة أو جارة تزغرد وإنما مقاتلات بالزي العسكري الخشن , ولم يكن هناك عروس تلبس الأبيض الفضفاض كالفراشة وإنما صنع لها ثوب مزركش من عدة رقع من القماش معفرة بالتراب والغبار ,

وزين وجهها وعيناها بأقلام الكتابة وليس بمساحيق التجميل , وسرح شعرها بأصابع اعتادت تنظيف البنادق والضغط على الزناد وليس بأمشاط وسيشوارات صالونات الحلاقة .



أما العريس فقد ارتدى ( الشال والشابك ) وكوفية كردية ولف خاصرته بحزام عريض من القماش المطوي على نفسه . جلس العروسان متلاصقين على كرسي من الخشب وإلى جانبهما مقاتل يعزف على الطنبور وآخر ينظم الإيقاع بالدربكة , والآخرون يدبكون من حولهم مطلقين شعارات و أناشيد ثورية حتى وقت متأخر من الليل , أجرى كابار مراسيم عقد القران حسب ما يقتضيه الدين والمذهب بعد أن طلب منهما الوضوء ثم قرأ البعض الفاتحة , ودخل العروسان إلى غرفة صغيرة كانت قد خصصت لهما وجهزت بفراش صغير ولحاف من الصوف ووسادة وشمعتين وباب من قطع متفرقة من الخشب , ثم آوى الجميع إلى الفراش , وبعد ساعة أخترق سكون الليل المطلق أنين خجول من إحدى زوايا ذلك الكهف المظلم , وتعانق روحان ظلا يناجيان بعضهما منذ عقدين , والتصق جسدان عاريان بقيا يشحنان بلوعة الحب منذ عشرين سنة , دخل العروسان في تلك الليلة إلى عالم يجهلانه وإنما كانا يتخيلانه طيلة سنوات مضت فوجداه ألذ مما كانا يعتقدان , ذلك العالم علمهم كيف يسد الرمق الحقيقي ويرى العطش الروحي .





عندما بلغت الساعة الخامسة صباحا كان العروسان لا يزالان مستيقظين فقام شفان وارتدى ملابسه ثم فتح الباب وتوجه نحو غرفة الطبيب , لم يكن لها باب , دخلها فوجد الطبيب لا يزال يقرأ على ضوء الشموع فبادر شفان :

_ عمت صباحا دكتور .

_ صباح الخير شفان , ها هو القدر مليء بالماء الساخن على الموقد .

نظر شفان إلى الطبيب بعين يملؤها الشكر والامتنان ثم حمل الطنجرة من على الموقد وشكر الطبيب . اغتسل العروسان ولبسا ملابسهما ونشفا شعرهما ببشكير تنبعث منه رائحة عفنة . طرق الباب ففتحه شفان فوجد الطبيب على الباب حيث قال :

_ هل تفكران باحتساء القهوة معي قبل أن يبدأ برنامج العمل اليومي ؟

ثم عاد إلى غرفته فلحقاه العروسان وجلسا معه على سرير واحد يرتشفون القهوة الساخنة , قال الطبيب مازحا:

_ أخبروني كيف كانت ليلتكما ؟

_ ممتازة يا دكتور , لا تخف علي فإن جسمي قوي . أجاب شفان ضاحكا , بينما ابتسمت بيريفان بخجل وأدارت رأسها عنهما . فأضاف الطبيب مقهقها :

_ أعرف أن جسمك قوي لذلك سهرت لأجلكما .

قطع حديثهم صياح شيروان , اجتماع , اجتماع عندها علموا أن الساعة بلغت السادسة وأن البرنامج اليومي قد بدأ .



بقي العروسان في الكهف مدة شهر كامل حيث هطلت أمطار غزيرة وذابت الثلوج من على الجبال والوديان والسهول , خرج الجميع من الكهف في يوم خيم فيه الضباب الكثيف وغطت السماء غيوم عاتية إذ كانوا على مأمن من أنظار الجيش , اقترب شفان من شيروان وقال :

_ أعتقد أنه وقت المغادرة بالنسبة لنا .

_ كما تشاءان , إذا كنتم مصممين على المغادرة فلكما ذلك , وسأكلف اثنين من المقاتلين ليدلاكما على الطريق العام الذي يؤدي إلى ولاية شرنخ .



ودع العروسان الجميع وقبلت بيريفان المقاتلات وسط الدموع , وكذلك قبل شفان المقاتلين , وشكراهم على كل ما فعلوه من أجلهما ثم انطلقا مع المقاتلين المكلفين . ظهيرة ذلك اليوم كان المقاتلان يسيران أمام العروسين في ممرات جبلية ضيقة , قطعوا تلالا ووديانا وهم يصعدون تارة ويهبطون تارة أخرى والضباب الكثيف يلفهم , وبعد مسير أكثر من ساعتين انقشع الضباب قليلا ولاح في الأفق طرق معبد أشار إليه أحد المقاتلين بأصبعه وقال :

_ هل تريان ذاك الطريق .

_ نعم , ها هي سيارة تمر من فوقه .

_ هذا الطر يق يؤدي إلى مدينة شرنخ بمسافة 15 كيلو مترا

ودع شفان بيريفان المقاتلين وتابعا سيرهما حتى وصلا إلى ذلك الطريق ووقفا ينتظران سيارة عابرة , كانت الساعة قد تجاوزت الثانية عصرا , وكانت الشمس تسطع بين الحين والآخر بنورها الخافت الذي يجتاز طبقات الغيم الرقيقة , والشمال كان يرسل نسائمه الباردة عبر فتحات بين جبال عالية باتت تلوح في الأفق كلما انسحب

الضباب باتجاه السماء , قال شفان ويده اليمنى تمسك يد بيريفان واليسرى يضعها بين ثنايا ثيابه ومحدقا بوجه بيريفان :

_ كم أنت جميلة حبيبتي , لا زلت أتذكر تلك الليلة مثل الكابوس , أدام الله هؤلاء الرجال الذين أنقذونا من براثن الموت المحقق .

_ كانت ساعات عصيبة بالفعل ولكن تلك التي تلت كانت جميلة , لقد كانوا أناسا في غاية اللطف , شعرت بهم يغمرونني بعطفهم , خاصة تلك الفتيات اللواتي تركن أهلهن وفضلن الحياة القاسية والسكن في الكهوف لأجل قضية يؤمن بها .

في تلك الأثناء أقبلت سيارة تكسي خصوصية , كان فيها بالإضافة إلى السائق شخص آخر إلى جانبه يحمل بندقية وقفت السيارة ونزل منها ذلك الشخص وتوجه باتجاههما وقهقه قائلا بالكردية :

_ ما الذي أتى بكما إلى هذا المكان النائي ؟ من أين أنتما ؟ فرد عليه شفان :

_ نحن من قرية تقع خلف هذه الجبال .

_ وأين تذهبان ؟

_ نحن ذاهبان إلى شرنخ للعلاج .

قهقه الرجل مرة أخرى وبصوت أعلى وقال :

_ لا تكذب ! إن لهجتك عراقية , تختلف عن لهجة أهالي هذه القرى , من الأفضل لك أن تعترف لأن الكذب لا يفيدك هنا .

_ وبماذا أعترف ؟

_ أنك من جماعة الإرهابيين .

كان الرجل يقف أمامهما على بعد ثلاثة أمتار ويوجه فوهة بارودته إليهما ولكنه لا يستطيع الحفاظ على توازنه فيتمايل مرة إلى اليمين ومرة إلى اليسار . ارتعبت بيريفان وأجاب شفان :

_ إننا مواطنين عاديين ولا علاقة لنا بما ذكرت .

_قلت لك لا تكذب وإلا سأتعامل معك بهذه البندقية . قال الرجل محركا بندقيته .

فتح الرجل باب السيارة الخلفي ودعاهما إلى الركوب , جلست بيريفان خلف السائق بينما جلس شفان خلف الرجل المسلح , كان يفوح من داخل السيارة رائحة الينسون , وأمام كل من الرجلين كأس فيه سائل أبيض وكيس من الورق فيه حبات من فستق العبيد , انطلقت السيارة بسرعة جنونية وكان الرجلان يرشفان من كأسيهما ويقذفان حبات الفستق إلى فمهما بطريقة مضحكة , تابع حامل البندقية وهو يقهقه وينظر إلى بيريفان من المرآة :

_ من أين أتيت أيتها الحمامة الجميلة وأين اصطادك هذا الصعلوك ؟

وقال السائق ضاحكا :

_ هل تودين أن تحلي ضيفة علي , أو على هذا الرجل , أو على الحكومة ؟

وقطع الآخر حديثه قائلا :

_ جميل أن نصيد أرنبين في هذا الشتاء القارس .

ثم التفت إليهما وتابع القول :

_ تريدان تدمير دولتنا أليس كذلك ؟ والله إنكما صيد ثمين .

احمر وجه شفان غضبا وخفق قلبه بين أورابه وأخذ يفكر بطريقة تمكنه من التغلب عليهما نظر إلى الأسفل فوجد حبلا تحت قدميه خلف الكرسي فحمله خلسة ووضعه على فخذيه , ثم أومأ إلى بيريفان أن تلقم المسدس الذي كان في حقيبتها , وبشكل خاطف أحاط صدر الرجل وذراعيه بالحبل وشده بقوة إلى المقعد بحيث لم يستطع

تحريك جذعه ويديه وكانت البندقية معلقة إلى كتفه اليمين وفوهتها إلى الأعلى فحوصرت بين جسمه والكرسي , وفي ذات الوقت لقمت بيريفان المسدس ووجهت فوهته إلى رأس السائق . فصاح الراكب بصوت مقطع :

_ أرجوك , والله كنا نمزح , أرجوك لقد اختنقت , أرخ الحبل من فضلك إنني لا أستطيع أن أتنفس .

وقال السائق مرتبكا والسيارة تسير يمنة ويسرة وتكاد أن تخرج عن الطريق :

_ أتوسل إليكما لا تقتلانا , إننا أكراد مثلكما ونحب المقاتلين وقائدهم , أرجوكما , إن لنا أطفالا صغارا فلا تجعلانهم أيتاما .

عقد شفان الحبل خلف المقعد ثم أحاطه بصدر وجذع الرجل , الذي لم يعد قادرا على الكلام , عدة مرات وأحكم تثبيته ثم أخذ المسدس من بيريفان ووجه إلى السائق قائلا :

_ قد السيارة بهدوء أيها الحقير , قدها يمينا إلى ذاك الطريق الفرعي وإلا سأفرغ مشطا كاملا في رأسك .

_ أمرك يا سيدي أمرك .

أدار السائق المقود بيديه المرتجفتين إلى اليمين ودخل في طريق ترابي جبلي الذي أدى بهم بعد مئات الأمتار إلى مكان ضيق يمر بين الجبل والوادي فأمره بالتوقف والنزول والسير بضعة أمتار بعيدا عن السيارة , سار الرجل مترنحا ووقف حيث أشار له شفان , فك شفان مخزن البارودة وهي في مكانها ثم لقمها مرتين للأمان ورمى المخزن بعيدا في الوادي ثم فك الحبل وحرر الرجل الثاني وأمره أن يلحق بالسائق فأسرع إليه مترنحا هو الآخر بعد أن أخذ البارودة من كتفه , أمهما أن يديرا ظهرهما إليه ولا يتحركا وإلا سيواجهان الموت , مسك البارودة من سبطانتها وضرب بها صخرة كانت هناك حتى اعوجت فرماها هي الأخرى في الوادي والتفت إلى الرجلين اللذان كانا واقفين إلى جانب بعضهما ويميلان إلى هذه الجهة أو تلك كأنهما غصنان تتلاعب بهما الرياح وهما يسترقان السمع ولا يعرفان متى سيسمعان أزيز المسدس وأمرهما بالجلوس , فتشا السيارة فوجدا في الصندوق الأمامي المخصص لوضع الكاسيتات والوثائق مبلغا من المال على شكل ليرات تركية وعدة قوارير من العرق وختما , حمل شفان المال وقارورتين وسار إليهما فأعطى المال لصاحبه وطلب من أن يدسه في جيبه , ثم قال لهما :

_ أنا لا أقتلكما , ليس شفقة بكما ولكن من أجل أطفالكما الصغار .

ثم أعطى لكل منهما قارورة وأمرهما أن يتجرعاها , استمرا في الشرب حتى سقطت القارورتان من يديهما وسقطا هما الآخران وملأ شخيرهما الوادي . أخرج مفتاح السيارة من جيب السائق ورماه هو الآخر في الوادي , وقفلا عائدين إلى الطريق , لم ينتظرا كثيرا حتى بانت حافلة صغيرة للركاب آتية من القرى النائية المتناثرة خلف الجبال ومتوجهة إلى الغرب باتجاه شرنخ , صعدا إليها كان داخلها دافئا ولم يكن فيها إلا بضع ركاب , فضلا عدم الاحتكاك بأحد لذلك جلسا في المقاعد الخلفية , فقد تعلما أن المكان الذي يقفان فيه مثيرا

للشبهات , لم تكن المدينة بعيدة فبعد ربع ساعة نزلا في أحد شوارعها وكانت الساعة اقتربت من الرابعة سارا في شوارع المدينة قليلا فلم يشعرا بالغربة , أحسا أنهما يسيران في شوارع زاخو أو دهوك فاللغة نفسها وملامح الناس عينها , حولا جزءً من الدولار إلى العملة التركية عند محل للصرافة , فكر شفان أن البقاء في المدينة لمدة طويلة هو أمر محفوف بالمخاطر فاستيقاظ المختارين من سباتهما يعني بالضرورة إطلاق يد الحكومة للبحث عنهما , وعليهما أيضا تغيير مظهرهما قدر المستطاع لأن شبح الملاحقة قد يتبعهما حتى اسطنبول , دخلا إلى متجر للألبسة النسائية فاختارت بيريفان بنطال جينز وكنزة من الصوف وجاكيت من الجلد وحذاءً طويلاً من الجلد , غيرت ملابسها في غرفة القياس ووضعت ملابسها القديمة في كيس , ثم دخلا محلا للألبسة الرجالية كذلك فعل شفان أيضا , بعدها وجدا دكانين إلى جانب بعضهما أحدهما للحلاقة النسائية والآخر للرجال دخلاها أيضا وخرجا بعد نصف ساعة بحلة جديدة حتى كاد الواحد منهما لا يتعرف الآخر , بدت بيريفان كاللؤلؤة التي خرجت من محارتها , بيضاء ذات وجه مدور كالبدر يتوسطه أنف صغير , وعينين خضراوين وواسعتين ومتباعدتين قليلا كعيون الغزلان , وفم وأسنان كحبات من اللؤلؤ وسط وردة حمراء , وشعرها الذهبي الطويل الواصل إلى أردافها كان يتلاعب به النسيم فيتموج كما تتموج سنابل القمح قبل الحصاد عندما تهب عليها نسائم أيار . دخلا إلى مطعم شعبي وجلسا وجها لوجه قالت بيريفان :

_ يليق بك في هذا الهندام وهذه الوسامة أن تكون نجما في التلفزيون أو السينما .

_ أما أنت فقد جننت فيك ولا أعرف متى سيحل الليل .

قالها شفان مادا يديه ليمسك بيديها ,سحبت بيريفان يديها وقالت :

_ هدئ أعصابك , هناك أناس حولنا .

تناولا لحما بعجين وسلطة وصحنا من الكبة النيئة ثم شربا شايا وانطلقا باتجاه موقف باصات ديار بكر بعدما سألا صاحب المطعم عنه . انطلق الباص الساعة السابعة مساء شاقا طريقه بين المرتفعات والوديان والسهول غمرهما الدفء في داخله , وضع شفان يدي بيريفان بين يديه بينما وضعت هي رأسها على كتفه وخلدا لإلى النوم .

وصل الباص إلى ديار بكر الساعة العاشرة والنصف ليلا , أيقظهما مضيف الباص من نومهما فنزلا واستقلا سيارة أجرة وطلبا منه إيصالهما إلى فندق , في الطريق إلى الفندق أدهشهما وجود العسكر والبوليس في الشوارع والتقاطعات , كان سائق التاكسي في أوائل الأربعينيات من العمر حنطي البشرة بشوش الوجه وذو شعر مجعد وأسود يتخلله البياض من الأسفل , سألهما من باب الفضول :

_ يبدو أنكما عراقيان أليس كذلك ؟

_ نعم نحن من كردستان العراق . رد شفان .

_ أهلا وسهلا بكما في آمد , هل زرتماها قبل هذه المرة .

_ لا هذه المرة الأولى , إنها أكبر وأجمل مما توقعت .

_ هل تبغيان سياحة أم علاجا ؟

_ لا هذه ولا تلك , نود العبور إلى أوربا .

_ إذا كنتما لا تحملان جوازات سفر نظامية وعليها تأشيرات دخول إلى تركيا , فمن الصعب أن تجدا فندقا يقبل نزولكما فيه .

_ ما الحل إذا ؟

_ ما رأيكما أن تحلا ضيفين علينا هذه الليلة ؟

_ لا نريد أن نسبب لكم الإزعاج سنبحث عن مكان في فندق .

_ إن الفنادق هنا لا تخلو من عيون وآذان الدولة لذلك أنصحكما بعدم المغامرة .

هنا تذكر شفان الحادثة التي مر بها منذ ساعات وراوده القلق والخوف من الاعتقال ورأى أنه من الأفضل تلبية دعوة الرجل وقال :

_ إذا كان الأمر كذلك فإننا مضطرين لقبول دعوتك .

أدار السائق المقود إلى اليمين في أول مفرق صادفه وقاد سيارته في أزقة ضيقة حتى وقف عند باب بناية قديمة أطفأ سيارته وأحكم المكابح يدويا وطلب منهما النزول .

كان البناء الحجري مبنيا على طراز معماري قديم وهو من طابقين وتحتهما محلات تجارية مقفلة , أما المنزل مؤلف من أربعة غرف كبيرة سقفها يرتكز على أعمدة خشبية مطلية بالأبيض اللماع أما الحيطان مدهونة بالأبيض الناشف . قادهما السائق إلى غرفة الضيوف , حيث يجلس والده , حاول الشيخ الذي تجاوز الثمانين سنة النهوض ليرحب بهما فأسرع شفان إليه وصافحه وهو جالس وكذلك فعلت بيريفان , كان الشيخ طليق اللحى وأبيضها كث الشعر عريض الحاجبين يغطي رأسه بكوفية , يستنجد في نظره بعدسات سميكة وفي يده مسبحة ذات تسعة وتسعين خرزة لا يمل من التسبيح بها , ذاكرا اسم الله بين كل عبارتين ينطق بهما , يجلس متربعا على فراش ثخين من الصوف ويتكئ على وسادتين وضعهما فوق بعضهما , عرف الابن والده بالضيفين , وقدم نفسه باسم سعيد الابن الوحيد للشيخ , دعاهما العجوز إلى الجلوس قريبا منه وقال مبتسما وبصوت جهوري :

_ أهلا وسهلا بكما , إن من يتجاوز الثمانين يحتاج إلى ترجمان , فإذا جلستما بعيدين فلا أتمكن من سماعكما .

رفع الابن صوت التلفاز واسترق الاثنين السمع وبعد دقيقة سأل الشيخ ضيفيه :

_ أنتما لا تعرفان التركية , أليس كذلك ؟

_ لا يا عم لا نعرفها . أجاب شفان .

_ إن التلفاز يقول أن عشرة إرهابيين هاجموا اليوم سيارة مواطنين بريئين شرق مدينة شرنخ وساقوهما إلى واد وسرقوا منهما مبلغا كبيرا من المال .

نظر شفان إلى بيريفان وابتسم وقال لها مازحا ومستغلا خروج الابن لإحضار العشاء :

_ أسمعت ؟ إن زوجك يعادل عشرة رجال .

وتابع الشيخ قائلا :

_ لا أحد هنا يصدق ما يقال في الإعلام الحكومي , فهو يصور كل من يحمل السلاح من غير الدولة على أنه إرهابي وقاطع طرق ومجرم وقاتل , إنهم أبناؤنا كما الجيش فالأخ يقتل أخاه , ولا تعترف الدولة أن هناك قضية تنتظر حلا , ممنوع علينا حتى الحديث باللغة التي علمنا إياها والدانا , إنها لمصيبة , ولكن ما العمل ؟ هناك من يسكت وهناك من يحمل السلاح . يقول محمد صلى الله عيه وسلم : رحم الله امرئ عرف حده ووقف عنده , فلو أن كل دولة أو أمة عرفت حدودها والتزمت بها لما كانت هناك حروب ولعاش كل البشر بسلام وإخاء ورفاهية , ولكن يبدو أن ذلك حلم بعيد المنال لبني البشر , فكلما تقدم الإنسان طور معه شيئين : حب السيطرة على الآخرين وأسلحة فتاكة يحقق بها ذلك الطموح .



كان يتحدث الشيخ وهو يسحب خرزات مسبحته السوداء المصطفة مثل رتل من النمل حبة حبة بين الإبهام وإصبع الشهادة , ويطلق التسبيحات والتكبيرات بعد كل جملتين أو ثلاثة من حديثه , جلب الابن العشاء على صينية من الفضة , لحم دجاج مسلوق ورز وسلطة خيار بلبن .



بعد تناول العشاء انطلق الابن إلى عمله وتابع الشيخ حديثه :

_ في شهر شباط من عام 1925 التحقت بانتفاضة الشيخ سعيد بيران وقاتلنا تحت راية خضراء وكان شعارنا الأساسي هو : لتحيا الخلافة ولتسقط الجمهورية , صحيح أن معظم مريدي الشيخ كانوا أكرادا إلا أن غايته الأسمى كانت الإسلام والحكم بما أنزل الله بعد أن غير مصطفى كمال مسار التاريخ استجابة لمطالب الغرب فألبس الدولة قوانين سويسرا تمهيدا لإلغاء اتفاقية سيفر وعقد اتفاقية لوزان , لكن وسائل إعلام الدولة آنذاك كانت تصورنا عند المواطن التركي كانفصاليين قوميين ولصوص وقطاع طرق كما تفعل الآن , لخلق العداوة بين المواطن التركي والكردي . كان سعيد بيران شيخا جليلا متواضعا , لا يقبل تقبيل الأيدي والانحناء أمامه ولا يؤمن بالكرامات , قاتلنا في ظل قيادته بشرف وإخلاص , قمعت الدولة ثورتنا بوحشية فظيعة , استشهد عشرات الآلاف وهجر مئات الآلاف من أبناء شعبنا وأحرقت القرى والحقول . ألقي القبض على الشيخ وأعدم في ساحة الجامع الكبير في ديار بكر على بعد مئات الأمتار من هنا . إن الحرب جحيم يا أبنائي . وماذا يمكن أن تجلب الحروب غير الدمار والمآسي لأطراف الصراع ؟ حكم علي بالإعدام فاتجهت نحو الجبال , فلا صديق للكردي خير من جباله , بعدها شاركت في انتفاضة آرارات من عام 1927 حتى 1930 وقمعت هي الأخرى فهربت إلى إيران وعملت فيها كراعي للأغنام عند إقطاعي كردي حتى اندلعت انتفاضة ديرسم سنة 1936 , غادرت إيران لألتحق بها وهناك أيضا أخمد نار الثورة بوحشية كبيرة , لجأت مرة أخرى للجبال مع بعض الثوار حتى صدر عفو من الدولة في الأربعينيات فعدت إلى ديار بكر . ولا أعلم ماذا سيكون مصير الحرب الجارية الآن , ولكن ما

أعرفه أن العنف سيؤدي إلى المزيد من الكوارث , ولا يمكن أن ينتصر طرف على آخر , ولا يمكن أن تحل الحرب المشكلة , وإنما القضية يمكن حلها سلميا .





وضع الشيخ المسبحة جانبا ومد يده على كيس يشف عن تبغ أصفر مثل الذهب وبدأ يلف سيكارة , ثم أشعلها بقداحة ذات فتيل قطتي وبكرة صغيرة خشنة الملمس تدار بالإبهام فتشحذ قطعة الصوان مطلقة شرارة متوهجة إلى الفتيل المشرب بالكاز حتى يبدو مثل الجمر . تابع الشيخ حديثه :

_ هذه القداحة هي هدية من أحد أبناء عمومتي ورفيق سلاحي إبان ثورة الشيخ سعيد , أحتفظ بها منذ خمسة وخمسين سنة ولا زالت تشعل وكأنها خرجت توا من المعمل , كان رجلا كريما وشجاعا , استشهد أمام عيني , حزنت عليه كثيرا , كان له أخ آخر أصغر منه , التحق هو الآخر بالثورة بعدنا ولكنه لم يكن في خليتنا , انقطعت أخباره مذ ذاك الوقت , كان اسمه حسن حمرش .

قاطعه شفان مذهولا وقال :

_ أأنت ابن عم حسن حمرش يا عم ؟

_ نعم يا بني , أنا ابن عمه .

_ إنه جدي يا عم .

صمت الشيخ وتفرس في عينيه وقال :

_ أأنت حفيد حسن ؟

_ نعم يا عم , أنا حفيده .

ترقرقت الدموع في عيني الشيخ ثم نهض وقال وفي صوته حشرجة وبكاء ومهيئا ذراعيه للاحتضان :

_ تعالى أضمك يا بني , تعالى أشمك .

تعانق الشيخ والشاب وسط الدموع لدقائق , عاد سعيد من عمله مبكرا وقص له الشيخ حكاية الضيف فعانق هو الآخر ابن عمه , ثم جلسوا وبدأ شفان يروي لهما قصة العائلة من يوم دخول جده القرية حتى حينه , إلا أنه لم يتطرق إلى كيفية اقترانه بيريفان واكتفى بالقول أنهما تزوجها منذ سنة , وكيف يبوح بسر كهذا في مجتمع يساوي بين الخطيفة والعاهرة ؟ يعز عليه كثيرا أن تنعت بيريفان , الملاك الطاهر في عينه وقلبه , بهذه الصفة . وامتنع أيضا عن ذكر ما جرى له ظهيرة اليوم .





لم يكن في خطة شفان المكوث في ديار بكر أكثر من ليلة واحدة ولكن جرت الرياح بما لا تشتهي سفنه . أبناء عمومة ظهروا له فجأة من أحضان الصدفة فبات من واجبه البقاء لمدة أطول وسط إصرار عمه الشيخ وابنه سعيد وأبناء عمومة آخرين سيبدؤون بالظهور فيما بعد واحدا وراء الآخر, لقد أخبره عمه أنهم كثر , فعائلته باتت كبيرة بعدما انحصرت بشخصه بعد استشهاد عائلته الصغيرة في القرية , بدأ يفكر في الأمر جديا في تلك الليلة بعد أن آووا إلى الفراش وأسدلت بيريفان ستار جفنيها عن عينيها الجميلتين , أشباح أفكار وخيالات باتت تطن في رأسه في أول ليلة له في موطن أجداده , قضى نصف الليل يجادل نفسه , فبقاؤه الطويل في ديار بكر هو ضرب من المغامرة بعد أن انضمت الدولة إلى كاميران آغا في البحث عنهما , لا بد أن الرجلين أعطيا أوصافهما لرجال الشرطة والمخابرات بعد أن استفاقوا من سكرتهما وما إعلان وسائل الإعلام عن هجوم عشرة أشخاص إلا فبركة من الدولة وليس من الرجلين , ألم يخبره عمه عن الطبيعة المضللة للإعلام خاصة فيما يتعلق بالحرب الدائرة ؟ , يا ترى هل سيصادفهما أحد رجال الآغا في أحد شوارع ديار بكر ؟ أم أن الحكومة ستجرهما من منزل عمه الشيخ وستودعهما في غياهب سجون ديار بكر السيئة الصيت ؟ إن مقتلهما في الشارع على يد رجال كاميران آغا اشرف لهما من ظلمات السجن وتعذيبه وإلصاق تهمة الإرهاب والقتل وقطع الطرق بهما , لا يوجد مكان آمن من البوليس والمخابرات في مدينة تسكنها غالبية كردية , وان لم يكن منهما فمن عيونهما وآذانهما المنتشرة في كل حدب وصوب . إذاً لا بد من المغادرة العاجلة قدر الإمكان , وليكن أسبوعا وليس شهرا كما وعد عمه . حاول إبعاد الهواجس عن مخيلته عندما أفاق عمه على نداء آذان الفجر الآتي من الجامع الكبير , وأغمض عينيه .





خلال ذلك الأسبوع قادهما سعيد إلى الاطلاع على معالم المدينة وأسواقها المكتظة وقلعتها الأثرية وجامعها الكبير وكنائسها شبه الخالية من البشر ومقاهيها التي تعج بالحياة , والجسور الرومانية التي لا تزال شاخصة منذ ألفي عام , ولم ينس سعيد نهر دجلة منبع الحياة وقبلة العشاق بضفافه الجميلة , والقرى والحقول المتناثرة على جانبيه على مد البصر , إلا أن ما لفت نظرهما هي الأحياء الشعبية ذات الكثافة السكانية في

أطراف المدينة , بيوت وخيام متواضعة لا تصلح إلا لتربية المواشي تتلاعب الجرادين بينها ويسيل من زواياها مياه سوداء كريهة الرائحة , شوارع من الطين تسير فيها وجوه كالحة يرتسم عليها البؤس والشقاء , سحنات شاحبة كأن أجسامها لا تحوي دماءً , نساء ورجال ينتعلون أحذية بلاستيكية تغوص في الوحل فتفترق عن الأقدام , أطفال صغار لا ترى البسمة سبيلا إلى شفاههم , عاري الأقدام يجلسون خلف صناديق صغيرة فيها علب سكائر يصرخون لجلب الزبائن , يسيل من أنوفهم المخاط فينظفونه بأكمام ستراتهم الممزقة .





ضحى اليوم السابع ودعا الشيخ , حاول شفان تقبيل يده فسحبها , أوصلهما سعيد إلى موقف باصات اسطنبول وكان قد حجز لهما التذاكر مسبقا باسمه واسم أخته وقبل المغادرة قال لهما :

_ إن اسطنبول مدينة كبيرة , تحتشد بالسكان من كافة الجنسيات والأعراق وفيها الكثير من ضعيفي النفوس ممن يمتهنون السرقة والنشل , عليكما أن تكونان يقظين , وعند وصولكما أذهبا إلى هذا الشارع - أخرج من جيبه ورقة وأعطاها لشفان – ففيه الكثير من الفنادق أصحابها وعمالها من الأكراد , وسوف يساعدونكما على المبيت وكيفية العبور إلى أوربا . هل تحتاجان إلى المال ؟ فرد شفان :

_ أشكرك جزيلا يا ابن عمي , فلدينا المال الكافي لإيصالنا إلى أوربا , لقد فعلتم من أجلنا الكثير أنت وعمي وكل أبناء عمومتنا الآخرين , أنا وبيريفان مدينان لكم .



_ لم نفعل أكثر من الواجب , كان بودنا أن تبقى لفترة أطول بيننا , لكن ظروفك حالت دون ذلك .

مد سعيد يده على جيبه وأخرج منها علبة صغيرة يستخدمها بائعو المجوهرات ودسها في جيب شفان قائلا :

_ هذه هدية أبي لكنتنا .



شعر شفان وبيريفان بالخجل لكنهما تقبلا الموقف فالهدية في العادة علامة المحبة ولا يمكن أن ترد , شكراه ثم

تعانق الرجلان ورسم كل منهما قبلة الوداع على وجه الآخر, وصافح سعيد بيريفان , وتمنى لهما سفرا سعيدا وطلب منهما أن يكونا على اتصال دائم , ثم صعد الزوجان إلى الباص بينما كان سعيد يلوح لهما بيده حتى انطلقت السيارة .





شقا طريقهما صباح اليوم التالي في اسطنبول وسط زحمة المسافرين القادمين والمغادرين من وإلى كل الولايات التركية والدول المجاورة , خرجا من كراج الباصات سيرا على الأقدام يستطلعان , بدت لهما الحياة مختلفة في هذه المدينة العملاقة , شوارع معبدة بإحكام ونظيفة , وأرصفة مبلطة , وأبنية ذات طراز معماري بديع , سيارات حديثة تجوب الشوارع لا يسمع زعيق مزاميرها , أناس تبدو عليهم علائم الثراء , أسواق فخمة فيها كل ما تشتهي الأنفس , شباب وبنات يرتدون ما يشاؤون من الموضة يتحادثون ويتمازحون بعفوية , حدائق مزركشة بالأزهار تفوح منها الروائح العطرة , سفن جميلة تشق عباب بحر إيجة , طائرات تحلق في السماء . إنها اسطنبول ! قبلة العشاق ومرتع الباحثين عن الجمال ومأوى المال والأعمال وضالة طالبي العلم , تملكت الدهشة الزوجين بما رأياها وشعرا أنهما سافرا من دولة إلى دولة أخرى .





كانت رائحة المطاعم تغزو الأنوف وتجذب أصحابها إلى تذوق الكباب والشاورما والدجاج والسمك المشوي على السيخ وعلى الفحم , إنه وقت الغداء فقد بلغت الساعة الثانية , دخلا إلى مطعم وطلبا كبابا , واحتسيا بعده شايا
 

G.M.K Team

G.M.K Team
رد: نواح كردي في هيستنغز (د آلان كيكاني)

ثم خرجا واستقلا سيارة تكسي , أعطى شفان السائق الورقة التي حصل عليها من سعيد , انطلقت السيارة ودارت بهما ساعة كاملة ثم أودعتهما في شارع مزدحم , دخلا أول مدخل وصعدا الأدراج وفي الطابق الثالث وجدا بابا مفتوحا إلى جانبه لافتة مكتوب عليها " فندق الأمين " بلغات عديدة , منها العربية , دخلاه , كان هناك بهو كبير وفي أوله طاولة يجلس عليها ثلاثة رجال , قام أحدهم وأقبل نحوهما , كان شابا في حوالي الخامسة والعشرين من العمر , أبيض البشرة , ناعم الملامح , قدم نفسه باسم مراد وقال بالتركية :
_ أهلا وسهلا , لدينا أسرة مزدوجة شاغرة , هل تودان رؤيتها , إنها مريحة واقتصادية ؟
قاطعه شفان وقال بصوت خافت :
_ هل من أحد يتحدث الكردية هنا ؟
أقترب الشاب منه حتى كاد يلتصق به مؤشرا بسبابته إلى أخر البهو حيث يوجد عدة كراسي تحيط بطاولة مستديرة , وقال بالكردية وبصوت أقرب إلى الهمس :
_ انتظراني هناك من فضلكما ريثما أنهي عملي .
بعد دقائق أنهى مراد عمله وجلس معهما وقال :
_ أنتما من أكراد العراق أم إيران أم سورية ؟
_ نحن من أكراد العراق . أجاب شفان .
_ كيف يمكنني مساعدتكما ؟
_ نحن لا نملك جوازات سفر نود الهجرة إلى أوربا , نريد المبيت حتى نتمكن من المغادرة .
_ إن الإدارة لا تسمح بالنزول في الفندق لمن ليس لديه جواز سفر لأن البيانات الشخصية ضرورية للبوليس والمخابرات فهي تأتي آخر الليل وتطلب قائمة بأسماء النزلاء ومعلومات مفصلة عنهم .
_ وما السبيل ؟
_ هناك حل , ما رأيكما أن تبيتا في الغرفة الخاصة بنا نحن عمال الفندق ؟ إنها في القبو ولكن لا بأس بها ستكلفكما مئة دولار .
_ أليس ذلك بالمبلغ الكبير ؟
_ لا , إننا خمسة عمال سنتقاسمها , ولا تنس أن في ذلك مخاطرة لي , فإذا وصل الخبر إلى الحكومة فتكون العاقبة وخيمة علي .
_ وماذا عن طريقة ندخل بها إلى اليونان ؟
_ عند وجود المال فإن الأمر سيهين , أعرف شخصا يستطيع مساعدتكما , لقد ساعد الكثيرين من أكراد العراق وإيران وسورية على العبور بأمان إلى اليونان .
_ أين هو الآن ؟ وهل يتحدث الكردية ؟
_ نعم هو من أكراد ولاية العزيز لذلك يمكنكما الحديث معه وجها لوجه واسمه كمال , واعتقد انه الآن قرب الحدود اليونانية ليساعد عائلة كردية من سورية على العبور , وغدا صباحا سيكون لديه الوقت الكافي لمقابلتكما .
_ وكم سيكلف ذلك ؟
_ أنا لا أعلم , يمكنكما التفاهم معه عند مقابلته , هل أجلب لكما طعاما أو شرابا ؟ لدينا في الفندق كافيتيريا ومطعم في الطابق الرابع . ما رأيكما بالهمبرغر ؟
_ وما هو هذا الذي تقوله ؟
حاول مراد إخفاء بسمته قائلا :
_ إنها وجبة سريعة , صمونة طرية وبداخلها لحم وبيض وبطاطس مقلية , إنها شهية حقا , أتحبان أن تجرباها ؟
_ لسنا جائعين دعها للعشاء .
_ إذا سأجلب لكما شايا .
شربا الشاي على مضض مع مراد وعندما انتهيا منه قال مراد :
_ يبدو عليكما متعبين هل تريدان اخذ قسط من الراحة ؟ إن الغرفة جاهزة وهي دافئة .
نزل مراد الدرج قاصدا القبو وهما يتبعانه , فتح باب الغرفة وأشعل الضوء وأعطى المفتاح لشفان وطلب أجرتها , أخرج شفان مئة دولار من حقيبة بيريفان وأعطاها إياه , ثم علق الحقيبة بعلاقة ملابس على الحائط , فانطلق مراد يصعد الدرج , كانت الغرفة صغيرة تفوح منها رائحة الفئران . وفيها سريرين صغيرين وخزانة ملابس ببابين مكسورين وطاولة وكرسي من البلاستيك , قرب شفان السريرين من بعضهما حتى باتا سريرا واحدا , وكانت الساعة قد بلغت السادسة مساء , أغلق شفان الباب , ثم استلقى إلى جانب بيريفان أحاط ذراعه اليمنى برأسها مداعبا شعرها وشفتيها بأصابعه وقال :
_ يا له من شاي !! أحسست برائحة دواء تنبعث منه .
_ شعرت بالغثيان لكني تمالكت نفسي .
_ أشعر بنعاس شديد , لعله السفر .
_ وأنا أيضا .
قاطع الوسن كلامهما ثم غطا في نوم عميق .
استفاقا صباح اليوم التالي مبكرا على صوت جرس التلفون , دعاهم مراد إلى الصعود إلى المطعم لتناول وجبة الإفطار ومقابلة كمال في البهو , احتسيا قليلا من شوربة العدس وتحاشيا حبات الزيتون التي كانت تفوح منها رائحة عطنة ثم شربا شايا , مد شفان يده على حقيبة بيريفان ليدفع الحساب إلا أن مرادا مسكه من يده وأخبره أن ذلك كان ضيافة الفندق , شكره شفان ودخل البهو تتبعه بيريفان , كان كمال في أوائل الأربعينيات من العمر ,
أسمر البشرة , ذا عينين لا يخلوان من المكر كعيون الثعلب , حليق اللحى والشارب , أجعد الشعر , يرتدي طقما رسميا أسودا , يثبت ربطة عنقه بالقميص بملقط ذهبي , وفي معصمه الأيسر سوار ذو حلقات ناعمة , أصابعه لا تمل من العبث بمفتاح سيارته , يتحدث بلسان عذب وبنبرة تدل على ثقته المفرطة بنفسه . نهض كمال وحياهما قائلا :
_ أعتذر منكما , لقد عدت متأخرا من الحدود ليلة أمس , لذلك لم أشأ إزعاجكما , ساعدت عائلة كردية سورية على العبور , هل تودان العبور إلى اليونان أم إلى بلغاريا ؟
_ نريد أقصر طريق إلى بريطانيا . رد شفان .
_ لذلك أنصحكما باليونان , ستجدان هناك الكثير ممن يستطيع مساعدتكما على العبور إلى بريطانيا عبر إيطاليا وفرنسا . متى تودان ذلك ؟
_ اليوم , إذا كان ذلك ممكنا .
_ ولم لا ؟ خاصة أن الطقس تحسن كثيرا منذ البارحة .
_ ولكن كيف ذلك ؟
_ إن ضابط الحدود اليوناني المناوب في المنطقة التي ستعبران منها اليوم تربطني به علاقة عمل , سآخذكما إلى تلك المنطقة بسيارتي , وسأتصل به ليغض الطرف عنكما وستعبران الحدود إلى الجانب اليوناني بأمان . أما على الجانب التركي فلا توجد رقابة تذكر .
_ وكم يكلف ذلك ؟
_ عادة ألف دولار على كل شخص , وأتقاسمه مناصفة مع الضابط . ولكن كونكما أكراد عراقيون فنحن نشعر بعاطفة خاصة نحوكم , وما زالت أصداء حلبجة والسلاح الكيماوي مدوية بين الجماهير الكردية في تركيا , لذلك ستدفعان ألف دولار فقط , وهذا المبلغ للضابط اليوناني .
_ أشكرك على مشاعرك النبيلة يا أخي , لكن هذا غير جائز , فالبنزين مكلف هنا , على كل حال دعها علي فالجدال مع الكرماء في هكذا موضوع أمر متعب .
_ أعتقد أنه علينا المشي الآن , كي لا يحل عليكما الظلام أثناء العبور .
صعدت السيارة إلى الجسر المعلق الفاصل بين شطري المدينة الآسيوي والأوربي بهدوء , إذ أتاح لهما كمال فرصة الاستمتاع بالنظر إلى البحر الذي بدا أزرقا مع خلو السماء من الغيوم , نظر شفان , الذي كان يجلس إلى جانب كمال , إلى اليمين واليسار شارد الذهن مفكرا بما يراه : سفن بأشكال وألوان وأحجام مختلفة تشق عباب مضيق بوسفور الفاصل بين بحر مرمرة والبحر الأسود محملة بالركاب والبضائع , مناظر خلابة وأبنية فخمة تقبع على جانبي المضيق , نوارس تحلق عاليا بين آسيا وأوربا , أوربا الحضارة والرفاهية , حيث الحرية وحقوق الإنسان , لا حروب ولا عنصرية ولا أنفال ولا كاميران آغا .


تجاوزوا معالم مدينة اسطنبول باتجاه الغرب , أخرج كمال من تحت كرسيه شريطا لشفان برور وحشره في جهاز المسجلة ورفع الصوت مرددا كلمات لأغان ثورية , بينما كان يفكر شفان بكيفية الرد على كرم وشهامة ونبل كمال . بعد مسير ساعة أوقف كمال سيارته في مطعم ريفي ودعا الزوجين إلى احتساء القهوة والمرور على دورات المياه , بعدها تابعوا السير أكثر من ساعتين , صف كمال سيارته بعيدا عن الطريق قرب حوانيت في قرية , ونزل من السيارة ودخل أحد الدكاكين ثم خرج بعد دقيقتين وقال :
_ هذه قرية سازليدر , تبعد عن الحدود مسافة قصيرة جدا , تحدثت بالهاتف مع الضابط كوستانيوس , وهو ينتظركما الآن على الجانب الآخر من الحدود , سنتابع سيرنا الآن حتى نصل إلى أقرب نقطة من الحدود ومنها تتابعان مسيركما .

تابع كمال السير بالسيارة حتى خرج من القرية , ثم وقف وطلب منهما النزول وقال مؤشرا بأصبعه :
_ هذا هو نهر ماريتسا وهو الحد الفاصل بين تركيا واليونان , وتلك هي مدينة أوريستياس تبعد عن الحدود مسافة ساعة واحدة سيرا على الأقدام , إن مياه النهر ضحلة ستعبرانه بسهولة وتسيران باتجاه المدينة حيث يكون كوستانيوس أو عناصره في استقبالكما بعد النهر بعشرات الأمتار لا أكثر . وكما تريان , إن الجانب التركي خال من الحراس أما اليوناني فثمة حراسة مشددة دائما لمنع الهجرة غير الشرعية وتهريب المخدرات . والآن سأودعكما .
_ انتظر من فضلك . قال شفان .
أخذ الحقيبة من بيريفان وفتحها يبحث عن المال , سأل بيريفان :
_ أين وضعت النقود ؟
_ إنها داخل الحقيبة , أعطنيها .
أخذت بيريفان الحقيبة منه وفتشت كل زاوية وجيب وثنية فيه دون جدوى . وصاحت :
_ يا ويلي , أين ذهبت ؟ لا بد أن أحدا سرقها , متى فتحناها آخر مرة ؟
_ مساء أمس , عندما أخرجت منها مئة دولار وأعطيتها لمراد .
_ ماذا هناك ؟ سأل كمال
_ لقد ضاعت نقودنا . أجاب شفان متوترا
_ لا حول ولا قوة إلا بالله . ابحثوا عنها جيدا في جيوبكم .
_ بحثنا عنها لكن دون جدوى .
_ فتش جيوبه مرة أخرى وقال :
_ إلهي ! أكثر من ألفي دولا ! أين ذهبت ؟ ما العمل ؟
ساد صمت مصحوب بالغضب لدقيقة , وكان كمال يحملق في الأساور التي تلمع في معصم بيريفان وقال :
_ لا أدري ماذا أقول , قلت لكما أنني أساعدكما لوجه الله . لكن أن أدفع للضابط اليوناني من جيبي فهذا أمر خارج طاقتي . على كل حال ها قد وصلتما اليونان , وهناك فرص عمل كثيرة , تستطيعان العمل لأشهر ثم تتابعان طريقكما .
استفرد شفان بيريفان قليلا ثم عاد وقال :
_ عذرا أخي كمال , ليس لدينا سوى هذه الأساور الأربعة وهي تقريبا بقيمة ألف دولار , ما رأيك أن نحل المشكلة بها الآن ؟
التقط كمال الأساور من يده وودعهما ثم ركب سيارته وأدارها باتجاه اسطنبول , أخرج كاسيت شفان برور من المسجلة ودسه تحت كرسيه , ووضع بدلا منه شريطا لمسلم كورسز ورفع الصوت عاليا وانطلق مثل البرق ينفخ دخان سيكارته .


سارا باتجاه النهر مطأطئي الرأس , عابسي الوجه , متوتري الأعصاب , وصلا ضفة النهر , سمعا صوت آذان العصر آتيا من مئذنة جامع قرية سازليدر , أخرج شفان كيسا من حقيبة بيريفان كان فيه مسدسه وسكينته وخرزة زرقاء تحمي حاملها من عيون الحساد , وقصاصات من الورق عليها كتابات توقي حاملها من شر الدجالين وأمراض الجن والشياطين وأخرى تفتح أبواب الحظ , رمى الكيس في النهر , ثم اخلع كل منهما حذاءه ووضعه في الحقيبة وشمرا عن ساقيهما حتى فوق الركاب , علقت بيريفان الحقيبة على كتفها , ثم جلس شفان القرفصاء وجلست بيريفان على كتفيه مدلية رجليها على صدره وأخذ يقطع النهر ببطء , كانت هناك أشجار باسقة على حافة النهر من الجهة الثانية تصل أغصانها السفلية إلى ثلث مجرى النهر تقريبا , وعلى علو متر من سطح المياه , سار شفان بين غصنين , شعر بوصول الماء إلى مستوى سرته , ومع كل خطوة يخطوها إلى الأمام كان يحس بارتفاع مستوى الماء وازدياد سرعتها وكأنها تشكل ما يشبه دوامة عند الحافة الثانية عندما تصطدم بجذوع الأشجار , بات يلهث بقوة , وقف وطلب من بيريفان أن تتمسك بالغصنين لتخفف عنه الحمل, سألته بيريقان :
_ هل أنت بخير , عزيزي ؟
_ لا بأس عليك حبيبتي , ولكن كمالا قال أن المياه ضحلة هنا , أرى العكس تماما . على كل حال لم يبق إلا أمتارا وسنكون في اليونان , دعي الأغصان وتمسكي برأسي .
خطا خطوته الأولى وقال :
_ لأجلك يا بيريفان سأقطع بحارا وسأسير على الجمر و


لم يكمل حديثه إذ شعر أن شيئا انهار تحت قدمه وهوى عميقا في الماء , في تلك اللحظة تمسكت بيريفان بقوة بالغصنين فتملص رأس شفان من بين فخذيها وأطلق صرخة استغاثة غير كاملة , نظرت بيريفان إلى الأسفل فلمحت آخر خصلة من شعره غاصت بشكل خاطف في الماء , وانجرف جسمه سريعا واصطدم بصخرة على حافة النهر , ظهرت إلى السطح بعض فقاعات الهواء , وانطلق اللون القرمزي معكرا صفو المياه , وغاب خلفه شبح جسمه . زحفت بيريفان بسرعة على الغصن وألقت بنفسها على الضفة عند جذع الشجرة وركضت بين الأشجار على حافة النهر تستكشف هنا وهناك , لمحت رأسه من بعيد يعلو ويهبط متدحرجا دون حركة إرادية , أو محاولة للتشبث بصخرة , أو نداء استغاثة . كانت المياه تسيل سريعة في منحدر يؤدي إلى سهل شاسع مغطى بأشجار كثيفة يمتد على مد البصر على ضفتي النهر , ظلت تجري وراءه حتى بلغ منها الإعياء مبلغا , فسقطت أرضا , حاولت النهوض فلم تساعدها ساقاها .


تلبدت في السماء سحب سوداء داكنة تنثر بتأن حبيبات روحها في السهول والتلال الحبلى ببذور شقائق النعمان والنرجس والأقحوان , تلوح في الأفق من جهة الشمال ذرى تلال مغطاة بقلنسوة بيضاء تهب منها نسمات من الزمهرير تحمل معها أريج القرنفل وشذا البنفسج المتناثرة بين الأشجار وفي الحقول على ضفتي نهر ماريتسا . العصافير المثقلة ببيوضها تزقزق بين أغصان الأشجار تبحث عن أماكن تبني عليها أعشاشا تأوي فراخها . أسراب من الحمائم والكراكي تحوم في السماء , خرير مياه نهر ماريتسا له نغمة خاصة هنا حيث ينحدر صوب السهول فتهرول المياه وتصطدم بالصخور وجذوع الأشجار على حافته وتتحرك الحصى في أعماقه مصدرة إيقاعات مختلفة عشوائية .


أطل من نافذة خيال بيريفان طفل شقي يقود دراجة بسرعة وتمتطي هي خلفه تحيط ذراعيها حول جذعه مذعورة , تتزحلق عجلات الدراجة على الوحل أمام بيت حمرش , يسقطان أرضا ويسيل الدم من أنفيهما ويبكيان , تضغط أمينة بأصابعها الخشنة على أنفيهما فيتوقف الدم , وتقدم لهما ساندويشة من مربى المشمش وخبز التنور المنقوع قليلا بالماء , فيسكتان ويعودان إلى اللعب مرة أخرى . ينكش الحمار بطرف العصا المدبب فيرفس وتهوي هي على الأرض ويسيل الدم القانئ من فروة رأسها , ينطلق هاربا ثم يظهر بعد قليل في الشارع يسيل الدمع من مآقيه , أحمر الوجنتين وعليهما أثار طلاء الأحذية .
يلوح خيال مقاتل بزيه العسكري من ذروة الربوة بين الصخور ملوحا لها بيده يترك لها الرسائل في شقوق الجلاميد بعد أن يكون قد قطع ثلاثة أيام سيرا على الأقدام .

لكن أين هو الآن ؟ تسأل نفسها , ثم تجيب : لا بد أنني في حلم وسأستيقظ بعد قليل لأراه نائما بجانبي يحيطني بذراعيه القويتين , سأوقظه بعد هذا الكابوس المزعج ليشتم رائحتي ويشدني إلى صدره ويقبلني , نعم أنا في حلم . تسأل نفسها ثانية : هل أنا حقا نائمة ؟ إنني أسمع أصوات العصافير والمياه , وأبصر الأشجار حولي , إذاً هي حقيقة وليست حلما , و إذا سلمت بذلك فلماذا لم أبك ؟ قالت جدتي يوما أن المصاب إذا جل عجزت العين عن البكاء , وإذ ا كان هذا هو السبب فلماذا لم أصرخ وأستنجد , إذاً لأصرخ الآن لعل أحداً يسمعني ويأتي للنجدة .

حاولت الصراخ فلم يصدر صوت من حنجرتها , شعرت أن لسانها معقود بقاع فمها . قالت في نفسها : أنا نائمة إذاً ! فلأتمدد .


سمعت تنهدات مآذن سازليدر وبوسنا التركيتين من بعيد منبئة بوقت صلاة المغرب وبدا من خلفهما أنوار مدينة أديرنة تنعكس على الغيوم العاتية المنخفضة , دوت صفارة القطار المتجه من أوريستياس إلى أديرنة عند مروره بقريتي كافيلي ونيافيسا اليونانيتين , استسلمت خيوط الغسق أمام غزو الدجى , واحتضن الظلام كل شيء , وهدأت العصافير على الأغصان ولأسماك في النهر , إلا أن السماء لم تهدأ , وانين الرياح ظل يداعب الآذان , وخرير ماريتسا أستمر دون توقف .

. . .

قاد أنتيباس قطيع نعاجه إلى الزريبة بعد أن شبعت في حقل الشعير المحاط بسور منخفض فهرعت كل نعجة لاهثة وملهوفة لملاقاة ابنها الصغير وأفردت قوائمها الخلفية ومدت الخراف أفواهها الجائعة على ضروعها وهي تهز إلياتها الصغيرة لتشمها الأمهات , أغلق أنتيباس باب الحظيرة المطل على الحقل ودخل البيت من الباب الخلفي , خلع معطفه وقبعته , أشعل التلفاز وانصرف إلى المطبخ , جلب صينية عليها صحن يحوي عدة حبات من الزيتون وآخر فيه قليل من القشطة وكأس من الشاي ونصف رغيف من الخبز وجلس يتناول العشاء ويسترق السمع على مواعظ دينية يبثها التلفاز , رشف آخر رشفة من كأس الشاي وأطفأ التلفاز ودخل إلى مكتبته الكبيرة حيث تتزاحم الكتب هنا وهناك , وتراكم الغبار على بعضها , وتغيرت ألوان الأوراق في بعضها الآخر إلى الأصفر كان قد قرأها منذ ستين سنة .

إنه وقت القراءة , لقد تجاوزت الساعة السادسة مساءً وعليه إكمال قراءة ما قرر قراءته اليوم قبل الساعة العاشرة حيث الموعد مع الفراش .

أحتفل أنتيباس منذ أيام قليلة بذكرى ميلاده الثمانين في بيته الريفي القديم الذي توارثه عن أبيه قبل سبعين سنة عندما كان طفلا في العاشرة من عمره , فترعرع يتيما في كنف والدته كرستينا بعد مقتل والده في الحرب التركية اليونانية , نشأ وتعلم في كنيسة نيافيسا , درس الحقوق في أثينا ولم يكمله بعد وفاة والدته , فتفرغ لخدمة الكنيسة والأعمال الخيرية , تزوج في الثلاثين ولم ينجب ولدا, رحلت زوجته ميرفا منذ عشرة سنوات بعد إصابتها بسرطان في الثدي وبقي وحيدا معتكفا في منزله لا يغادره إلا مرة كل أسبوع حيث يستقل سيارة إلى أوريستياس , يجول في أسواقها ويبتاع ما يلزمه خلال أسبوع من قوت وكتب ثم يعود إلى بيته . يقضي جل وقته في القراءة مستعينا بنظاراته , يربي ثلاثين رأسا من الغنم يقتات من خيراتها ويمنح الفائض من اللبن والصوف والخراف للكنيسة التي توزعه على المحتاجين , أوصى بعد وفاة ميرفا بمنح أملاكه بعد رحيله للكنيسة ولمركز معالجة السرطان في أثينا مناصفة .


لا يعرف أنتيباس , الشيخ الجليل , ذو اللحية البيضاء المسترسلة , والشعر الطليق الواصل إلى أكتافه , والعيون السوداء الغائرة في تضاريس وجهه الأبيض ذي الخطوط المتعرجة التي رسمتها محاريث الزمن , لا يعرف متى سيودع عشيقاته الثلاثين , وعشرين هكتارا من أرض خصبة , تتزاحم عليها أشجار الزيتون والرمان , وبيته الذي تفوح منه رائحة ميرفا وآلاف الكتب , فأبى هجرانه ما دام قلبه يخفق , ينتصب البيت وحيدا قرب تلة خارج قرية نيافيسا من جهة نهر ماريتسا , مثل كركي ضل عن سربه .

بلغت الساعة التاسعة ليلا , فتح أنتيباس قارورة من روح الشعير وأفرغها في الكأس وبدأ يرشف منها , يسرح في القراءة فيذهل عنها حتى تتعب مقلتاه خلف عدستيهما السميكتين فيعود إلى الرشف ثانية , كان هناك صمت مطلق في بيت أنتيباس في ذلك الليل , النعاج والخراف تبادلت الحليب بالقبلات وغفت , كفت السماء عن البكاء ولم يعد يسمع صوت قطرات دموعها المتساقطة على سطح المنزل وأوراق الأشجار .


قرع بابه فجفل الشيخ وأطبق كتابه , لم يدق أحد باب بيته في هذا الوقت المتأخر من الليل منذ رحيل ميرفا , نهض بهدوء وسار حافي القدمين نحو الباب ببطء , نادى من خلفه مستفسرا عن هوية الطارق فلم يرد عليه أحد , طرق الباب مرة ثانية فأعاد السؤال ولم يحصل على جواب , نظر من المنظار الصغير في الباب , فرفرف قلبه بين أورابه وكاد يفقد توازنه رعبا . تفرس فيها مليا مرة أخرى من رأسها حتى قدميها , فتاة مبللة من رأسها حتى قدميها وكأنها خرجت توا من مستنقع , ترتعد يداها وتصطك أسنانها , قدماها الحافيتان غارقتان في الوحل حتى الركبتين , شعرها أشعث ينحدر بطريقة عشوائية من ذروة رأسها , يشرشر الماء من نهاية خصلاته , يغطي معظم وجهها وتبدو عيناها من خلفه كأنها ترنو من خلف باب مكسور . طرقت مرة ومرتين وثلاثة . سأل أنتيباس نفسه : إلهي !! ما هذا ؟ من تكون هذه , في هذا الوقت المتأخر من الليل ؟ لماذا لا تتكلم ؟ أهي إنسان حقيقي أم .........؟ نظر إليها مرة ثالثة فرآها جالسة أمام الباب وعيناها لا تفارقان المصراعين الحديديين فلامس قلبه شعور بالعطف عليها ومس الأسى شغافه , فتح الباب فنهضت الفتاة , حادثها فلم ترد , لامس يدها وكأنه يريد التأكد من أنها حقيقية وليست شبحا فشعر بأصابعها المتجمدة في يده , أدخلها البيت وقادها إلى الحمام وجلب لها ثيابا وأومأ إليها بيديه أن تغير ملابسها , ثم أجلسها قرب المدفئة وجلب سشوارا وبدأ ينشف شعرها , ثم أحضر لها العشاء ولكنها رفضت أن تأكله , وضعت رأسها على وسادة كانت بجانبها ومدت جسمها وأطبقت أجفانها بعد أن شعرت بدفء وخلدت إلى النوم , مد أنتيباس لحافا فوقها , وجلس إلى الجانب الآخر من الوسادة يحملق بشعرها المتناثر على المخدة ووجهها الأبيض المشوب بالشحوب , فكر مليا وهو يسأل نفسه : من تكون هذه الخرساء المسكينة ؟ أهي من عند الرب ؟ أم جاءت من ذاك العالم الذي يقع خلف النهر ؟
إن للمسلمين عادات غريبة , فلماذا لا تكون هذه واحدة ممن جار عليها الزمان وأجبرها أهلها على الزواج على ضرة أو اثنتين أو ثلاثة ؟ أو ألزموها على الاقتران بمن لا تحب ؟ أو اتهموها بالزنا وهدروا دمها ففرت ناجية بروحها ؟ لعل أحد هذه الأسباب جعل هذا الوجه البريء يعبر النهر في هذا الليل طلبا للنجاة .
تزاحمت علامات الاستفهام في ذهن الشيخ حتى منتصف الليل حيث آوى إلى الفراش ونام , لكن بقلق !


استيقظ أنتيباس الساعة السادسة صباحا , ران إلى حيث ترقد الفتاة فوجدها لا تزال هاجعة في فراشها , دخل إلى الحظيرة ومدد التبن والشعير في المعالف فتدافعت النعاج على وجبة الفطور , ثم عاد يجلي الأواني في المطبخ تمهيدا لتحضير الفطور لضيفته , شمر عن ساعديه وأدلق قليلا من الصابون السائل في قدر ثم صب الماء الساخن فوقه وشرع يغسل الصحون والكؤوس , نهضت بيريفان من فراشها بعد أن سمعت صوت جلي الصحون وتوجهت نحو المطبخ , ابتسمت لأنتيباس وحيته بيدها , سر الشيخ وحياها وارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة , مسكت بيريفان يد الشيخ وقادته إلى غرفة الجلوس وأومأت إليه أن يجلس فجلس الشيخ , جاءت بمنشف ونشفت يديه ثم انصرفت إلى المطبخ لتجلي وتحضر الفطور بنفسها , ابتهج انتيباس وقال في نفسه : " إذاً إنها ليست مجنونة , إنها خلوقة ولطيفة " . جلسا على وجبة الفطور في غرفة الجلوس , سقطت قبعة أنتيباس على الأرض من علاقة الملابس المنتصبة خلف بيريفان فالتفتت نحو الخلف ونهضت لتعيد تعليقه , فقال أنتيباس في نفسه : " إنها ليست صماء , هذا شيء جيد ! "


أحبها انتيباس محبة أب لأبنته وكذلك شعرت بيريفان بإحساس ابنة تجاه أبيها , تفرغت بيريفان للعمل المنزلي من طبخ وجلي وغسيل بينما وجد أنتيباس مزيدا من الوقت للعناية بقطيعه ومكتبته , كانت الأمور تسير على ما يرام لمدة شهرين تقريبا عندما استيقظت بيريفان ذات ليلة من النوم ونهضت متشنجة تحاول الصراخ دون جدوى , ترتعد يداها وتلهث , استيقظ أنتيباس وأشعل الأضواء وأجلسها وجلب لها الماء ومسد رأسها حتى هدأت قليلا وظل الشيخ جالسا إلى جانبها حتى غطت في نومها ثانية . في الأيام التالية وجد الشيخ أن طبائعها بدأت تتغير , باتت أكثر خجلا , تنتابها نوبات من الغضب , وأخرى من الانزواء , تجلس أحيانا ساعات مكتئبة دون أن تقوم بعمل وتشير أحيانا إلى رأسها وتومئ بوجود صداع فيه . وضع أنتيباس مرة حبة من الفيتامينات في كأس من الماء أمام عينيها ففارت الحبة أسفل الكأس وانطلق اللون الأحمر على سطح الماء فانتابت بيريفان نوبة هستريائية أشد من التي جاءتها في الليل . استمرت النوبات مرات عديدة على مدى أشهر حتى كان آخر الخريف , شعر أنتيباس بالحزن الشديد وقرر عرضها على طبيبي نفساني في مدينة ثيسالونيكي .

استفاق أنتيباس الساعة الخامسة صباحا وأطلق أغنامه في حقل الشعير , ثم أعد الاثنان عدة السفر وصعدا القطار من محطة أوريستياس , انطلق القطار باتجاه الجنوبي الشرقي , بعد نصف ساعة كان القطار يسير بمحاذاة نهر ماريتسا , نظرت بيريفان إلى النهر من النافذة وانتابتها النوبة , احتضنها الشيخ ومسد رأسها وكتفيها حتى هدأت , قطع القطار سهولا وجبالا ومدنا وقرى في ربوع اليونان حتى وصلوا إلى ثيسالونيكي الساعة الثانية عصرا , استجوب الطبيب أندرياس انتيباسا عن وضع الفتاة لمدة ساعة كاملة , أخبره الشيخ عن كل شيء عن حالة بيريفان , ثم شرع الحكيم اليوناني بالاستكشاف عن الحالة العصبية لمريضته , وبعد الانتهاء من الفحص الدقيق أخبر الطبيب أنتيباس أن هذه الفتاة قد تعرضت لأذى نفسي عندما شاهدت أحد الأفراد القريبين لها يتعرض لحادث مأساوي , وهذا الحادث على الأرجح هو غرق في الماء , كما نصحه الطبيب أن يبعدها عن كل ما يثير لديها النوبة , ووصف لها دواء مضادا للاكتئاب . سأله أنتيباس عن إنذار المرض فقال أنها ستتحسن تدريجيا وسط عناية نفسية خاصة , وقد تنطق إذا واجهت حادثا معاكسا للحادث الذي سبب لها المرض .


. . .

على الطرف الآخر من الحدود وبين قريتي سازليدر وكاراجاسم التركيتين المحاذيتين للحدود التركية اليونانية ثمة أكثر من ثلاثين خيمة بيضاء مثل قطيع من الأبقار وسط أرض بور على بعد كيلومترين اثنين من نهر ماريتسا , لجأ شفان إلى هذه القرية الغجرية عند منتصف الليل في اليوم الذي سقط فيه في النهر , حيث جرفته المياه الغزيرة إلى الضفة التركية , وكان قد تعلم السباحة قليلا في أنهر وبحيرات كردستان عندما كان مقاتلا في صفوف البيشمركة , خرج من النهر بعد صراع مرير وطويل معه وعلى جسمه عشرات الرضوض والجروح وسار على الضفة مترنحا مثقلا بثيابه المنقوعة بالمياه باتجاه المكان الذي عبرا منه ينادي بأعلى صوته : بيريفان , بيريفان , أين أنت ؟ هل تسمعينني ؟ ومراقبا قاع مجرى النهر حتى وصل إلى حيث عبرا دون جدوى , ثم أعاد الكرة مرة أخرى بالاتجاه المعاكس دون أن يراها أو يسمع صوتها . جلس على صخرة بقرب النهر منهكا يتخيل جسد بيريفان النحيل تنهشه الأسماك , ثم يطرد هذا الخيال عن ذهنه ويقنع نفسه أنها ستطل عليه بين الحين والآخر من أحد الاتجاهات فيلتفت يمنة ويسرة دون أن يرى شيئا , ذرف الدموع مدرارا .


سار شفان نحو الخيام , حيث تتلألأ الأنوار داخل قببها , يجر أقدامه على الوحل حتى بلغ أول خيمة ودخلها , كان فيها عجوز تجاوزت الخامسة والسبعين , غسلت العجوز جروحه بالكحول وقدمت له عشاء لكنه لم يذقه وإنما أطبق عينيه بعد أن نال منه العناء والتعب وشعر بالدفء وخلد إلى النوم , مكث شفان في هذه الخيمة أكثر من أربعين يوما , وهو كئيب , لا يخرج منها إلا لقضاء حاجته , تعتني به العجوز الغجرية وتقدم له الطعام والشراب وتقرأ عليه التعاويذ وتصهر فوقه الرصاص وتدس بين ثنايا ثيابه أوراق مطوية تحمل كتابات لا تشبه كتابة أي لغة في العالم , علها تطرد الشياطين المعششة في روحه .


تماثل شفان للشفاء وخرج من خيمته يتجول بين الخيام ويأكل ويشرب ويعمل مع الغجر حتى غدا واحدا منهم , يرقب يدي يونس الماهرتين في صنع الغرابيل حيث يكور الصفيحة الخشبية التي يبلغ طولها المتر ونصف المتر وبعرض عشرة سنتيمترات تقريبا ويثبت النهايتين إلى بعضهما , ويثقب أحد الحافتين ثقوبا متعددة ومتقاربة , ثم يصنع من الجلود المدبوغة خيطانا يوصل بها كل ثقب إلى الثقب المقابل له من الدائرة . وخارج الخيام أطفال أقدامهم عارية يملأ القذى زوايا عيونهم والمخاط أنوفهم , أسراب من الذباب تلفهم وتحط على أنوفهم وعيونهم باحثة عن الرزق , يلهون أبدا بالحمير والكلاب , يرفعون ذيل الحمار ويدسون الحسك بينه وبين العجان فيغرز شوك الحسك في الجهتين وينط الحمار ويرفس مطلقا رشقات من الضراط من مؤخرته ويبدأ معه الضحك حتى قطع الأنفاس , ومن بلغ المراهقة من الأطفال الذكور يحبذون اللعب مع الأتان يركبونها ويقودونها إلى حيث لا يراهم أحد فيدسون شيئا آخر في عجانها غير الحسك . لا يشفى غليل أطفال الغجر الأشقياء فيربطون ذيل الكلب بخيط طرفه الآخر مربوط بعدة قطع بالية من التنك , يجري الكلب فيسمع صوتا مخيفا يلاحقه فيجفل ويزيد من سرعته وتزداد حدة الصوت خلفه وهكذا حتى تنفد قواه فيتوقف لاهثا .


ثمة خيمة يعيش فيها زوجان , تجاوزا الخمسين من العمر , لا يخرجان منها إلا للضرورة سأل شفان عن السبب فأفهمه أحد الغجر أنهما ارتزقا ولدا وسيما بعد عشرين سنة من العقر ومنذ سنة اختطفته عصابة تتاجر بأعضاء البشر وكان الولد لم يبلغ الثامنة بعد , حزن شفان كثيرا عندما سمع هذه القصة وصار يتردد على الأبوين بين الحين والآخر .


تنطلق الدراجة ذات الدواليب الثلاثة في الصباح الباكر حاملة حوالي عشرين غجريا يتزاحمون في مساحة لا تزيد عن أربعة أمتار مربعة كما يتزاحم النحل على قرص العسل , تتوقف الدراجة في ساحة قرية فينطلق النحل شذر مذر , فرادى ومثنى وثلاث في بيوت القرية , الكهلات من النساء الموشومة الوجوه تمتهن التسول , يدسسن في شقابينهن كل ما يعطى لهن من رز وبرغل ولباس وأحذية بالية , ومنهن من يحترفن ضرب المندل والتظاهر بمعرفة علوم الغيب فيجتمع حولهن الشباب والبنات يبغون معرفة ما يحمل لهم المستقبل من أحداث طالما فكروا وحلموا بها . التبصير والتنجيم عند الغجريات يخضع لقوانين السوق فمن يدفع أكثر فمستقبله مشرق , تفتح له السماء أبواب الحظ حتى يصبح التراب بين أنامله ذهبا , ومن يدفع أقل فمصيره عاتم , يبدأ في النحيب على سعده المشؤوم بعد مغادرة الغجرية . أما الرجال فيجولون في أزقة القرية , منهم من ينادي : " أسنان , أسنان , أسنان " , والبعض الآخر يصيح : " غرابيل , غرابيل , غرابيل " , ومهمة شفان بينهم انحصرت على تصليح البنادق والمسدسات .

عندما تبلغ الشمس الأصيل يعودون إلى دراجتهم المقطوعة الشطمان فتزعق عائدة باتجاه الخيام ليعيدوا الكرة في اليوم التالي , لكن إلى قرية أخرى .


وفي الليل تصطف الكراسي والمناضد في خيمة المضافة الكبيرة بشكل صندوق ناقص ضلع وتأتي الزبائن من كل حدب وصوب . يدوزن جعفر أوتار طنبوره , ويصفع ابنه أوسب وجه الدربكة منبأً ببدء السهرة وتدخل الغجريات من بين الزبائن مطلية الوجوه بألوان فاقعة ترتدي ملابس مزركشة قصيرة بالكاد تغطي العجان , ولا يلبسن تحته شيئا لسهولة العمل , تفوح رائحة العطور , وتهتز الأكتاف وتتمايل الخصور يمنة ويسرة وتتموج الأدبار المكتنزة بالشحم . ترتفع الكؤوس وتمس شفاه الرجال , وينبعث الدخان من الأنوف مثل مداخن قطارات الفحم ويملأ الخيمة , وتبدأ المنافسة الحامية بين الحضور للنيل بالحسناء جميلة . المال هو الذي يقضي بين المتخاصمين ويحدد من هو جدير بجميلة المثيرة , فتتطاير الأوراق من فئة الخمس ملايين .

يقتربن من الجالسين ويهزهزن أثداءهن حتى تدس ملايين الليرات التركية بين الأثداء ومن ثم تبدأ معركة الأيدي والصدور حتى ينتصب الرجل ويأخذها من يدها إلى خيمة ثانية وهناك تبدأ المعركة الثانية يرافقها لهاث , وتنتهي بأنين فاسترخاء , ثم ينال الرجل المنتصر بعد هذه المعركة نصيبه من بعصة من أصبع الغجرية , ثم يخرج مترنحا خالي الجيوب .

أما من يمد يده على صدر دون أن يضع المال فحسابه معروف : تأتي الأميرة زينب وتقول له : عليك أن تدخل إلى هذا المكان المحترم بأدب وتخرج منه بأدب وإلا ستطرد مثل الكلب , فيحنق الرجل دون أن ينبس ببنت شفة .

تكل أنامل جعفر ويتوقف عن العزف , ويدخل جمو ونصفه العلوي عار , يبصق ثلاث مرات على كفه ويضعه في أبطه ويبدأ بتقريب وتبعيد ذراعه بحركات متتالية محدثا سيلا من الضراط فتنطلق القهقهات حتى يسقط
 

G.M.K Team

G.M.K Team
رد: نواح كردي في هيستنغز (د آلان كيكاني)

البعض من على كرسيه . ثم تزعق الزرناية وتدوي الطبول ويقوم الجميع للرقص , تتطاير قوارير العرق والبيرة والويسكي , وبين كل هذا وذاك ينبح كلب هنا وينهق حمار هناك .

يحدث هذا كل ليلة أمام أعين شفان الذي كلفته الأميرة زينب بمهمة الشرطي في السهرة بعد أن وجدت عضلاته المفتولة وأكتافه العريضة وشواربه السوداء الكثيفة . يجلس شفان خلف منضدة كأي زبون يتدلى المسدس من خاصرته تحت المعطف وتحت منضدته عصا من الخيزران , إذا خالف أحدهم القانون ينذر شفهيا من قبل الأميرة , وإذا عاود المخالفة مرة أخرى فحسابه عند شفان . شفان الذي لم يره أحد يبتسم مرة , يجلس كئيبا ويراقب ما يحدث حوله .

يسيل لعاب جميلة , ذات الصدر الناهد والمؤخرة المحشوة باللحم والدهن والقامة الطويلة والعينين السوداوين المثيرتين والخصر النحيل والسيقان البلورية المنتوفة الشعر , يسيل لعابها كلما اقتربت من شفان الغارق في التفكير أبدا , باءت كل محاولاتها لاستدراجه بالفشل , فأطلقت عليه اسم العنين . لم يعرها شفان اهتماما ولم يتحدث إليها يوما . لكن شيئا واحدا كان يلفت نظره : الأساور الأربعة التي تزين بها جميلة معصمها الأيسر !!

مرت أسابيع وشهور وفصول تنقلت فيها خيام الغجر من موقع إلى آخر يبعد عنه عشرات الأميال , وطاف فيها شفان معهم في أرياف ولايات أديرنة وتكرداغ وكركلارلي والجزء الأوربي من استانبول وتشاباكالة , حتى كان الصيف الثاني لشفان بين الغجر , حيث دارت الخيام دورتها وانتصبت في نفس المكان الذي التحق بها شفان قبل عام ونصف , وكان قد تعلم التركية جيدا . في إحدى الأماسي الصيفية بدأت السهرة خارج الخيام , وتوافد الرجال من القرى والبلدات المجاورة , توقفت سيارة قريبا من الحشد ونزل منها رجلان , تحدق شفان بهما جيدا وعرفهما , كان الرجلان هما مراد عامل الفندق وكمال المهرب , جلس الرجلان , نهض شفان من مكانه وجلس على كرسي كان شاغرا إلى جانبهما وهو يسترق السمع صامتا لا يتفوه بكلمة , طلبا كأساين من البيرة , فغمز شفان للساقي , ثم كررا الطلب مرات ومرات , تعلم شفان من الغجر كيف يؤدب الزبون السيئ دون أن يشعر , كؤوس وكؤوس من الويسكي ذات التركيز العالي من الكحول بطعم البيرة الألمانية تجرعها كمال و مراد حتى انتشيا , فتكسرت أبواب الأسرار في حنجرتهما وخرجت تهرول كما تخرج الخنازير الجائعة من حظائرها باتجاه الحقل , فالخمر مفتاح الأسرار ووقود اللسان . وسط القهقهات الصاخبة قال كمال محدثا مرادا :
_ يا ترى أين هم آزاد ونسرين الآن ؟
_ أظن أنهما خلفنا في قاع نهر ماريتسا يبحثان عن الضابط كوستانيوس .
_ ها ها ها ها , طول عمرك فهيم وذكي , برافو عليك يا مراد . نحن دائما مع جمعية الرفق بالحيوانات لأننا نطعم أسماك نهر ماريتسا كل فترة بلحوم أناس لا يستحقون الحياة , يعيشون هنا كالفئران وعندما تطأ أقدامهم أوروبا يصبحون رجالا يتكلمون بالسياسة وينتقدون دولتنا .
_ لماذا لم نستمتع بنسرين قبل أن تأكلها الأسماك ؟
_ الآن بدأت بالهراء , يا حمار , أنظر إلى جسم جميلة , من يستطيع أن ينال هذا الجسم لا يقترب من أجسام متعفنة كجسم نسرين الخالي من الأنوثة , بعد قليل سنضع الطوق الذهبي الذي كان في عنق نسرين قبل ساعات في جيد جميلة , وسنبقى معها حتى الصباح , سأسلمك إياها عندما أشبع منها , أنظر إلى معصمها الأيسر , لا تزال أساور بيريفان العراقية تتلألأ فيه , أهديتها لقاء أربعة ليال .
_ ألا زلت تتذكر بيريفان . قبل سنة ونصف ؟
_ أوه , كيف لا أتذكر ذلك الوجه الملائكي والشفتين الجذابتين , نظرت إليها من مرآة السيارة وكان زوجها شفان يجلس بجانبي , ولكن العاهرة لم تنظر إلي بتاتا , كان الحمار زوجها مخيفا لذلك لم أتجرأ على القيام بأي حركة مشبوهة .
_ عندما دخلت عليهما في غرفة القبو لأسرقهما بعد أن وضعت لهما المنوم في الشاي كانت تعانق زوجها وساقاها مكشوفتان وهي نائمة , تملكتني الغلمة ودخت من شدة الإثارة ولكني الآخر لم أتجرأ على مجرد لمس جسمها , رغم أن كمية الدواء المنوم التي وضعتها كانت كافية لتنويم فيلين .
_ تف عليك أيها الجبان المخنث , لو كنت مكانك حينذاك لضاجعت كليهما .

نهض شفان خلسة وتوجه نحو محرك الكهرباء الذي كان بعيدا شيئا ما عن الخيام حفاظا على راحة الزبائن وأفرغ قالونا من الماء في خزان الوقود , وما إن عاد وجلس في مكانه حتى وصل الماء إلى بخاخات المحرك فهدأ صوته وذهب كل شيء في عتمة دامسة , عمت الفوضى في الظلام وصاح البعض يطلب النور وخاصة من دفع ولم يبلغ مأربه , حاول رجال الغجر إصلاح المحرك دون فائدة , وشرع الزبائن بالخروج واحدا وراء الآخر وهم يطلقون الشتائم واللعنات , عرض شفان مساعدته على كمال ومراد وقال :
_ أعتقد أنكما , أيها الأفنديان , أثقلتما في الشرب , فهل لي أن أساعدكما في قيادة السيارة حتى أوصلكما إلى بيتيكما ؟ إني أخشى عليكما من أن تتعرضا لحادث مروري .
_ لكننا نعيش في اسطنبول وهي تبعد مائتي كيلو متر من هنا . رد كمال .
_ وليكن .
_ وكم هي أجرتك ؟
_ لا شيء , لدي حاجة مهمة في اسطنبول غدا , سأقضيها صباحا وأعود بعدها إلى البيت .
_ اتفقنا .

على الضفة التركية من نهر ماريتسا ثمة ربوة تنحدر بشكل حاد إلى المجرى وهي تبعد عن خيام الغجر مسافة خمسة أميال باتجاه قرية كاراجاسم التركية , وهناك طريق صخري بين الخيام وتلك الربوة , جلس كمال ومراد في المقعدين الخلفيين , وأطلق شفان عنان السيارة باتجاه تلك الربوة , بدأ الرجلان الثملان بالغناء بصوت عال وهما يقولان : هزي يا جميلة هزي ثم يطلقان القهقهات دون أن يعلما إلى أين تتجه السيارة , سأل كمال شفان وقال :
_ هل لك صلة قربى بجميلة ؟
لم يرد شفان على سؤاله , وتابع كمال :
_ أشهد أنها فتاة محترمة وشريفة .
أطلق الرجلان ضحكات عالية , وقال مراد :
_ توقف أيها الغجري قليلا لنبول وندخن سيكارة .
_ لطفا , دقيقة واحدة, أفندم , حتى أجد مكانا أصف فيه السيارة .

على بعد عدة أمتار من حافة المنحدر توقف شفان وخرج الرجلان من السيارة يترنحان , وقفا قريبين من بعضهما مديران ظهريهما إلى السيارة وأفلتا مصرتا البول , سار شفان ووقف خلفهما على بعد حوالي ثلاثة أمتار , لقم المسدس فارتعب الرجلان والتفتا إلى الخلف , أطلق شفان طلقة من بينهما فصرخا مذعورين ورفعا يديهما يتوسلان بلهاث متقطع , طلب منهما أن ينبطحا أحدهما فوق الآخر ولا يبديان أي حركة وإلا سيلقيان الموت المحقق , فنفذا بسرعة مرتعدين , أخرج شفان حبلا من تحت حزامه ولفه حول أرجلهم الأربعة وربطه بإحكام , ثم أحاطه بالجذعين والعنقين والآباط والأكتاف والأذرع وشده حتى غديا مثل صندويشة وخرجت الويسكي من فميهما , ثم عقد نهايتي الحبل . تعالى صوتاهما يبكيان ويطلبان الصفح والمغفرة ويوعدان بتلبية كل مطالبه , قال شفان بالكردية :
_ أنا شفان , شفان الذي كنتما تتحدثان عنه قبل قليل , أنا زوج بيريفان القابعة أسفل مياه ماريتسا تطعم أسماكه من لحمها وتبحث عن الضابط كوستانيوس منذ سنة ونصف السنة , وقد نفد لحمها ولم تعثر على كوستانيوس , وجاء الآن دوركما للبحث عنه وإطعام أسماك ماريتسا .

دفعهما شفان بقدمه باتجاه المنحدر كما يدفع البرميل , ركلهما بعنف على الحافة فتدحرجا باتجاه الوادي مثل الكرة حتى سمع صوت سقوطهما في النهر , وجه السيارة باتجاه المنحدر ودفعها بيديه فتدحرجت هي الأخرى حتى سقطت في النهر ثم عاد إلى الخيام سيرا على الأقدام .


دار دولاب الزمن ودارت معه خيام الغجر حتى كان الخريف الرابع لشفان بينهم حين حطت الخيام قريبا من ماريتسا , خلعت الأشجار أثوابها الصفراء وتناثرت الأوراق الذهبية هنا وهناك تتلاعب بها نسمات الخريف العليلة , وحياة الغجر تسير بشكل معتاد : يلمون مستلزمات الشتاء القادم في رحلاتهم النهارية إلى القرى والبلدات المجاورة وفي الليل يبدأ السهر المعتاد حتى الفجر .

في أحد أيام ذلك الخريف هبت عاصفة هوجاء على الغجر , كان الوقت عصرا , عادت الدراجة ذات الدواليب الثلاثة من رحلتها محملة بالأرزاق من زيت وسمن ورز وبرغل وألبسة شتوية بالية للأطفال والشيوخ , اجتمع الجميع يتناولون وجبة الغداء في إحدى الخيام , بينما كان الأطفال يلعبون خارج البيوت , وفجأة تعالت أصواتهم من بعيد مستغيثين , خرج الجميع من الخيام ليجدوا ثلاثة رجال يرتدون أطقما ونظارات سوداء ومسلحين بالبنادق يحشرون طفلين في سيارة مرسيدس سوداء , ارتفع عويل النساء وارتبك الرجال حائرين , انطلق شفان كالبرق نحو الطريق الترابي الذي يوصل الخيام بالطريق العام بين قريتي سازليدر و كاراجاسم واختبأ وراء صخرة على حافة الطريق ولقم المسدس وسدده باتجاه السيارة التي انطلقت مسرعة باتجاهه حتى كانت على بعد عشرات الأمتار منه , أطلق الطلقة الأولى فأصاب السائق من رأسه فخرجت السيارة عن الطريق وارتطمت بصخرة وتوقفت , خرج أحدهم من الباب الخلفي آخذا وضعية القرفصاء ومسددا بندقيته صوب الصخرة , أطلق النار على شفان فأخطأ الهدف , أطلق عليه شفان طلقة واحدة أصابت صدره فسقط أرضا , ألقى الثالث بندقيته ورفع يديه مستسلما , وفتح الطفلان الخائفان باب السيارة وهرعا باتجاه الخيام , طلب شفان من المستسلم أن يبتعد عن السيارة وينبطح أرضا فنفذ الرجل , في تلك الأثناء وصلت جموع الغجر الغاضبة من رجال ونساء وشيوخ إلى أرض المعركة بعد أن شاهدوا ما جرى , تهاوت الحجارة والأحذية والعصي على رؤوس وأجساد الرجال الثلاثة حتى لم يبق في جسمهم عظم إلا وتفتت إلى عشرات الشظايا وسالت دماؤهم وتسطحت أجسامهم وتفرشت على الأرض رغم أن شفان حاول منعهم من ذلك ولم يستطع , ترك الغجر الجثث وعادوا إلى الخيام فصاح بهم شفان : إلى الرحيل , أيها الغجر , إلى الرحيل ! وإلا سوف تبادون .


حمل الغجر ما خف حمله وغلا ثمنه وركبوا ظهور البغال والحمير وعبروا نهر ماريتسا ودخلوا أرض اليونان , قضوا ليلتهم في غابة , وفي اليوم التالي ابتاعوا خياما وأعمدة من أوريستياس وحملوها على متون حيواناتهم وانطلقوا يتجولون في القرى والقصبات , قضوا الخريف والشتاء يطوفون في قرى ماني وكيرياكي وزوني وبيتروتا وماراسيا


أطل شهر شباط , بوابة الربيع , وارتوت الأرض بأمطار الشتاء , وانتشر عبق النرجس والقرنفل بين الغابات والحقول . أيام قليلة وتتفتق براعم شقائق النعمان والسوسن ويتلألأ زهر اللوز الأبيض على أشجاره مثل ندف الثلج , وتزهو الأرض بأبهى حللها , وتتزاوج الطيور وترقد في أوكارها حالمة بفراخ ناعمة الزغابات .

عندما نصب الغجر خيامهم في نيافيسا في بداية شهر شباط كانت الأرض قد أكملت دورتها الرابعة حول الشمس منذ أن افترق شفان وبيريفان . أربعة سنوات مرت بمرارة وألم وكل منهما كان قد سلم بالغياب الأبدي للآخر . في صباح سطعت فيه الشمس في أرض اليونان انتشر الغجر في قرية نيافيسا يتنقلون من بيت إلى آخر بحثا وراء الرزق , منهم من تقاعس عن زيارة ذلك البيت القابع وحيدا خارج القرية ومنهم من دفعه الفضول إلى زيارته , اعتاد شفان أن يجول مع عزت , الشاب الغجري البارع في قلع ومداواة وصناعة الأسنان , لكن بلاد اليونان تختلف عن بلاد الأتراك , فاليونانيون أقل اهتماما بالأسلحة , ويزور من لديه مشكلة في أسنانه عيادة طبيب بدل من انتظار الغجر , لذا وجد الشابان نفسيهما بلا عمل في موطنهم الجديد , يطوفان الشوارع عارضين خدمتهما لكن بلا جدوى , خرجا من بين بيوتات القرية عند الظهيرة يتجولان بين الحقول ويستنشقان روائح الأزهار , لفت انتباههما ذلك المنزل الجميل المنتصب بجانب تلة بعيدا عن القرية , عبرا جسرا صغيرا قائما على جدول يفصل القرية عن البيت الشارد وحيدا وتوجها بخطوات بطيئة باتجاهه يتبادلان الحديث ويسترقان النظر إلى الطبيعة الخلابة , توقف عزت و أشعل سيكارة وأطلق تنهيدة طويلة واضعا رجله على صخرة صغيرة كانت على جانب الطريق يرنو إلى ما وراء نهر ماريتسا حيث القرى التركية . " لقد اشتقت إلى آيشة يا شفان " قال عزت بمرارة واغرورقت عيناه بالدموع . وقف شفان بجانبه ووضع يده على كتفه يمسده مواسيا دون أن ينطق بكلمة , لكن قلبه كان يتفطر حزنا . آيشة , الفتاة التركية , عشقها عزت وعشقته منذ سنوات وهي لا تزال تنتظره ليخطفها , ولكن العاصفة التي ألمت بالغجر حالت دون ذلك , عندما عبر الغجر نهر ماريتسا قبل أربعة أشهر كان عزت , البالغ من العمر تسع وعشرين سنة , على وشك جمع المال الكاف الذي يمكنه من الهجرة مع آيشة إلى رومانيا ليستقر فيها هربا من غضب عائلة آيشة . عزت , ذاك الشاب الخلوق , الهادئ الطبع , والذي لا يتكلم إلا عندما يسأل , قد جمعته صداقة ومحبة حميمة بشفان وبادله شفان نفس الشعور , لكن شفان لم يبح بمأساته لأحد يوما , والجميع كان يقول أن في عينيه سر لكنه كتوم لا يحادث أحدا حول خصوصياته . " الحياة دون حب لا تساوي هذا العقب " قالها عزت عندما رمى عقب السيكارة وداس عليه . رد عليه شفان متنهدا :
_ أصبت كبد الحقيقة يا عزت .
تابع الرجلان سيرهما بخطوات ثقيلة , وكل يبكي على ليلاه , حتى وصلا إلى زاوية بيت أنتيباس المحاط بسور واطئ حيث عرجا يسارا قاصدين الصعود إلى التلة المجاورة للبيت , في قنة التلة المطلة على السور أقعى شفان على العشب الأخضر مسترسلا بصره إلى نهر ماريتسا الذي كان يبعد عن التلة مسافة ميل ونصف الميل , وعلى يمينه , أسفل التلة , وعلى بعد عشرات الأمتار , ترعى نعاج وخراف أنتيباس في حقل الشعير , وعلى يساره تربع عزت وأخرج علبة السكاير وبدأ يدخن بنهم . ساد الصمت , الشمس قاربت الأصيل , هدأت الرياح فتوقفت حركة أغصان وأوراق الأشجار , مالت أغصان اللوز البيضاء على جذوعها , تراقصت العصافير بين الأشجار والحقول وفي مناقيرها ندفة من القطن أو الصوف أو زغابة طائر أو قشة أو غير ذلك مما يشكل لبنات أعشاشها , وصل ظلهما إلى منتصف حقل الشعير حيث تلعب الخراف حول أمهاتها فيسمع صوت ارتطام أظلافها الصغيرة ببعضها . ترقرقت الدموع في عيني شفان ومد أصبعه باتجاه ماريتسا وقال :
_ هناك , يا عزت , هناك .
سكت شفان لثوان , وعزت ينظر إليه ينتظر سماع التفاصيل .
_ ماذا هناك يا شفان ؟؟ سال عزت .
_ هناك , في ماريتسا , غرقت حياتي , ووئدت آمالي , وغابت شمسي منذ أربع سنوات . ومذ ذاك الحين , يا عزت , وأنا أعيش في ظلام دامس من الكآبة والوحشة واليأس , أتمنى الموت كل لحظة , ولكن الله يأبى استرجاع أمانته .
بدأ شفان بسرد قصته . وعزت بات يشعل السيكارة بعقب الأخرى حتى نفدت العلبة كلها فأخرج الأخرى من حقيبته , وهو يسترق السمع والبصر إلى رفيقه الكتوم , ذي السر الكبير في عينيه , الذي لا يبوح لأحد بشيء , وها هو الآن فتح أبواب تلك الأسرار وباتت تخرج من حنجرته وعينيه وقلبه , تخرج من حنجرته صوتا نصفه بكاء وتنهدات , ومن عينيه سائلا شفافا رقراقا , ومن قلبه لهفا وحسرات .


جلست بيريفان مع أنتيباس , الذي أعياه المرض والشيخوخة فبات لا يقدر على النهوض إلا بمساعدة بيريفان ولا يستطيع المشي إلا بعكاز , جلسا على مقعدين بلاستيكيين أمام الباب الخلفي للمنزل والذي يطل على التلة يتشمسان ويحتسيان الشاي ويرقبان الأغنام والخراف .

أنتيباس يتحدث والخرساء تومئ بيديها ورأسها بلغة البكم , يقول أنتيباس : " إنني على وشك الرحيل يا ابنتي " , فتبكي الخرساء , ويتابع أنتيباس : " نقلت وصية أملاكي من الكنيسة إليك " فتومئ الخرساء أن لا , ينصحها أنتيباس : " عليك بالزواج , يا ابنتي , والعيش مع عريسك في هذا البيت ولكما كل ما أملك " فتنزل الدموع من عيني الخرساء وتنهض وتجلب المسجلة وتصغي إلى أغاني محمد شيخو , فيغرق الشيخ في أفكاره ويقول في نفسه " ليتني أكتشف السر والكبرياء الذي في عينيك قبل أن أموت , أيتها الخرساء العنيدة " .

في خضم سرده سمع شفان صوت محمد شيخو يصدح : " عندما رأيتك يا نسرين , انهمرت الدموع من عينيك السوداوين............ " . سكت وابتسم ابتسامة خفيفة قائلا في نفسه : " إنه الهلوسة والهذيان ليس إلا " , تابع الحديث ولكن أنين الأغنية استمر يداعب أذنيه , توقف عن الكلام مرة أخرى وسأل :
_ أتسمع صوتا يا عزت ؟
_ نعم أسمع أغنية بعزف منفرد ؟
نظر شفان من فوق كتفه اليمين ليرى فتاة تشبه بيريفان تجلس على كرسي مع شيخ أمام الباب الخلفي للمنزل المطل على الحقل حيث تسرح النعاج والخراف , أشار بيده إلى حيث الفتاة والشيخ وسأل :
_ ماذا ترى هناك يا عزت ؟
_ ما بك يا رجل ؟؟ إنهما فتاة وشيخ كبير يجلسان أمام باب بيتهما ويصغيان إلى أغنية ويراقبان الأغنام . هل جننت يا شفان ؟
نهض شفان وسار خطوتين وحدج الفتاة مليا وتفرس فيها ثم صاح بأعلى صوته :
_ بيريفان , بيريفان .

نهضت بيريفان محدقة إلى قنة التلة , رأت شفانا ينحدر من السفح باتجاهها , شعرت أن الأشياء تدور من حولها ثم غشا ستار أسود عينيها وترنحت يمنة ويسرة , تناول أنتيباس يدها فسقطت في أحضانه وذهبت في غشية .

نزل شفان إلى أسفل التلة مسرعا ويتبعه عزت , قفز من فوق السور الواطئ ودخل الحقل يهرول على عجل بين الأغنام حتى وصل إلى حيث بيريفان والعجوز . ظن أنتيباس أنهما لصان جاءا لسرقتهما أو لخطف بيريفان فدافع عنها , عند وصول شفان ومحاولته أخذها , بعكازه وهو جالس على الكرسي ويصرخ : " النجدة , النجدة , ابتعدوا أيها اللصوص " , ينقر بنهاية العكاز صدر شفان ويدمدم ويرطن باليونانية : " ابتعد أيها اللص , ابتعد " .


" لص يبكي بلوعة ويهاجم ليأخذ الخرساء !! إني لأشك بوضع هذا اللص " قالها أنتيباس في نفسه مستسلما أمام اللص الذي تناول الخرساء من بين يديه وأخذ يشمها ويضمها ولا يكف عن البكاء وهو يردد صراخه الذي لا يفهمه كل من عزت و أنتيباس " بيريفان , بيريفان , استيقظي حبيبتي . أنا شفان "

عزت , الذي أدرك ما يحدث , جلس بالقرب منهما يسحب دخان سيكارته بنهم ويده اليسرى , فيها منديل , لا تبارح عينيه الباكيتين , أما أنتيباس فظل يردد السؤال باليونانية : " ما الذي يحدث ؟ أرجوكم " دون أن يحصل على جواب .

كادت أن تجحظ عينا الشيخ الجالس على كرسيه من شدة الذهول والاستغراب عندما سمع الخرساء وقد نطقت بلغة لا يفهمها , بعد زهاء عشر دقائق فتحت بيريفان عينيها واستعادت وعيها قليلا وهي تلمس وجه شفان بيدها لتتأكد من حقيقته .

حمل عزت حقيبته وانصرف , بينما نهض الشيخ ودلف إلى داره بعد أن احتار في تفسير ما يجري .

. . .


تعانق قلبان جريحان , والتحمت روح بعد أن فلجت وانفلقت إلى نصفين ضائعين هائمين في فضاء عاتم من الأحزان لمدة أربعة سنوات .
أربعة سنوات من الشتاء القاتم المصحوب بغمامة كثيفة من الكآبة مرت ثقيلة عليهما , و ها هو الربيع أطل بزهوه من جديد ليزرع بذور الأمل في نفسيهما .
أربعة سنوات من الخرس انتهت لتتحدث الخرساء , وباليونانية أيضا .
أربعة سنوات من الأشجان انتهت , وها هما الآن يقفان إلى جانبي الشيخ يشدان على يده في قمة التلة يرنون إلى لهيب نار نيروز , وبسمات عريضة ترتسم على وجوههم , يغنيان , ويضحك الشيخ , ثم يعودون إلى البيت ليتدبروا أمور الاحتفال في اليوم التالي بنيروز .

صباح نيروز استفاقت بيريفان على صداع , نهضت لتجهز الفطور فشعرت بدوار وغثيان , جلست على السرير إلى جانب شفان الذي استيقظ هو الآخر يسألها عما بها . كان جواب بيريفان :
_ لا شيء , مجرد دوخة وشعور بالغثيان .
اقترح شفان زيارة طبيب فأجابت بيريفان
_ لا , إنه الحمل ليس إلا .
_ الحمل !!!
_ نعم . إنه الحمل , إحدى ثمرات حبنا , ألا تحب أن يكون لدينا طفل ؟
_ بلى , ولكني أكاد لا أصدق فرحا .

اجتمع الثلاثة على طاولة الفطور , سر أنتيباس خبر الحمل وقال :
_ ستعيشان سعيدين مع ابنكما هنا في هذا البيت .
هزا رأسيهما أن نعم وسأل شفان بالكردية :
_ متى سنغادر ؟
_ لن نغادر ما دام هذا الشيخ يحتاج إلى من يساعده .


. . .

في شتاء أنتيباس الطويل غابت شمسه وتلقفته براثن الردى في نهاية الخريف ووري جسده النحيل الثرى بينما كانت بيريفان تعد له الشموع والحلوى للاحتفال بعيده الخامس والثمانين . سار الزوجان في موكبه الجنائزي إلى الكنيسة , و منها إلى مثواه الأخير . حزنت عليه بيريفان كثيرا وذرفت الدموع وأقامت عليه الحداد أربعين يوما , لا تلبس إلا الأسود ولا تتزين .
كان الشيخ جالسا في مكتبته يقرأ آخر رواية لغابريل غارسيا ماركيز عند المساء ولم يكملها بعد , عندما شعر بألم في صدره فصاح لبيريفان مستنجدا , وكان لونه شاحبا وبدأ العرق البارد يتصبب من جسمه , حمله شفان إلى سريره , مسدت له بيريفان صدره , نظر إلى الزوجين بعينين متعبتين ذابلتين وقد غاب البريق عنهما وعليهما طبقة شفافة من الدمع الذي بدأ يسل بطيئا في المآقي وقال محتضرا ومتحشرجا وكان على شفته ابتسامة خجولة : " اعتنيا بنفسيكما , يا أبنائي وبمكتبتي , وعلموا أبنائكم وأهاليكم أن يقرؤوا كثيرا كي لا تتكرر المزيد من المآسي في ديار آبائكم وأجدادكم " . ثم لفظ الشيخ الإغريقي أنفاسه الأخيرة , وأسدل ستار أسود عن عينين ظلا يشعان بالحكمة والتقوى أكثر من نصف قرن .

أعاد الزوجان أملاك أنتيباس إلى وصيته الأولى واستقلا القطار صباحا قاصدين أثينا في أوائل شهر كانون الأول من سنة 1994 , مر القطار محاذيا للحدود التركية اليونانية بعد دقائق من انطلاقه من أوريستياس نظرت بيريفان من النافذة وقالت :
_ أهذه هي الحدود التي كانت تفصل بيننا مدة أربعة سنوات دون أن يرى أحدنا الآخر ؟
_ لطالما فصلت حدود بين قلوب متآلفة لمدة عقود وقرون . رد شفان

في أثينا دلهما أحدهم على مطعم يديره عمال أكراد , دلفاه فاستقبلهما أحدهم عند الباب وقدم نفسه باسم منان , جلسا متقابلين يتبادلان الحديث , اقترب منهما منان وقال بلهجته الكرمانجية العفرينية : " لدينا عرق بيتوتي لذيذ , هل تودان أن تجرباه ؟ " ابتسم شفان وطلب كبابا وسلطة .

بعد وجبة الغداء سأل شفان منانا عن احد يستطيع مساعدتهم للوصول إلى بريطانيا , فدلهم منان على أحد المهربين الأكراد , اتصل به شفان من المطعم ولم يمض إلا نصف ساعة حتى صف محمود سيارته المرسيدس السوداء أمام الباب, نزل منها يرفع نظارته السوداء عن عينيه , يطبق شفتيه على سيكار كوبي فاخر , اتفقوا على كل شيء وأن المال سيدفع عند وصولهما إلى أرض بريطانيا , أخبرهما محمود أن رحلة ستنطلق اليوم التالي من أثينا باتجاه الشواطئ الغربية لليونان , ومنها عبر الحر إلى إيطاليا , ونصحهما باللحاق بها , وعرض عليهما المبيت في بيت غير مسكون يملكه هو عوضا عن الذهاب إلى الفنادق فقبل الزوجان , أوصلهما محمود بسيارته إلى البيت وكان الوقت مساء , كانت الشقة من ثلاثة غرف كبيرة وحمام ومطبخ , كل شيء فيها في حالة من الفوضى العارمة , تفوح منها روائح كريهة , قوارير المشروبات الروحية وعلب السكاير الفارغة تتناثر هنا و هناك , أغطية الأسرة لا يمكن معرفة لونها الأصلي من تراكم الأدران عليها , فتحت بيريفان خزانة قديمة كانت في إحدى الغرف فوجدت فيها ألبسة داخلية نسائية مصممة لإثارة الغلمة عند الرجال , وحمالات الثدي وأحذية ومعاطف غطتها الأغبرة , رتبت بيريفان غرفة كان فيها سرير مزدوج , وعمل شفان كأسين من الشاي وجلسا يرشفانه .

صباح اليوم التالي انطلق بهمم الباص من أثينا باتجاه الشمال يشق طريقه بين طلول السؤدد المنتشرة أنى درت في بلاد الإغريق , كانوا عشرين نفرا من جنسيات مختلفة وبعد مسير ست ساعات نزلوا قرب شاطئ واستقلوا قاربا لمدة ساعة أوصلهم إلى جزيرة كيركيرا , تناولوا الغداء هناك ثم ركبوا باصا آخر وقد انضم إليهم عشرون آخرون قاصدين الشاطئ الغربي للجزيرة , وهناك توقف الباص في مكان غير مأهول حيث كان بانتظارهم قارب صغير لا يتسع سوى لعشرين راكبا وانطلق القارب باتجاه الغرب يمخر عباب بحر الأدرياتيك في مضيق أوترانتو يحمل على متنه أربعين نفرا عدا الطاقم .

كان الجو باردا والغيوم متلبدة والرياح غربية تحمل نسمات باردة من شواطئ ايطاليا الشرقية , لم يكن في القارب من المؤن سوى عدة أكياس صغيرة من الخبز المعفن وبعض علب السردين ولحم التونا , كان السفر قد أنهك الركاب وما أن ابتعد القارب عن الشاطئ حتى سمع شخير البعض وهم جالسون , تتمايل رؤوسهم حتى تطرق برأس مجاور فيفيقون مذعورين ويعتذرون من بعضهم , حل ظلام دامس وسط البحر , وبين الحين والآخر تتساقط قطرات المطر ممزوجة بندف الثلج , الهواء البارد يتسرب من شقوق نوافذ القارب محدثا أنينا حزينا في آذان تركت بلادها بحثا عن حياة أفضل , ومنهم هربا من جبروت طاغية أو من وطأة تقاليد وأعراف بالية , ومنهم ينشد الأمن بعد أن تفشى العنف والدمار في بلاده . الكل كان يحلم بالوصول إلى تلك الجنة الخضراء ذات الحور العين وأنهار العسل والخمر , الجنة التي يزول فيها الفرق بين الأبيض والأسود وبين العين السوداء والزرقاء وبين من يعزف على الطنبور ومن يعزف على العود أو الغيتار , وبين من يكتب من اليمين إلى اليسار ومن يكتب من اليسار إلى اليمين . جنة تفوح منها رائحة الحرية وحقوق الإنسان . جنة أسمها أوروبا بناها أهلها بالدم والفكر بعد معاناة امتدت لقرون .

رسا القارب فجر اليوم التالي في شاطئ جبلي غير مأهول عند كعب ايطاليا , اقتفوا الدليل يسيرون في أرض موحلة وعرة في جو ماطر بارد , بعد مسير نصف ساعة كانت ثمة سيارة تنتظرهم بين الأشجار , صعدوا إليها وتدحرجت السيارة في طريق جبلي لمدة عشرين دقيقة حتى وصلت إلى طريق إسفلتي حيث صعدت من خلال ساق ايطاليا باتجاه الركبة التي تتمفصل مع جسم فرنسا في رحلة استغرقت اثني عشر ساعة , الساعة الخامسة مساء نزلوا من السيارة وسط جبال الألب بعد عبورهم مدينة تورين بساعة وتبعوا المرشد سيرا على الأقدام في منطقة نائية غير مسكونة ذي غابات كثيفة , شقوا طريقهم بين الأشجار الكثيفة يصعدون تارة ويهبطون أخرى بين الأثلام والأخاديد التي تفصل فرنسا عن ايطاليا , تغوص أكعاب نعالهم في الأوحال مرة وتصطدم بالحجارة مرة أخرى يتلكأون ثم يتماسكون يسقطون ثم ينهضون , في هذه الأثناء شعرت بيريفان بألم ماغص أسفل بطنها لم يطل سوى ثوان ثم اختفى , كانت هناك سيارة أخرى بانتظارهم وسط الأدغال بجانب طريق إسفلتي ضيق يصل قرية فرنسية صغيرة بالطريق العام , ركبوها يتدافعون , انطلقت السيارة , شعر المهاجرون بالدفء وغطوا في النوم إلا بيريفان التي شعرت أن الألم يشتد وطأة ويطول مدة ويقصر الفاصل الزمني بين نوبة وأخرى , " أشعر أن أحشائي تتقطع " قالتها بيريفان لشفان عندما انتابتها نوبة .
_ لعله البرد والتعب " رد شفان .
_ لا , إنها آلام الولادة .
_ الولادة !! قال شفان مذعورا
_ نعم , إنها أمغاص الولادة , نساء القرية كن يقلن أن الولادة الأولى تطول يوما كاملا من بدء المخاض . قالت بيريفان لتهدئ من روع شفان .

وبعد ثلاث ساعات توقفت السيارة في فسحة كانت على يمين الطريق العام وصاح المرشد بالركاب " على المهاجرين إلى ألمانيا النزول والصعود إلى سيارة أخرى " , نزل نصف الركاب وصعدوا إلى سيارة كانت تنتظرهم هناك , ثم استأنفت السيارة مسيرها تقل النصف الآخر من المهاجرين إلى انكلترا .

شاحنات طويلة ذات صناديق مغلقة تأتي من إنكلترا عبر نفق تحت بحر قناة الإنكليز محملة بالأبقار ومشتقاتها , تفرغ شحناتها في المدن الفرنسية القريبة من النفق ثم تشحن ثانية بالأعلاف وتعود عبر النفق إلى انكلترا , وقد اعتاد سائقو هذه الشاحنات على تهريب المهاجرين غير الشرعيين من فرنسا إلى انكلترا , حيث تملأ مقدمة صندوق الشاحنة المغلق بالمهاجرين ومؤخرتها بأكياس العلف من تبن وشعير ونخالة .

في قرية قريبة من مدينة كالية الفرنسية الواقعة على مضيق دوفر كانت هناك شاحنة متوقفة على يمين الطريق العام تنتظر المهاجرين , وقفت الحافلة خلف الشاحنة وانحدر منها الركاب ثم صعدوا الأدراج إلى صندوق الشاحنة , قادهم السائق إلى مقدمة الصندوق ثم أدار لوحة كانت على الجدار الداخلي للصندوق مصممة خصيصا لفصل صندوق الشاحنة إلى غرفتين . عشرون نفرا وقفوا في مساحة لا تتعدى ستة أمتار مربعة , موقف ذكر شفان بدراجة الغجر ذات الدواليب الثلاثة عندما كانت تنطلق بهم في القرى والقصبات التركية , أحكم السائق اللوحة على الجدار الثاني للصندوق فأطبق الظلام الدامس على الركاب , سارت الشاحنة عشرة دقائق ثم وقفت لمدة ساعة كاملة كان يسمع خلالها خشخشة أكياس الخيش المليئة بالتبن , بدأت رحلة الشاحنة واشتد معها أنين بيريفان في الحجرة الصغيرة العاتمة كالقبر . حزم خافتة من الأشعة كانت تتسرب إلى الداخل من خلال فتحات صغيرة في زوايا الصندوق منبعثة من مصابيح نفق قناة الإنكليز الشديدة الإنارة بالكاد كانت تسمح بتمييز شخص من آخر , لم تسمح لهم تلك الرقعة الضيقة بالجلوس لكن عندما أدرك الجميع الموقف التزوا ببعضهم ليتركوا فرصة للماخض كي تجلس , جلس شفان على إليتيه في زاوية الصندوق مسندا ظهره على الجدار المعدني وباسطا رجليه وجلست بيريفان على فخذيه ساندة ظهرها على الجدار الآخر . تنتابها نوبة المغص فتسحب نفسا عميقا وتحبسه في صدرها وتتقطب ملامح وجهها وتصر على أسنانها وتحزق عضلات بطنها حتى تغدو البطن صلبة كالحجر ويتشنج كل جسمها كأنه خشب وتطوي ركبتيها وتشد على يدي شفان بيديها , تستمر النوبة دقيقة ثم تزول فتطلق زفيرا طويلا له صرير وأنين ويسترخي جسمها وتلهج بالشهادة , تستريح لثلاثة أو أربعة دقائق ثم تعاود نوبة أشد من سابقتها .
_ تمالكي نفسك يا عزيزتي , ما هي إلا نصف ساعة ونكون في المستشفى إنشاء الله . قال شفان هامسا
_ إنني آسفة أن اسبب لك الإزعاج , أليس من العار أن أطلق هذه الصرخات وسط رجال لا أعرفهم ؟
_ لا ضير يا حبيبتي فالظرف طارئ والكل قد أدار ظهره علينا , وهناك من يدعو لك متضرعا إلى الله كي يخلصك بسلام .
_ آه آه آه , لقد عاود الألم
وتشهق عميقا وتتكزز أسنانها وتستمر النوبة أكثر من دقيقة ويعقبها إطلاق صرير طويل من الحنجرة وهي تقول:
_ أشهد أن لا إله إلا الله , أشعر بالاختناق وأحس أن روحي ستخرج من جسدي .
_ عليك بالصبر , عزيزتي , كم مرة قلت لي أنك تحبين الأطفال , ساعات ويكون في أحضانك طفل جميل مثل أمه وستنسين كل هذه الآلام . قال شفان مشجعا بيريفان ومهدئا إياها وهو يمسد خصلات شعرها بيمينه وبطنها بيساره ثم استغل العتمة وأطبق شفتيه على خدها الأيسر ورسم عليه قبلة خجولة بينما انهمرت دمعتان من عينيه .

يتساقطون فوق بعضهم في قبرهم الضحل ذو الجدران الحديدية ويتموجون مثل السنابل حين تهب عليها الرياح عندما تميل السيارة يمنة أو يسرة مجتازة سيارة أخرى , ويرتطمون بجدار الصندوق عندما يضغط السائق على المكابح , ويدا شفان مؤهبتين دائما لدفع الموجة عن بيريفان , هدير محرك السيارة يغطي أنين بيريفان الذي أخذ يتصاعد حدة وتواترا .

في خضم نوبة ألم عارمة شعر شفان أن سائلا دافئا وفيرا من بيريفان انسكب على فخذيه وسال عليهما ثم هاع على أرضية الشاحنة , فزع شفان وارتبك ظنا منه أن طارئا قد حدث وجعل بيريفان تنزف بغزارة في ظرف غاية في السوء , قال مذعورا :
_ أحس بسائل أريق على ........
قاطعته بيريفان وقالت :
_ لا تخف , إنه ماء رأس الجنين .
_ يعني ذلك أن الولادة اقتربت , أليس كذلك ؟
_ أبدا , فقد تلد المرأة بعد انسكاب السائل ليلة أو نهارا كاملا , كما حدث لأمي عندما أنجبت رامان منذ إحدى عشر سنة .
ثم قالت بعد انتهاء موجة من الألم الماغص الشديد :
_ آه , يا أخي الصغير رامان أين أنت الآن , كم أنا مشتاقة لك يا عزيزي الشقي , وأنت يا أمي الحنون أيتها الأداة في براثن كبرياء الآغا وجبروته أحبك كثيرا , أصلحك الله يا أبي لو كان في قلبك مثقال ذرة من الرأفة لما كانت ابنتك أما للمآسي الآن , ألم يكن ثمة هواء نتنفسه وكسرات خبز نحيا بها في ديارنا . آه .

وتشهق عميقا وتعض طرف جاكيت شفان لتخفف اصطكاك أسنانها .
_ صدقت , رحمك الله , يا خالتي أمينة , فسرت لي حلما يوما وقالت : ستحظيان ببعضكما أنت وشفان ولكن ستعيشان حياة كلها مأساة , آه أيتها المسكينة , أي ذنب اقترفت لتحصدك أهوال الأنفال في تلك الليلة الظلماء الممطرة وأنت نائمة وليس لديك من حلم سوى أن تستيقظي صباحا وتجدي مقدارا كافيا من الطحين لتأمين رغيف لأبنك الصغير وتنتظري زوجك سعيدا ليلم حفنة من الدنانير لتشتري ثوب عرس لأبنتك .

سبقت دمعتان من عيني شفان شفتيه في تقبيل يدها , وتابعت :
_ إني على يقين , أيها الشهداء , أن قبوركم أوسع وأكثر إنارة من قبرنا الضيق العاتم هذا , وليس بكم من ألم مما بي الآن , ومصيركم واضح وجلي أما مصائرنا فهي على كف عفريت .

تعالى صوت أحدهم ذي لحية طويلة سوداء داكنة وبشرة سمراء وثياب تفوح منها رائحة أفغانستان وهو يتلو القرآن غيبا ويدعو الله بلغة عربية فصيحة وبلكنة أعجمية أن يخلص الماخض بسلام ويرد عليه البعض قائلا : آمين .

ولكن الماخض لم تخلص وأنينها طال في ذلك القبر المظلم الكئيب , قبر ضمن نفق , واستمر ألمها في النفق وبقي جنينها في نفقه الأضيق والأكثر ظلمة بين أحشائها دون حراك أو تقدم نحو الأوكسجين والنور . الكل في نفقه , المهاجرون غير الشرعيين في نفقهم , والمهاجر الشرعي الغض في نفقه يأبى الخروج , والشهداء الغائبون الحاضرون في أنفاق البرزخ الغيبية ينتظرون القيامة , وخروج الشمس من نفقها الناري تأخر في ليل شتائي طويل , رحلة الأنفاق طالت , ثقيلة على الماخض وزوجها .

بزغ الفجر بطلائع خيوط الشمس , الواهنة , الخجولة , المختفية وراء غمائم سوداء داكنة وعصاراتها المنهمرة على سطح الأرض , المسترسلة من فوق جبال وسهول آسيا وأوروبا من جهة الشرق , توقفت الشاحنة بعد خروجها من النفق في مدينة فولكستون الإنكليزية الواقعة على شواطئ بحر قناة الإنكليز في مضيق دوفر , وتخشخشت أكياس العلف وسمع صوت العتالين يجرون أكياس الخيش بخطاطيفهم من وراء الحاجز الذي يفصل الأكياس عن المهاجرين ويحملونها على ظهورهم إلى خارج الشاحنة ويلقون بها في مستودعات كبيرة , بعد دقائق من التوقف سارت الشاحنة لدقائق ثم وقفت مرة ثانية , فتح الباب الخلفي للصندوق ثم أزيح الفاصل الحديدي بين غرفتيه , لامس النور وجوه المهاجرين بعد عتمة دامسة ووقوف مضني على الأقدام استمر لثلاث ساعات , خرج الجميع , ساعد أحدهم شفان بإنزال بيريفان من مؤخرة الشاحنة , ماخض مبللة البنطال من منطقة العجان حتى الكعب بسائل دبق وردي اللون , ويملأ نعالها , أما شفان فمبلل من العجان حتى الركاب بنفس السائل , تبعثر المهاجرون فور نزولهم من الشاحنة ومضى كل في سبيله بعد دفعهم مئات الدولارات للسائق واحدا واحد بعد اتصال هاتفي للكفيل محمود في اليونان .

المطر ينزل غزيرا والماخض جالسة تئن تحت شجرة كثيفة الأوراق والأغصان على قارعة الطريق تنتظر سيارة الإسعاف بعد أن تبرع السائق الإنكليزي بطلبها من هاتفه الخاص , وشفان ينتظر رائحا غاديا كالمكوك على رصيف الطريق الواصل بين فولكستون و آشفورد , لا يهدأ له بال , ينظر إلى ساعته كلما مضت بضع ثوان , بعد خمس دقائق من أتصال السائق سمع زعيق نفير سيارة الإسعاف تسير بسرعة البرق قادمة باتجاه الماخض , نزل من السيارة طبيب طوارئ وممرضتان وفني تخدير وعاملا النقالة , مددوا بيريفان على النقالة وأدخلوها السيارة وتبعهم شفان بالدخول , شرع الطبيب يفحص الضغط والنبض ثم القلب والرئتين ويصغي إلى دقات قلب الجنين بجهاز يشبه القمع أو النفير يضع نهايته الدائرية الكبيرة على بطن الماخض ويصغي واضعا أذنه على النهاية الأخرى الدقيقة , ارتدت السيارة باتجاه مستشفى فولكستون بينما كانت الممرضتان المرافقتان لسيارة الإسعاف تبدلان لباس الماخض المنقع بمياه المطر والسائل الأمنيوسي ومدوا فوقها بطانيتين سميكتين والطبيب منهمك بالبحث عن وريد في مرفقها ليغرز فيه إبرة تسرب إلى جسمها المنهك سوائل وغذيات حرمت منها منذ عشرات الساعات , أدخلوا الماخض غرفة المخاض فتهادى كادر التوليد إليها في مآزر بيضاء , تولى طبيب باكستاني مقيم مهمة أخذ البيانات الشخصية من شفان .
_ الاسم ؟
_ بيريفان .
_ اسم جميل , وماذا يعني وبأي لغة ؟
_ حلابة الضأن , بالكردية .
_ العمر ؟
_ 34 سنة .
_ الجنسية والدين ؟
_ كردية من العراق , مسلمة .
_ المهنة ؟
_ لاجئة .
...........
_ ما اسمك يا سيد ؟
_ اسمي شفان .
_ وماذا يعني هو الآخر ؟
_ راعي , يا دكتور .
_ سيد شفان , علي أن أخبرك أن السيدة بيريفان خروس مسنة , أي أنها في ولادتها الأولى وقد تجاوزت الثلاثين من العمر , النساء اللواتي في نفس الظرف لا تخلو ولادتهن من العسرة , وخلاصهن يطول أكثر من النساء العاديات , ومن واجبي إبلاغك بذلك , وسنعمل ما في وسعنا لمساعدتها , وعليك التوقيع هنا للموافقة على إجراء أي شيء نراه , نحن ككادر طبي , مناسبا .

أمضى شفان حيث أشار الطبيب بإصبعه على الورقة , ثم طلب منه الطبيب بإنكليزيته ذات اللكنة الباكستانية أن ينتظر خارجا , خرج من باب الطوارئ نظر إلى حوله فوجد أشجارا كثيفة قبالة الباب توجه نحوها وجلس تحت إحداها متربعا على العشب الندي بمياه المطر يعد الثواني والدقائق وعيناه الذابلتان تعبا وجوعا وقلقا لا تبارحان باب الطوارئ , ينتظر خبرا يهدئ من روعه ويخفف من قلقه .

نور الشمس , التي لم تطلع بعد , المخترق للغمائم السوداء الداكنة التي تغطي أجواء بلاد الإنكليز , ملأ السماء , دموع السحاب تنهمر بغزارة في سكون يلف فولكستون , الرياح الباردة القادمة من الشمال تراقص أوراق وأغصان الأشجار المنتشرة في حديقة مستشفى فولكستون , النوارس زقزقت من على الأغصان منبئة بقرب يوم جديد ومهيأة نفسها لصيد الأسماك في لجة قناة الإنكليز , وشفان المنقوع بالماء متكور تحت شجرة يسند ظهره إلى جذعها من الجهة المعاكسة لهبوب الرياح القادمة من الشمال عابس الوجه مقطب الجبين اختلطت الحمرة بياض عينيه السوداوين المتوذمتين , يذقن على يده يرتعد بردا وخوفا مما يحمله القدر من مفاجئة تهز كيانه , ينهض يسير مترنحا كالسكران يستعين في تماسكه بجذوع الأشجار يتلكأ ويسقط أرضا ثم ينهض , ويكرر " إلهي ارحمها " ويجلس ثانية متكئا على جذع شجرة أخرى , عصف برأسه صداع أحس من خلاله أن صدغيه تكاد تنفجران كالبركان .

خرج رجل من باب الطوارئ ونادى شفانا , وأخبره ا أن الطبيب يريد مقابلته , دخل شفان مذعورا من أن طارئا قد حدث , جلس قبالة الطبيب , نظر إليه الطبيب فوجد علائم الإعياء والخوف في وجهه فطلب له كأسا من الشاي ثم أعلمه أن بيريفانا تحتاج إلى عملية قيصرية إسعافية لمجئ الجنين بشكل معترض ولكونه الحمل العزيز , " إذا لم يجر لها ذلك خلال ساعات فستكون حياتها وحياة الجنين في خطر " قال الطبيب .

لم ير شفان بدا من الموافقة فوقع على ورقة قدمت له ثم خرج يجر أقدامه مترنحا متجها إلى حيث الأشجار , الطقس بارد والرياح تداعب أوراق الأشجار ويعبث بغصونها محدثا أنينا , خارت قوى شفان وجلس مسندا ظهره على جذع شجرة وانفجر بالبكاء يدعو الله قائلا :
_ أرجوك ربي ارحمها , أرجوك يا الله يا أرحم الراحمين وأنت خير العارفين أنني لا تالد ولا ولد ولا والد وليس لي إلاها فاحفظها يا رب العالمين .

تخيل مشرط الجراح الحاد يشق جسم بيريفان الأبيض الغض وتسيل دماءها الحمراء الزكية , اشتد صداعه ورفرفت أجنحة قلبه بين أورابه وزاد نبضان صدغيه واحمرار عينيه واحتقنت أوداجه , خاطب بهمهمة لم يسمعها سوى أذناه :
_ أيها السكين كيف تستطيع فعل ذلك ؟ ألا تخترق قلبي قبل أن تشق ذاك الجسد البريء كي أرتاح , وأنت أيها الجراح , أي قلب تملك ! أرجوك إلهي ارحمها أرجوك .

يقرأ ما حفظ من القرآن غيبا , ويرفع يديه متضرعا إلى الله وداعيا إياه أن يخلص الماخض , توأمة روحه منذ ثلاثين سنة , المسكينة المستلقية على سرير العمليات , المضرجة بالدماء , بسلام .

شريط من الذكريات داعب خياله : تعليقاتها ومداعباتها له عندما كان يلثغ السين والشين ثاء , تصادفه في باحة المدرسة عند خروجهم للاستراحة بين درسين متتاليين فتقول له " مرحبا ثفان " , يحنق ويتوفز كالديك فتهرب هي , ويلحق بها , يمسكها من شعرها ويركلها على مؤخرتها حتى تبكي , فيتركها , وتلتفت إليه وتملأ فمها بصاقا وتقذفه على وجهه .
مد شفان يده على خده ليمسح البصاق لكن يده ابتلت بسائل آخر منحدر من مقلتيه فأدرك أن البصاق لا يمكن أن يبقى على الوجه أربعة وعشرين سنة .
عائلته التي فارقها منذ سبعة عشر سنة , والتي أصبحت رمادا بعد عين جراء القصف من الطائرة الحربية أثناء عمليات الأنفال , دون حتى أن يتمكن من زيارة قبر أحد منهم ليقرأ عليه الفاتحة .
 

G.M.K Team

G.M.K Team
رد: نواح كردي في هيستنغز (د آلان كيكاني)

شعر في قرارة نفسه بالذنب الشديد تجاه بيريفان لأنه سبب حملها , " ليتني اكتفيت بالقبل والاحتضان يا عزيزتي " قالها مخاطبا السابحة في بحر دمائها , رفيقة عمره , المخدرة , المستلقية على السرير الجراحي في غرفة العمليات في مستشفى فولكستون .

كفت السماء عن غيثها , وانقشعت السحب السوداء من جهة الشرق وبدا في الأفق خلف الضباب نصف قرص الشمس الناري بازغا مثل سن طفل رضيع مبتسم , بزوغ بزغ معه رأس الجنين المضرج بالدماء والعقي والسائل الأمنيوسي من بين أحشاء بيريفان من خلال جرح كبير معترض أسفل سرتها , مسك الطبيب الباكستاني , الأسمر , بيمناه رأس الجنين ومؤخرته بيسراه بينما قطعت الممرضة الإنكليزية الحبل السري , شهق الجنين , المطلي الجلد بطلاء دهني أبيض مائل إلى الصفرة , شهقته الأولى فور خروجه من الصدع الذي شقه مشرط الجراح في جسم بيريفان , وضع على منضدة مغطاة بقماش أخضر خضار أرض الإنكليز المغطاة بالأدغال على مدار الفصول الأربعة , تتدلى من سرته الكماشة التي تحصر بين فكيها نهاية السرر المقطوعة , فحص طبيب الأطفال رئتي المولود وقلبه وبطنه وخصيتيه وعضوه الذكري وأسته وأطرافه وعينيه وأذنيه ولسانه , وطلب له بعض التحاليل الدموية , ثم أوصى بوضعه في جهاز الحاضنة لمدة اثني عشرة ساعة لتألمه الشديد في نفقه الضيق القصير أثناء المخاض في رحلة الأنفاق , وكتب ملاحظاته على ملف الولادة , أرقى الجراحون النزيف ثم خيط رحم بيريفان وبريتوانها وصفق جدار بطنها وجلدها ووضع عليه ضماد , أنعشها طبيب التخدير ثم اقتادوها على عربة صغيرة تدفع باليدين إلى غرفة منفردة , استدعي زوجها وأخبر أن العمل الجراحي تم بنجاح وأن الماخض والوليد بخير , " إنه صبي وسيم " قالت إحدى الممرضات التي قادته إلى إحدى الغرف وطلبت منه تغيير ملابسه المبللة بمياه المطر بملابس يرتديها من يعملون في مسرح العمليات بعدما شاهدت الماء يشرشر من حواشي سترته وبنطاله , تنفس شفان الصعداء وداعبت قلبه رياح السعادة بعد محنة كانت ثقيلة على قلبه , دخل غرفة بيريفان ليجدها تهذي باسمه نصف صاحية من أثر أدوية التخدير , ممددة على سرير عريض , ومغطاة بأغطية نظيفة دافئة , دخل الطبيب الباكستاني ومعه طبيب التخدير وطبيب الأطفال , اطمأنوا على حالة بيريفان , طلب منها طبيب التخدير أن تفتح عينيها وتمد لسانها خارج فمها فترجم لها شفان العبارات ففعلت بيريفان , التفت الأطباء إلى شفان وأخبروه أنها بصحة جيدة , وكذلك الوليد , وسير العملية الجراحية كان على ما يرام , إلا أن المولود وضع في الحاضنة من باب الحيطة كونه تألم قليلا أثناء المخاض .

انصرف الأطباء وبقي شفان وحيدا مع بيريفان , تناول يدها وقبلها بلوعة , " أسف أن أسبب لك كل هذا العذاب يا عزيزي " همهمت بيريفان , " أنا السبب يا عزيزتي " رد شفان .
_ قالت لي الممرضة أنه صبي وسيم . همس شفان في أذنها وهو يمسد جبينها .
_ لا بد أنه يشبهك . قالت بيريفان مبتسمة .
_ ماذا سنسميه ؟
_ أنت أبوه , واختيار الاسم من حقك .
_ لا أحب أن أكون تقليديا .
_ بل سمه أنت .
_ ولات .
_ اسم جميل .

مساء جيء بولات بألبسة زرقاء فاخرة ناعمة كريش الغراب تغطي جسمه الغض الصغير على سرير صغير ذي أربعة عجلات , تأهب الزوجان , الملهوفان لرؤيته , لاستقبال فرعهما كشفت الممرضة النقاب عن وجهه الأبيض الصغير المدور كالبدر , هرع شفان لإلقاء النظرة الأولى , حاولت بيريفان الاعتدال عن وضعية الاستلقاء إلى الجلوس لتلقي نظرة إليه فساعدتها الممرضة على ذلك ثم نصحتها بإرضاعه من ثديها حين البكاء , تفرس الزوجان في وجه الوليد مليا ثم نظرا إلى بعضهما مبتسمين , " إنه نسخة عن خاله رامان " قالت بيريفان , " لم أر رامانا قط , لكن أعتقد أنه يشبهك ويبدو أن رامان يشبهك أليس كذلك ؟ " سأل شفان , " صدقت " ردت بيريفان .

بكى ولات فحمله شفان وقبله دون أن يمسه بشفاهه خوفا أن ينقل إليه مكروبا تلبية لنصيحة الممرضة ووضعه في حضن بيريفان المستلقية على سريرها , التي ضمته بحنان وقبلته كما فعل شفان ثم أخرجت ثديها ووضعت حلمته في فمه الجائع وبدأ ولات بالمص فشعرت بيريفان بدغدغة لم تعتاد عليها وانفجرت بالقهقهة , وقهقه شفان .

سعادة غامرة أحاطت بالزوجين وقضيا ليلهما بين مداعبة وطرفة وفكاهة وملأ الضحك غرفتهما حتى وقت متأخر من الليل , وولات يستيقظ كل ثلاث ساعات باكيا وجائعا يطلب حليبا فيرفعه شفان عن سريره ويضعه في حضن أمه فتخرج ثديها المحتقن بالحليب وتدس حلمته في ثغره الصغير وتبدأ بالقهقهة .

في اليوم الخامس من وجودهم في مستشفى فولكستون دخل أحدهم إلى غرفتهم وسلم شفانا ظرفا مختوما , فتحه وساعدته إحدى الممرضات على قراءة الرسالة , التي تضمنت موعدا مع شرطة المنطقة في اليوم التالي الساعة العاشرة صباحا , وعنوانا مفصلا لمكتبهم الذي كان يبعد عن المستشفى مسافة بضع مئات من الأمتار , قطعها شفان سيرا على الأقدام , استقبلته شرطية عند باب قيادة الشرطة وقادته إلى مكتب قائد شرطة فولكستون , دلفه فوجد امرأة في العقد الخامس من العمر شقراء ذات عينين خضراوين مكتنزة البدن بالشحم , بزي شرطي ويعلو كتفيها رتب ذات نجوم , ابتسمت محيية ونهضت ومدت يدها إلى شفان لتصافحه مطلقة عبارات من الترحيب ودعته إلى الجلوس على كرسي مقابل لها , لاحظت عليه شيئا من الارتباك فابتسمت وقالت محاولة تهدئته " مبارك المولود , وحمدا لله على صحته وصحة السيدة بيريفان , كيف هما الآن ؟ " , " الحمد لله , كلاهما بخير " أجاب شفان .

سألت شفانا عن كيفية دخوله أراض المملكة المتحدة وسبب مجيئه أجاب شفان بإنكليزيته الركيكة على أسئلتها , وفي الختام أبلغته أن محاكمتهما ستكون في ميدستون في شهر آذار , وعليهم , بعد تخرجهم من المستشفى , أن يمضوا الأشهر الثلاثة , لحين موعد المحكمة , في معسكر اللاجئين في آشفورد .

في اليوم السابع بعد بلوغ الشمس الأصيل خرجا من المستشفى يحملان معهما ثمرة حبهما العظمى , ولات الصغير ذي الوجه الصغير المدور كالبدر , متوجهين نحو محطة القطار في فولكستون يبغون السفر إلى آشفورد , حيث الملجأ بانتظارهم , صعدوا إلى إحدى عربات القطار الذي انطلق بهم شمالا مرسلا زعيقه المدوي .

بوسنيون وكوسوفيون وألبان وشيشان وكازاخ وأذربيجانيون وباكستانيون وأفغان وكشميريون وإيرانيون وبلوش وكرد وعرب وأمازيغ وترك واريتريون ودارفوريون وموريتانيون وغيرهم من بلاد أمة محمد الغنية الشاسعة الواسعة الهاجعة على بحور من الذهب الأسود والسابحة في بحيرات وأنهر طويلة عذبة المياه , والراقدة على تربة خصبة كأنها التبر في مناخ معتدل , والقائمة على مهود رسل وأنبياء الله وأوليائه الصالحين الطاهرين من النبي نوح حتى خاتم الأنبياء محمد , يقيمون في فندق صغير متواضع خصصته حكومة المملكة المتحدة تحت راية الصليب بطالبي اللجوء في آشفورد , ملجأ من ثلاثة طوابق , مساحة كل طابق مائتي متر , وفي كل طابق ستة غرف تشترك في المطبخ والحمام والمرحاض , وفي كل غرفة عائلة , أو ثلاثة عزب مختلفي اللون واللغة . يصطفون صباحا على باب المرحاض رجال ونساء وأطفال في طوابير طويلة لقضاء حاجاتهم .

استلمت العائلة الكردية العراقية الصغيرة المنحدرة من قرية لا يفصلها سوى فراسخ قليلة عن جبل جود حيث ترسو على سفوحه سفينة النبي نوح , تلك السفينة التي لجأت إلى سفح جود بعد الطوفان الكبير الذي ضرب البلاد والعباد قبل أكثر من ستة آلاف سنة , استلمت مفاتيح ملجأها , غرفة صغيرة ذات أربعة أمتار بثلاث , أرضيتها مفروشة بموكيت بال تفوح منه رائحة عطنة كرائحة الفئران , فيها سرير مزدوج عليه أغطية تراكمت عليها الأوساخ , وخزانة عتيقة مخلخلة الأبواب والزوايا , وعلى جدرانها كتابات مختلفة اللغات منها مكتوب من اليمين إلى اليسار , ومنها من اليسار إلى اليمين , منها بأبجدية القرآن ومنها بالأبجدية اللاتينية , تعبر عن ذكريات وطموحات وشعارات لعائلات مهاجرات وأفراد سكنوا الملجأ منذ عشرات السنين لحينه , كل ملتجئ ينتظر موعد محاكمته , حاملا معه حججه وبراهينه على ادعاءاته , منها الكاذب ومنها الصادق . الحب وولات وشظية في رأس شفان هي حجج العائلة الكردية , تلك الحجج التي ستعرض أمام القضاء في محكمة ميدستون عاصمة ولاية كنت في شهر آذار .

أخيلة لرأس شفان رسمها جهاز الطبقي المحوري المحوسب على شرائح بلاستيكية شفافة مقواة تظهر فيها الشظية التي يحملها معه من جبال قنديل واضحة وضوح شمس كردستان وقممها الباسقة , وغيرها من أدلة وإثباتات قدمها المحامي الإنكليزي الشاب جيمي ماك ميلفين للمحكمة ليدافع بها عن قضية موكليه , استنطق القاضي كل زوج على حدة بوجود مترجم ومحامي الدفاع . منحت العائلة , من الجلسة الأولى للمحكمة , حق الإقامة والعمل في أراضي المملكة المتحدة .

عادت العائلة إلى ملجئها في آشفورد تنتظر وعدا من الحكومة بتأمين مسكن ملائم وعمل مناسب لهم في أراض المملكة , وكان النصيب في هيستنغز , فبعد الحصول على حق اللجوء بأسابيع اختارت لهم أنامل القدر مأوى وعملا في تلك المدينة الجميلة , درة بحر قناة الإنكليز .

يوسم جبين هيستنغز الرقم 1066 , ففي هذه السنة الميلادية حدثت فيها معركة ضروس , معركة هيستنغز الشهيرة , التي هزم فيها دوق نورماندي الملك ويليام الأول , ملك إنكلاند , الملك السكسوني هارولد الثاني . وكذلك الرقم 1377 له شأن عظيم في تاريخ المدينة , ففيه غزا الفرنسيون بجحافلهم واعتدتهم هيستنغز وأضرموا فيها النيران وأحرقوا الأخضر واليابس كما فعل نيرون بروما .

كان الربيع في هيستنغز . الربيع البهي المنتظر الذي تسلل متأخرا إلى أبوار قلبيهما القاحلة حاملا معه نسائم السعادة والسرور لروحين أدمنا على الشقاء والتعاسة . ربيع أفل سريعا , قال عنه شفان لبيريفان فيما بعد : " كان شأن ربيعنا شأن ربيع جبال كردستان التي ما إن ذابت الثلوج من قممها , وتفتحت الأزاهير وترنمت البلابل بأناشيد عذبة الألحان وبنت العصافير أوكارها على سفوحها ووديانها , حتى انهالت عليها حمم الصواريخ والقذائف من الأرض ومن السماء فتصهر كل شيء " .

بيت أنيق جمع العائلة الصغيرة في هيستنغز , مكون من حجرتين , إحداها للرقاد , فيها سرير مزدوج وآخر صغير متحرك , والأخرى للجلوس والضيوف والسهر . شقة , في الطابق الأول من بناء قديم جميل , يحتاج الزائر أن يعتلي عشرين درجة ليطرق بابها , ذات شرفة صغيرة تطل على شارع عريض يصل مركز المدينة بالمدخل الرئيسي للحديقة العامة المزركشة بأزاهير وورود موزعة على طراز هندسي بديع , يخال لمن ينظر إليها من بعيد أنها سجاد أعجمي ذو مساحة كبيرة . وفي وسطها حوض مياه غير ذي عمق بطول مائة متر بخمسين , يرتاده من يهوى ملاحة دمى من السفن والأساطيل بجهاز التحكم عن بعد .

يد ملساء ناعمة كالحرير تزحف على جبينه وشعره وتدغدغ وجنتيه وأنفه وشفتيه بهدوء في الصباح الباكر عند شروق الشمس , وثغر من لون الدم القانئ , باسم أبدا , يهمس في أذنيه : " قهوة الصباح والحمام جاهزين " . يشم عطرا , يفتح عينيه ليجد العينين الخضراوين الباسمتين في محجريهما , يعلوهما هلالان من روح الليل , يستحم , يشرب قهوته , يرتدي ثيابه , يحمل مظلته , يودعها وأبنها بلثم وعناق , ويسير على الأقدام صوب مستشفى هيستنغز , يكوي أغطية أسرة المستشفى بعد أن تغسلها وتجففها الإنكليزية سارا , من الثامنة صباحا حتى الخامسة مساء . في طريق عودته إلى البيت يمر بسوق سيف واي يبتاع مستلزمات البيت والابن والزوجة . عريض البسمة مشتاقا إلى ولات وأمه يطرق باب بيته , تفتحه بيريفان فيعانقها ثم يعانق الابن ويشم رائحته ويداعبه ويلاعبه . ولات الذي ما إن وطأت أقدام العائلة أرض هيستنغز حتى بات يناغي ويبتسم مثل الربيع . وفي الليل حيث يسود الهدوء , يتسامرون ويتفكهون ويتضاحكون , تتفتق العواطف وتنبجس الغرائز وتحلو الهمسات وتطيب المداعبات التي تؤدي إلى الغلمة فالفراش . لحظات سعادة يعكر صفوها , أحيانا , الشقي , شبيه خاله الشقي , ولات , ذو الصوت الجهوري إذا بكى , والطبع اللجوج إذا جاع , والغيرة المفرطة على أمه إذا استخلت بأبيه عندما بلغ السنتين .

يتبادلون الزيارات كل يوم سبت مع عائلة الدكتور علي الكاظم , العراقي البغدادي الخمسيني , والأستاذ الجامعي سابقا في حقل العلوم السياسية في جامعة المستنصرية في بغداد . كان علي شيوعيا , أودع سجن أبو غريب ست مرات يمكث فيه كل مرة بين السنة ونصفها , بسبب مبادئه الماركسية الحمراء التي اعتبرها الحكام خطرا على أمنهم وأمن دولتهم القومية فطلبوا منه التوبة والمغفرة والتبرؤ من لينين , فأبى . بعد خروجه من سجنه بأشهر تسلل علي المتبقي الوحيد من أخوته الذكور , بعد مقتل أخويه المهندس عمار والمحامي عباس في الجبهة في حرب الثمان سنوات مع إيران , تسلل مع عائلته إلى إقليم كردستان تاركا وراءه أمه في رعاية خاله , ثم عبر الحدود العراقية التركية , ومن تركية , شانه شأن شفان , دفع كل ما يملك للمهربين ليصل مع عائلته إلى بريطانيا .

يقع بيت علي الكاظم في الجانب الآخر من الشارع , مئة ذراع أو أقل يفصله عن بيت شفان , يعيش فيه مع زوجته رقية , مدرسة اللغة الإنكليزية في المدارس الثانوية في بغداد سابقا , وأبنه الوحيد حسين . ألفة جمعت العائلتين العراقيتين الصغيرتين , يكاد لا يخلو ثلاجة كل عائلة من طبخ عراقي طبخته العائلة الأخرى . " كاكا شفان القهوة جاهزة " عبارة يكررها , أبدا , الدكتور علي الكاظم على الهاتف في مسامع شفان الذي يرد عليه بعربتيه الركيكة ذات اللكنة الكردية : " دقائق , وسنكون عندكم , أخ علي " .

يطيب لجانيت وصديقها بايرون الإنكليزيين الثلاثينيين تذوق الطبخ الشرقي الذي تعده بيريفان كل يوم أحد وتدعوهما إليه مع ابنتهما تيريسا التي تكبر ولات بسنتين , كوسا وباذنجان مقعورة ومحشية بالرز واللحمة وصلطة الخيار باللبن والكبة المقلية يلتهمونها بنهم , تعيش جانيت مع صديقها في البيت المقابل تماما لبيت بيريفان . بعد تناول الغداء تخرج العائلتان للتسوق والتنزه على الشاطئ الرملي الممتد من القلعة شرقا حتى مشارف بلدة بيكسهيل غربا , مرورا ببيير هيستنغز , ذاك المعلم السياحي العائم على سطح البحر, ذي الأرضية الخشبية والقائم على قوائم حديدية , والممتد مائتي متر في صدر البحر . مقامر ومتاجر ومراقص وملاعب ومشارف على البحر الهائج الأمواج , أبدا , تحملها بيير على أكتافها الخشبية التي تطقطق بنعال زوارها المختلفي الألوان والألسنة والعقيدة والآتين من أطراف القارات المأهولة .


. . .



قالب كبير من الكاتو , نصبت عليه خمس شموع حمراء مخروطية تبرز فتائلها في نهايتها المدببة , وضع على طاولة مستديرة كبيرة في غرفة الضيوف المطلة على الشارع العام في بيت شفان , يحيط به صحون فيها ما طاب من الحلوى والمقبلات والموالح والمكسرات , وأقداح مليئة بروح التفاح والبرتقال والمندرين والجزر والكرز والمنكا , ومشا ريب غازية في علب معدنية , وقارورة من الويسكي الاسكتلندي الفاخر , وعدة علب معدنية من البيرة . وفي المطبخ كانت رائحة شواء وقلي الديك الرومي والسمك البحري تعبر العتبات والنوافذ وتستقر في أنوف الجيران والمارة فتفتح الشهوات وتثير في الأنفس غريزة الجوع , بينما انصرفت بيريفان وبعض النسوة المدعوات إلى استكمال عناصر الوليمة . إنه العيد الخامس لميلاد ولات ذي العينين السوداوين الكبيرتين والبشرة البيضاء والأنف الصغير , الطفل الذي حظي بمحبة كل من وطئت قدماه بيت شفان لبشاشته وذكائه ودهائه , وفرط حركاته التي تنم عن الدعابة , وكلامه الفاكه ذي اللثغة , نعوت طالما عبرت عنها معلمته في دار حضانة الأطفال مذ كان في الثانية من العمر . جلس المدعوون على كراسي تحيط بالطاولة المستديرة , يتسامرون ويتفكهون ويتضاحكون , الدكتور علي ورقية وحسين , جانيت وبايرون وتيريسا , وعائلات أخرى , كردية وعربية وإنكليزية , جلسوا بعد أن أغدقوا ولات بهدايا قيمة , دمى اليكترونية وملابس فاخرة وأحذية متقنة الصنع , وقبلوه مهنئين إياه بعيد ميلاده ومتمنين له العمر الطويل , أشعل شفان الشموع الخمسة ونفخ عليها ولات حتى أطفأها فصفق الجميع يترنمون : " سنة حلوة يا ولات " . موسيقى صاخبة , كردية وعربية وإنكليزية , وزغاريد أطلقتها النسوة , هزت أركان البيت . الجميع رقص وغنى وأكل وشرب , وولات لا يكف عن التعبير عن شقائه فأبوه , على حد تعبيره , يشبه كلب تيريسا الرمادي الضخم ذي العينين السوداوين والوبر الكثيف , وعينا أمه تحاكي عيني قطة ضيفتهم الصغيرة سارا الخضراوين المتباعدتين قليلا .

في غمرة السعادة تسلق الطفل ولات المنضدة المستديرة التي يحيط بها الجلساء المدعوون ووقف في منتصفها يلهث من عناء الرقص وقال بلغة إنكليزية صرفة تعلمها في ثلاث سنوات في رياض الأطفال ومن جارته الصغيرة تيريسا : " إنني سعيد بعيد ميلادي أيها السيدات والسادة أشكركم على حضوركم , وأرجوكم أن تحتفلوا به ما دمتم أحياء " . قهقه الجميع مصفقين وقالوا : " نعدك بذلك يا ولات " .

نهاية الحفل انصرف الضيوف مودعين تباعا ومقبلين الطفل ولات , كانت عائلة الدكتور علي الكاظم آخر المغادرين , " سأسافر إلى كردستان الأسبوع القادم لقضاء عيد الفطر وعطلة رأس السنة مع أمي وأخواتي وأبناء عمومتي في أربيل , هل من رسالة لأهاليكم أو أصدقائكم , أو أي خدمة أستطيع أخدمكم بها , كاكا شفان وأخت بيريفان ؟ " ساءل الدكتور علي , " أتمنى لك سفرا مريحا وعودة بالسلامة " رد شفان , وتمنت بيريفان السفر السعيد له . قبل علي ورقية وحسين وجنتي ولات , وقبلهم , وودعوا وانصرفوا يلوحون بأيديهم .

ظهيرة يوم ميلاد المسيح , من سنة تسع وتسعين وتسعمائة وألف , وصل الدكتور علي الكاظم إلى معبر إبراهيم الخليل على الحدود العراقية التركية شمال مدينة زاخو بفرسخ , غرب قمة جبل جود بفرسخين , بعد رحلة طويلة قادته من مطار هيثرو إلى مطار أتاتورك ومنه إلى مطار دياربكر ومنها بحافلة إلى المعبر المكتظ بالبشر والسيارات , عبر بوابة المعبر سيرا على الأقدام , ترتعد يداه من أثر الريح الشمالية الباردة التي تحمل معها أمطارا ممزوجة بالثلج . طوابير من سيارات الأجرة تصطف على جانبي الطريق المؤدي إلى زاخو فدهوك فأربيل , يعرض سائقوها على المسافرين الوافدين من تركيا خدمة توصيلهم إلى أية مدينة من مدن العراق . البرد جعل عليا يفتح باب أول سيارة على طريقه ويحشر نفسه فيها , " إلى أربيل من فضلك " , قال علي للسائق الشاب بعد إلقاء التحية .

سريعة ناست ماسحات البلور إذ انهمر المطر غزيرا عندما عبرت السيارة التي تقل عليا الجسر الواصل بين ضفتي كاني ماسي في زاخو , تكور علي على نفسه بردا ووضع يديه تحت إبطيه لينقل إليهما شيئا من حرارة جسمه , كبس السائق زر التدفئة فهب نفس دافئ على أقدام الرجلين , أثار الدفء غريزة الفضول في نفسيهما وحفز فيهما حب الكلام , " من أين أنت آت أيها السيد ؟ " ساءل السائق عليا بلغته العربية الركيكة .
_ من بريطانيا , كاكا . رد علي
_ كنت سائحا هناك أم كانت زيارة عمل ؟
_ تجنست منذ سبع سنين . وأعيش هناك مع عائلتي وأعمل كمترجم .
_ هلا ساعدتني على الهجرة إلى هناك ؟
ضحك علي وقال مداعبا :
_ سأناقش أمرك , عندما أعود , مع جاري الكرديين شفان وبيريفان .
ارتبك السائق عند سماع الاسمين , ولاحظ عليه علي ذلك , فساءله " ما بك ؟ " . نحنح السائق وقال بألفاظ نصفها كردية ونصفها عربية :
_ لا شيء , هما من قريتنا , هاجرا منذ عشر سنوات , وانقطعت أخبارهما مذ ذاك الوقت .
صمت برهة ثم أضاف :
_ ما أخبارهما ؟
_ منذ أسبوع احتفلنا معا بالعيد الخامس لميلاد ابنهما الوحيد ولات , هما يعملان في مستشفى هيستنغز , وابنهما يذهب إلى دار الحضانة من الصباح الباكر حتى المساء .
ابتسم علي وأضاف :
_ هو شقي جدا , ودمث الروح , لا يمل المرء من معاملته رغم صغر سنه , وهو ذكي , سيكون ذا شأن عندما يصبح رجلا .
تنبه عصب الخبث في نفس السائق ونظر إلى علي بعينين ماكرتين كعيني ثعلب , وتحرك عضل لسانه خلف أسنانه المتباعدة كأنها حلقة دبك كردي :
_ هلا كتبت لي عنوان شفان ورقم هاتفه على ورقة يا سيدي , إنني اشتقت إليه , لم أره منذ أكثر من عشرين سنة , أود مراسلته , والحديث معه عبر الهاتف , قضيت معه طفولتي في المدرسة وفي الحقول والسهول والجبال , نصطاد العصافير ونشويها ونأكلها معا , هو إنسان رائع حقا .
أخرج علي من جعبته قلما وورقة , خط عليها عنوان شفان وقال :
_ إليك عنوانه , وللأسف لا يحضرني رقم هاتفه .
التقط السائق الورقة من بين أنامل الدكتور علي ودسها في جيبه وشكره . الدفء أرخى جسد علي الذي لم ينم الليلة الماضية , وبث فيه النعاس , شخر , والسائق منهمك بالضغط على أداة السرعة .

نقر على كتفه يوقظه , فتح علي عينيه , قال السائق " حمد لله على السلامة أيها السيد , لقد وصلنا أربيل " , دفع علي مبلغا من المال للسائق ونزل من سيارته , أشعل السائق سيكارته وأدار مقود سيارته باتجاه كاكان وانطلق كالبرق , عندما نادى مؤذن جامع كاكان الناس ليؤدوا صلاة المغرب , نزل السائق من سيارته أمام قصر الآغا . ولج , مسرعا , بوابة سور القصر التي كانت مفتوحة على مصراعيها , نادى " عمي كاميران آغا , عمي الآغا " , سمع صوتا يأذن له بالدخول , دخل باب القصر ثم غرفة الضيوف التي يعتكف فيها الآغا منذ عشر سنوات دون أن يغادر القصر لحظة واحدة .

أصاب السرطان موثته منذ سنتين وعسر عليه التبول فلم يغادر يطلب الاستشفاء , انتشر السرطان إلى القولون وصعب التغوط ولم يغادر , وغزا الخبث الكبد مسببا اليرقان ولم يغادر , وهاجم الرئتين وبات يسعل وينفث القشع والدم ولم يغادر , هزل جسمه وضعفت شهيته وخارت قواه ولم يغادر , دق ملاك الموت باب قلبه مرات عديدة ولم يغادر . لا يغادر الآغا قصره إيفاء للعهد الذي قطعه على نفسه أمام الملأ : " لا أخرج من قصري هذا حتى أسمع نبأ مقتلها وخاطفها الصعلوك ابن الحذاء " , العهد الخبر ذو الجناحين الذي طار وحط في أذن كل قاص ودان .

" وجدتهم , وجدتهم " قال السائق لاهثا , جالسا أمام الآغا , وكأنه في حضرة إله ينشد الصفح والمغفرة .
_ ماذا وجدت أيها الأمرط , سليل الكلب ؟ زمجر الآغا , هزيل الجسد , طويل اللحية , غائر العينين .
_ بيريفان وشفان , يا عمي الآغا , خذ هذه الورقة , عليها عنوان بيتهما , ولهما ولد اسمه ولات , عمره خمس سنوات , هم في بريطانيا الآن , التقيت بجاره اليوم .........

تناول الآغا الورقة من يده , تلمظ , وابتسم , ناظرا إلى ولديه متنفسا الصعداء . أدى السائق المهمة بأمان وانصرف .

صلى الآغا العشاء جالسا , وامتنع عن صلاة الوتر والسنة البعدية والتسبيح والتكبير والتحميد , ليستخلي بولديه , سامان ورامان , إذ انصرف الضيوف وهو لم يكمل ركعات الفرض الأربعة , أمر رامانا أن يقفل باب المضافة لاستكمال الحيطة , وحفظا على سرية الحبكة التي سيخطط لها , طلب منهما الاقتراب فاقتربوا وجلسوا قبالته لصق بعضهما . وقال يعد على أصابع يده اليسرى بأصبع الشهادة من اليد اليمنى وبصوت أقرب إلى الهمس : " أريدهم قتلى , الثلاثة : العاهرة , والصعلوك ابن الحذاء , وابن الزنا , صغيرهم , آن لرؤوسنا المطأطأة منذ عشر سنوات أن تشمخ كما كانت " , تناول بيده المعصم الأيمن لرامان , الطالب في المرحلة الإعدادية , والذي لم يكمل السابعة عشر بعد , ورفعها وتابع : " هذه اليد القوية ستخرجني من سجني هذا , وستجعلني كما كنت كاميران آغا , رمز الشرف والإباء " .

أثار كاميران آغا بحديثه حماس ابنه رامان وعنفوان فجر شبابه , وبث في نفسه الشعور بالفخر والكبرياء بتحميله مهمة كبيرة . مهمة غسل العار عن العائلة والقبيلة مسؤولية عظيمة , يلقيها عادة الأقوياء الشجعان من القوم على عاتقهم . " أمرك يا أبي " قال رامان منتعشا .

ساد الصمت برهة , ثم أردف الآغا واعظا ولديه الذين لا ينبسان ببنت شفة , بل يحركان رأسيهما موافقة على إملاءات أبيهما , " علينا أن نتصرف بسرعة , لأن جارهم قد يتصل بهم من أربيل ويخبرهم عن لقائه بأحد أبناء قريتهم وإعطائه عنوان بيتهم , عندها قد يهاجرون إلى مدينة أخرى فتفشل بذلك خطتنا " .

أشعل الآغا سيكارة , تنشق دخانها بنهم . انتابته موجة من السعال العنيف , تقشع وتف في منفضة سكائره , أحضر له رامان المرذاذ المعبأ بعقاقير توسع القصب وتحسن التنفس , شهق منه شهقتين ووضعه جانبا ثم مص عقب سيكارته , وتابع رسم الخطة : " في ظل الحصار , كل شيء بات يباع في بغداد , غدا ستحملان معكما مبلغا من المال وتقصدان بغداد , تشتريان جواز سفر وشهادة بكالوريا لرامان , ويساعدكما مكتب في تأمين قبول دراسي من إحدى جامعات لندن , وبه تحصلان على تأشيرة دخول إلى أراض بريطانيا , وهناك , يا أبني رامان , تتوجه إلى حيث هذا العنوان , وتنزل في فندق , وتبحث عن سلاح , الأولى أن يكون مسدسا , وإلا فمدية حادة , تحصدهم بها واحدا واحدا ."

معس الآغا عقب سيكارته في المنفضة , سعل وبصق قشعا , على المنديل الورقي , عليه خطوط حمراء وصفراء وسوداء , ثم أكمل حديثه : " وإذ تنتهي من مهمتك , يا ولدي , انزل إلى الشارع وسر مرفوع الرأس , زف البشرى إلي بالهاتف , كي أصعد إلى سطح القصر وأطلق عشرة أمشاط من الأعيرة النارية في الهواء ببندقيتي العذراء هذه , لينتشر الخبر إلى كل من نعرفه ومن لا نعرفه , وليعلم الجميع أن العار الذي دنس عرضنا منذ عشرة سنوات سقط , سقط تحت قدميك يا خليفتي , ثم سلم نفسك إلى البوليس , وأنت لا زلت حدثا , ستنام في السجن سنة على يمينك وسنة على يسارك , ثم يطلق سراحك وتعود بطلا يهابه الجميع " .

تنصتت ميرم خاتون إلى حديث الآغا إلى ولديه من وراء الباب المؤصد . سكبت الدموع وأصابها الصداع , مدت يدها إلى جعبتها تفتش عن العقار الخافض لضغط الدم , بلعت منه حبة ثم آوت إلى غرفة النوم استلقت على السرير الذي كانت تنام عليه بيريفان قبل عقد من الزمان , تدعو الله بهمس " إلهي خذ أمانتك قبل أن أسمع الخبر , أرجوك إلهي , لتخترق المدية صدري ولا صدر طفلتي الوحيدة أو حفيدي الصغير " .

تعهد الولدان بتنفيذ خطة والدهما , دخلا إلى غرفة نومهما مبكرا دون أن يتناولا وجبة العشاء ليستيقظا في الصباح الباكر , فلديهما الكثير ما يشغلهما اليوم التالي . ناما ونام الآغا وخيم الأرق على عيني الخاتون .

قبل الفجر مسدت يد شعر رامان الغارق في نومه وسقطت دمعتان على جبهته , فتح عينيه , ليرى وجه أمه الأبيض , قالت بصوت خافت متقطع : " لا تفعلها يا بني , إنهم أختك وابن أختك وزوج أختك " . أدار الشاب الصغير وجهه عنها وعاد إلى نومه , وعادت خاتون إلى سريرها تترنح .


. . .

في الأيام الأولى من الألفية الميلادية الثالثة طارت طائرة من اسطنبول إلى لندن وعلى متنها رامان , يحمل مخطط والده في فكره , ودعه أخوه سامان في مطار أتاتورك بالعناق والقبل والتشجيع على أداء المهمة الموكلة إليه , لم يكن الأخوان على علم أن في اللحظة التي تودعا فيها كان موكب جنازة أمهما ميرم خاتون يسير من قصر أبيهما الآغا إلى مقبرة القرية , دون أن يكون في الموكب زوج أو ابن أو ابنة .

لم يكن الشاب الغض على اضطلاع بثقافة الغرب ولا على لغاتها , كل رصيده بضع كلمات إنكليزية مما تعلم في المدرسة , خرج مع حقيبته من مطار هيثرو , توقف على يمين تكسي عمومي ففتحت صاحبته الباب وقالت " إلى أين يا سيدي " , أبرز لها الورقة التي عليها عنوان منزل شفان , نزلت وتناولت الحقيبة من يده ووضعتها في صندوق الأمتعة في مؤخرة السيارة ودعته للركوب فتح رامان الباب الأيسر , ضحكت السائقة الشقراء وفتحت له الباب الأيمن .

بعد مسير عشرات الدقائق في الطريق الواصل بين لندن ومقاطعة إيست سوسيكس التي تتبعها هيستنغز , نظر رامان إلى السائقة الإنكليزية الأربعينية الشقراء وأفرد إصبعي السبابة والوسطى من يده اليمنى وعطف الأصابع الثلاثة الباقية جاعلا يده مثل مسدس , يصدر من حنجرته أصواتا تحاكي لعلعة السلاح , وفي نيته سؤالها عن سوق تباع فيه المسدسات , ولكن اتجاه إصبعيه الباسطتين أتى على جهاز المسجلة , ابتسمت السائقة وقالت : " آه , أنا آسفة جدا يا عزيزي , لم تعجبك الأغنية , أليس كذلك ؟ " وغيرت الأغنية , وبعد مسير عشرات دقائق أخرى , عطف رامان كل أصابع يده اليمنى يرفعها ويخفضها في حركات متتالية , يقصد السؤال عن سوق تباع فيه السكاكين , نظرت إليه السائقة وقهقهت مطولا وقالت : " آه يا عزيزي , تريد جنسا , أنا متزوجة ولي ولدان , أشكرك على مشاعرك , أنت شاب وسيم وستلقى الكثير من المعجبات الجميلات إن طال مكوثك هنا " .

عصرا أوقفت السائقة سيارتها أمام مدخل البناية التي تسكن عائلة شفان طابقها الأول , نزل رامان منها وأخرج حقيبته من مؤخرتها , دفع الأجرة للسائقة . علق حقيبته على كتفه ثم اعتلى الأدراج , " هذا منزل شفان حمرش " قرأ رامان العبارة على باب بيت شفان , مكتوب باللغات الثلاث الإنكليزية والعربية والكردية , تأكد من صحة العنوان , ثم عاد يسير في الشارع يسأل عن فندق ينزل فيه .

مكث في فندق مطل على البحر عشرة أيام , يتجول في أزقة وأحياء ومتاجر المدينة , ويراقب شفان وبيريفان وابنهما الصغير عن بعد , لم يسبق له قط أن رأى شفانا , وبالكاد كان يتذكر ملامح أخته وقد أطلق الشارب واللحى كي لا تعرفه , كلما رآهم من بعيد قال في نفسه متوعدا : " لقد اقتربت نهايتكم , أيتها العاهرة , ويا أيها الصعلوك ابن الحذاء , وأنت يا ابن الزنا " , سأل بعض العراقيين الذين تعرف عليهم عن سوق للأسلحة دون أن يتطرق إلى السبب , فأخبروه أن الحصول على سلاح ناري أمر عسير , اشترى سكينا حادا ذا نصل رفيع وطويل يحمله تحت معطفه أنى ذهب .

في اليوم العاشر من وصوله هيستنغز وكان يوم أحد , حمل كعادته مديته تحت معطفه وتوجه نحو الشارع الذي يعبر من أمام بيت شفان , يسير فيه رائحا غاديا بحركة مكوكية يستطلع الأجواء باحثا عن صيد يشبع به روح والده الآغا الجائعة منذ عشر سنين . كان متوجها من باب الحديقة العامة إلى مركز المدينة عندما لمح بيريفان وشفان يخرجان من مدخل بنايتهما بصحبة عائلة إنكليزية , يتوجهان جنوبا صوب البحر , دون أن يكون برفقتهم أطفال . توقف رامان يضرب أخماسا بأسداس , كان في خطته أن يقضي على شفان أولا ليسهل عليه القضاء على أخته وأبنها , لكن لم يصادفه مرة وحيدا في الشارع .

كانت المرة الأولى التي يصر فيها ولات على عدم الخروج مع والديه يوم الأحد للتنزه والتسوق , كي لا تفوت عليه حضور حلقة من مسلسل كرتوني أدمن عليه مع جارته تيريسا منذ أسابيع , خارقا بذلك تعاليم معلمته بعدم البقاء في البيت وحيدا حتى بلوغ الثامنة , خرج الأزواج الأربعة تاركين طفليهم في بيت شفان يتابعون المسلسل على التلفاز في غرفة الضيوف .

طرق الباب , خفض ولات صوت التلفاز وهرع إلى الباب يسأل عن هوية الطارق , بينما بقيت تيريسا جالسة على كرسيها , " أنا , أنا خالك رامان , افتح من فضلك " أجاب رامان بالكردية .

رامان أسم يداعب أذني ولات كل يوم , يكاد لا يمر يوم لا تعبر فيه بيريفان عن حبها واشتياقها له , وتري ولاتا بضع صور لخاله الصغير التقطتها له وهو في السابعة من العمر , وجلبتها معها عندما غادرت قصر أبيها , وتعبر له عن التشابه الكبير بينهما , وتناديه أحيانا رامان سهوا .

كان يعتقد ولات أن خاله رامان هو طفل من عمره , وقد اشتاق لرؤيته واللعب معه من كثرة ما سمع عنه وشاهد صوره لذلك أجاب الطفل : " لكن خالي رامان طفل مثلي , كما يبدو في صوره وصوتك صوت رجل " , " الصور التي عندك قديمة يا عزيزي , لقد كبرت وصرت رجلا , افتح الباب , لقد جلبت لك لعبة جميلة " أجاب رامان .

هيأ ولات نفسه للعناق وفتح الباب , وقع بصره على لمعان نصل المدية الأبيض الفضي , صرخ مذعورا وحاول إعادة غلق الباب إلا أن الخال سبقه في دفعه , عدا باتجاه الشرفة ينوي إلقاء نفسه منها وتبعه رامان بخطوات متسارعة يصرخ " جاء أجلك أيها الجرو , ابن الزنا " . جفلت تيريسا وانسلت من باب البيت عندما شاهدت ما يجري , دخلت باب بيتها الذي كان مفتوحا واتصلت هاتفيا بالبوليس , ثم بأمها , تخبرهم عما جرى . مد ولات يده على مقبض الباب الذي يفصل بين غرفة الضيوف والشرفة , إلا أن يداه المرتعدتان خوفا خانتاه عندما مسك رامان شعره الطويل بيده اليسرى وسحبه . أرادها الخال أن تكون القاضية على ابن أخته , فرفع يده اليمنى القابضة على مقبض المدية بأقصى ما يستطيع , ثم غرز بكل قوته نصلها الطويل الحاد في صدره , في الورب الرابع أيسر عظم القص , اخترق النصل جدار الصدر فالبطين الأيسر من القلب , فالمرئ , فجدار الصدر الخلفي وبرز نهايته من الظهر , هدأ جسم الطفل وصراخه , سحب رامان النصل من صدره , نفر الدم من الجرح على إيقاع نبضتين من قلب الطفل ثم راح قلبه وجسمه في هدوء أبدي , سال دمه وخضب مساحة كبيرة من السجاد الإيراني المفروش في غرفة الضيوف .

جلس رامان يلهث تعبا وغضبا في غرفة الضيوف على بعد أمتار من جثة ابن أخته الصغير المخضبة بالدماء , بعد أن أغلق باب الشقة , ينتظر أخته وزوجها ليقضي عليهما كما قضى على ابنهما , لكن مزامير سيارة البوليس فاجأته , طوقت الشرطة المبنى , وصعد بعضهم إلى الطابق الأول وطرقوا باب بيت شفان يطلقون من مكبرات الصوت نداء للمجرم أن يسلم نفسه , لكن المجرم أبى أن يفتح الباب منتظرا أن يفتحه صاحبا البيت ليكمل ما بدأ به . إلا أن الشرطة كسرت الباب بعد أن خرجت تيريسا وأبلغتهم عما شاهدت , ألقى رامان السكينة ورفع يديه مستسلما , وضعت شرطية يديه في الأصفاد وقادته إلى السيارة ثم إلى مركز شرطة المدينة , بينما أمر قائد شرطة المداهمة أربعة عناصر من الشرطة أن يحرسوا الموقع ريثما تستكمل الشرطة والطبابة الشرعية مهمتها بعد أن اتصلوا بالإسعاف السريع , لكن الزوجين سبقا الإسعاف بالوصول إلى بيتهما , صعدا الأدراج يلهثان ويرتعدان خوفا وقلقا , وجدا شرطيين على باب بيتهما المكسور , اقتحما بيتهما رغم محاولة الشرطة منعهما , تجاوزا عتبة باب الشقة ودخلا غرفة الضيوف , لقيا ولات ساكنا لا حركة فيه وسط بحر من الدم , أغمي على بيريفان وهوت أرضا قرب العتبة , أكمل شفان مسيره نحو ولده البكر الوحيد , رفع جسمه الصغير بين يديه ونظر إلى وجهه فرآه شاحبا لا حركة فيه ولا تعبير , صرخ باكيا وضمه إلى صدره , تخضبت يداه وسترته بالدم , وضعه حيث كان وشرع يمزق ثيابه وينتف شعر رأسه , شعر أن الجوامد تدور من حوله وسقط هو الآخر وذهب في غيبوبة .

وصلت سيارة الإسعاف , شخص الطبيب وفاة الطفل وحمل عمال النقالة والديه إلى السيارة ونقلوهما إلى المستشفى حيث وضعا تحت إشراف طبيب نفساني بعد أن حقنا بجرعة من دواء مهدئ .

في اليوم التالي رافق طبيب وممرضون الزوجين لمساعدتهما على حضور مراسيم الجنازة , كان في الجنازة رهط من أصدقاء العائلة , يتقدمهم الدكتور علي الكاظم وزوجته رقية , حفر له قبر صغير . " وسعوا قبره ليضمني معه " ناحت بيريفان , المحاطة بممرضتين تساعدانها على الوقوف , مخاطبة من يحفرون القبر , كان جسمها يتمايل من تأثير المهدئ , وكلما استقوت على رفع يديها نتفت شعرها الذهبي الطويل فتمنعها الممرضتان . لف جسم ولات أمام عيني والديه بالأبيض ومدد في غور القبر , ثم طمر بحجارة وتراب . تفرق المشيعون وأعيد الزوجان إلى المستشفى ليخضعا لبرامج إعادة التأهيل بإشراف أطباء نفسانيين الذين آثروا نقل العائلة سكنها ومكان عملها إلى مقاطعة أخرى .

أدين رامان أمام كاميرات التلفزة بتهمة القتل العمد والشروع به , في محاكمة حضرها لفيف من الإعلاميين والصحفيين ومحام الدفاع في محكمة الجنايات في مقاطعة إيستبورن , اعترف الشاب بكل ما أدين به وشرح للمحكمة والحضور أسباب إقدامه على فعلته وأبدى عدم شعوره بالندم على ما قام به , حكم الشاب بالسجن أربع سنوات يقضيها في سجن الأحداث .

في نهاية أسبوعه الأول من سجنه استدعته ريبيكا , الخبيرة في علم النفس وعلم الاجتماع , والمسؤولة عن التأهيل الاجتماعي والنفسي لنزلاء سجن الأحداث والمعروفة باللطف واللباقة , دعته إلى مكتبها في السجن بعد اضطلاعها الكامل على قضيته واستقبلته ببسمة عريضة ونهضت لمصافحته . بوجود مترجم حثته ريبيكا على الالتزام بجلسات إعادة التأهيل النفسي والاجتماعي التي تجريها كل أسبوع مرة لنزلاء السجن , وفي الختام سألته ما إذا كان يحبذ تعلم اللغة الإنكليزية في السجن ومن ثم متابعة دراسته في أي فرع جامعي يشاؤه ضمن السجن , فأجاب رامان إيجابا .

شد شفان وبيريفان الرحال إلى هول , المدينة التي تبعد مائتين وخمسين كيلومترا إلى الشمال من لندن والواقعة على مشارف بحر الشمال وعلى مصب نهر همبر . نالت هول جزاء قاسيا إبان الحرب العلمية الثانية حيث هطلت عليها وابل من الصواريخ والقنابل من طائرات الألمان حتى أحالت الجزء الأكبر منها إلى خراب تنعب فيها البوام . استأجرا بيتا من غرفتين . إلا أن حياتهما هناك اختلفت عما كانت عليه في هيستنغز حيث خيمت الكآبة عليهما وتغير مزاجهما فلم يعد يستمتعا بمنظر الزهور وعبقها في الحديقة العامة القريبة من بيتهما والمزخرفة بالورود كما حديقة هيستنغز ولا بطعم السمك المقلي الشهي الذي يباع على شواطئ البحر . وما زاد الطين بلة هو ما بدأ يتعرضان له من إجراءات عنصرية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر حيث كانا كل يوم على موعد في الشارع مع شتيمة من مراهق أو مسبة من عابر أو إهانة من بائع , وما تعرض له الكثير من الأجانب بين الحين والآخر من حالات اعتداء , وخاصة المسلمين منهم . كان ستيفين , الحليق الشعر , والأزرق العينين يتخلل الحمار بياضهما , أحد غلاة التطرف القومي المناهض للأجانب في المدينة , كلما رأى شفانا في الشارع رفع عقيرته قائلا " أما زلت هنا , أيها الشارد ؟ عد إلى بلدك وإلا طعنتك ذات يوم , أو قتلتك " .

. . .


مضى على سجن رامان سنة , وكان قد أنهى دوراته في اللغة الإنكليزية بنجاح وسجل في كلية الفلسفة وعلم الاجتماع . فتحت ريبيكا ملفه لتقرأ ملاحظات الشرطة والسجانين عنه فوجدت : هادئ , مثالي , خلوق , ليس لديه مشاكل مع السجناء , كثير الشرود .

استدعته إلى مكتبها , رحبت به , ثم سألته ما إذا كان يحب قضاء فترة سجنه خارج السجن , فأجاب إيجابا .

وضعت حلقة معدنية اليكترونية ذات قفل حول ساق رامان فوق الكاحل مثل الخلخال , ترسل إشارات عن مكان تواجده في كل لحظة إلى قسم شرطة المقاطعة , حيث يحق له من السابعة صباحا حتى السابعة مساء الخروج من بيته والتجوال والعمل ضمن دائرة مركزها مركز مدينة برايتون ونصف قطرها بضع كيلومترات , أما بعد السابعة مساء وحتى السابعة صباحا فعليه عدم الخروج من بيته وإلا سيعاد إلى السجن ويحرم من الكثير من حقوقه كسجين , على أن يزور السجن مرة في الأسبوع لمتابعة برنامج إعادة التأهيل التي تنظمها ريبيكا . خرج رامان من السجن واستأجر بيتا صغيرا , يتابع المحاضرات في جامعة برايتون صباحا , وفي فترة بعد الظهر يعمل في مكتبة وسط المدينة حتى قبيل السابعة مساء حيث يعود إلى بيته ويعكف على الدراسة والمطالعة .

كان قد مضى حوالي أربعة سنوات على شفان منذ أن وطئت قدماه أرض هول عندما كان يمشي وحيدا في شارع عام في ليلة شتائية عائدا إلى منزله بعد أن تبضع في سوق سيف وي , وهو يحمل كيس المشتريات بيمينه ويحمل المظلة بيساره , كان الشارع شبه خال من المارة عندما دفعه أحدهم من الخلف بقوة , تلكأ وكاد أن يسقط , إلا أنه استطاع أن يعيد توازنه , سقط الكيس من يده فتدحرجت حبات البندورة والبطاطس على الرصيف والشارع , التفت إلى الخلف فوجد ستيفن واقفا ومتوفزا , " ألا زلت هنا , أيها الشارد , تقتات من فتات رواتبنا ؟ ألم أنصحك بالمغادرة ؟ يبدو أنك مصمم على دفعي إلى قتلك , في المرة القادمة سأطعنك من الخلف بهذه المدية إذا رأيتك في الشارع " قال ستيفن متوعدا .
_ لم أسبب لك أي إزعاج يا ستيفن , ثم إنني أعمل وزوجتي , ولا نعيش على المعونات التي تقطعها الدولة من رواتبكم لتقدما للباحثين عن اللجوء , ثم أنني هنا منذ عشرة أعوام أعمل فيها بكد وقد حصلت على الجنسية فلماذا تطلب مني المغادرة ؟ . قال شفان
_ ستبقى غريبا ما دام الدم الإنكليزي لا يجري في عروقك حتى إذا بقيت هنا مئة سنة . أريد أن أسألك سؤالا أيها الشارد . إذا كان لديك بيت جميل بناه أجدادك من عرق جبينهم وزخرفوه وزرعوا حوله الأشجار والورود وفرشوه بالحرير والسندس , فهل ترضى أن يشاركك فيه أناس أتوا من بلدان أخرى يختلفون عنك عرقا ولغة ولونا ودينا , ها ؟ أنتم هنا تأكلون خبزنا وتسكنون بيوتنا وتضاجعون نسائنا , حتى بات العثور على بيت للسكن حلما للشاب الإنكليزي , هل يرضيك ذلك إذا كان هذا البلد بلدك , ها ؟ وفوق كل هذا تطلبون منا أن نعاملكم بالحسنى , هل يعقل ذلك ؟ هل يعقل أن تستمتعوا بالجنة التي بنيناها وأجدادنا ومن ثم تمارسون الإرهاب ضدنا , هل يعقل كل ذلك , ها ؟ قل لي : ما الذي جاء بكم إلى هنا ؟ لماذا لا تغادرون بلدنا ؟
_ نحن هنا ضيوف أيها الرجل , وسنغادر فورا إذا عم الأمان والسلام بلدنا , ولسنا هنا بهرجة بجنتكم ولا عشقا لنسائكم ولا طمعا بأموالكم , لسنا هنا لإزعاجكم وإنما هربا من المشاكل والصراعات التي تعصف بأوطاننا , جنة كل إنسان هي بلده التي ولد وترعرع فيها يا ستيفن .
_ أنتم لستم ضيوفا , أنتم هنا للبقاء إلى الأبد , أنتم هنا لتحويل هذا البلد إلى دولة إسلامية , أنتم الآن أربعة ملايين مسلم تعيشون هنا لكنكم تتكاثرون كالفئران , فالعاهرة الواحدة منكم تنجب عشرة أطفال , وكل اثنتين من عاهراتنا ينجبن طفلا واحدا , وهذا يعني أن البلد ستتحول إلى غالبية مسلمة بعد ثلاثين سنة .
في تلك اللحظة ألقى عليهما التحية رجلان من المارة , بعد أن راعهما ما يحدث بين الرجلين من نقاش حاد , كان الرجلان هما العراقيان أحمد عباس وشاكر الدليمي واللذان تربطهما صداقة حميمة وعاطفة وطنية مع شفان , لمح ستيفن الرجلين وأدار ظهره ومشى حانقا . كان منزل شاكر قريبا فأصر على دعوة الرجلين إلى العشاء والسهر في ضيافته , فقبل الرجلان الدعوة . دخل الرجال الثلاثة بيت شاكر الدليمي فأسرع ابنه الصغير محمد في استقبالهم وصافحهم وقبلهم بعد أن حصل على كيس من يد والده فيها لعبة كان قد طلب من والده جلبها له . مكعبات من البلاستيك مختلفة الألوان تركب فوق بعضها لبناء بيت من هندسة خيال الطفل , غاب الطفل عن الرجال لدقائق فرحا بلعبته , لكنه عاد وعبر عن عجزه عن البناء طالبا من الرجال الثلاثة مساعدته في بناء بيت له فشرع الرجال الثلاثة يركبون القطعة على الأخرى حتى أتموا البناء فصفق الطفل مبتهجا . تناول الرجال العشاء واعتذر شفان عن السهر لأنه كان ينوي السفر في الصباح الباكر من اليوم التالي إلى هيستنغز ليحتفل بالذكرى السنوية العاشرة لميلاد ابنه .
فتح شفان باب بيته في وقت متأخر من الليل مرهقا جهيم الوجه عابسه , ولم يكن في يده ما ذهب لجلبه من السوق . " ما بك ؟ تبدو متعبا , يا شفان " ساءلته بيريفان .
_ إنه ذاك العنصري ستيفين , كنت عائدا إلى البيت , دفعني من الخلف بغدر فسقط ما ابتعته من السوق من يدي ثم دخلنا في نقاش عقيم .
_ لا أدري ماذا جرى للإنكليز بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر , قبل عشر سنوات , عندما وصلنا إلى هذا البلد , كانوا يتعاملون معنا بلطف , والآن هم ينظرون إلينا على أننا أعداؤهم . هل كوني مسلمة يجب أن أحمل وزر ما اقترفته يدا مسلم في اندونيسيا أو إيران أو السنغال ؟ هذا ليس منطقا .
_ ألا تتذكرين المثل الكردي الذي يقول : العجل السيئ يسئ سمعة كل قطيعه ؟

أنهى رامان فترة حكمه في أواخر سنة ألفين وأربعة , وكان قد تخرج من المعهد قبل ذلك بشهرين , ذهب لزيارة ريبيكا وتوديعها , التي يكن لها الحب والاحترام , في منزلها حاملا بيده باقة من الزهور وهدية قيمه عرفانا لجهودها الكبيرة وأفضالها العظيمة عليه في توجيه مسار حياته إلى الطريق الصحيح , استقبلته ريبيكا بسرور وقدرت ما أتى به . " هل تود البقاء في بريطانيا أم السفر إلى جهة أخرى ؟ " ساءلته ريبيكا قبل الوداع .
_ غدا هو يوم ميلاد ولات , ابن أختي الذي قتلته , سأسافر مساءً إلى هيستنغز لزيارة قبره ووضع إكليل من الزهور عليه , وسأعتذر منه , وفي اليوم التالي سأغادر إلى بلدي . قال رامان بصوت أقرب إلى البكاء .
عانقته ريبيكا وربتت على ظهره وقالت " إن الماضي للعبر يا رامان , ويجب ألا نبقى أسيرين لخطئ مؤلم ارتكبناه في الماضي من حياتنا , وخاصة إذا ارتكبناه قبل سن الرشد " .
أعطته ريبيكا منديلا ورقيا ليمسح دموعه ثم ساءلته : " هل تفكر بالانتقام ممن دفعك إلى هذا الفعل ؟ " .
_ ممن سأنتقم ؟ توفي والدي في اليوم الذي أقدمت فيه على فعلتي . ومن ثم يبهرني قول المهاتما غاندي : " إذا أخذنا بمبدأ العين بالعين فسيغدو البشر كلهم عم " . أجاب رامان .
عانقته ريبيكا مرة أخرى عناقا طويلا وقبلت وجنتيه وتمنت له مستقبلا زاهرا وطلبت منه الحذر حين السفر إلى العراق وأن يبق على اتصال معها . وعدها رامان بذلك ثم انصرف .

في صباح اليوم التالي من عودتهما من هيستنغز استيقظت بيريفان متأخرة , توجهت نحو المطبخ لتحضير الفطور , شعرت بدوخة في رأسها , عادت إلى سريرها مسرعة ولكنها أحست بغثيان قبل أن ترفع طرف اللحاف لتحشر جسمها تحته , فجلست على كرسي كان بجانب السرير , فتح شفان عينيه وسألها عما بها , نظرت إليه بيريفان وابتسمت , وابتسم شفان , ابتسما لأمل منتظر منذ سنوات بات يلوح في الأفق كشمعة أشعلت في عالمهما المظلم الكئيب . ساعدها شفان على الاضطجاع في السرير وتولى مهمة تحضير الفطور .

أطل الربيع ببهائه وزهوه وزهوره وعبقها , قرر الزوجان الاطمئنان على حالة جنينهما قبل نهاية الدوام في أحد أيام شهر نيسان , فحص طبيب النساء بيريفان على جهاز الإيكوغرافي , ثم أبلغهما أن الجنين بصحة جيدة وهو ذكر في الشهر الخامس من الحياة الجنينية , ثم نصح بيريفان الإكثار من السير على الأقدام .
خرجا من المستشفى وقررا العودة إلى منزلهما مشيا , في الطريق إلى البيت نظر كل منهما إلى الآخر مبتسما , " ماذا ستسميه ؟ " ساءلت بيريفان .
_ ولات . رد شفان دون تردد
ارتسمت بسمة عريضة على شفاه بيريفان بينما سقطت دمعتان من عينيها .

في غضون ذلك اعتاد شفان على السير والجري في الحديقة العامة المجاورة لبيته إذ شعر بزيادة في وزنه . كان ظهر يوم الأحد عندما كان يجري في الحديقة حيث رفسه بعنف مراهق من الخلف ولاذ بالفرار , لحق به شفان لكنه دخل بين أشجار كثيفة , فعاد وتابع جريه حتى أكمل دورته ووصل إلى باب الحديقة ينوي الخروج إلى البيت , سمع صوتا يناديه من بين أشجار بجانب باب الحديقة يقول : " ألا زلت هنا يا ابن الزنا , أنت ملح على أن تلطخ يدي بدمك القذر , أيها الشارد " , التفت شفان إلى جهة الصوت فوجد ستيفن , محاطا برهط من المراهقين , وبينهم ذاك الذي رفسه وهرب , كان الجمع يتقدم بسرعة باتجاهه حاملين مدى في أيديهم , لحقوه ولكن شفانا سبقهم إلى الباب وخرج منه قاطعا الشارع أمام مجموعة من السيارات المتوقفة على إشارة المرور , ما إن وصل الرصيف من الجهة الأخرى حتى تغير لون إشارة المرور إلى الأخضر , فعبر سيل من السيارات بسرعة , حالت دون تمكن ستيفن ورجاله من النيل منه .
عاد إلى البيت , لمحت بيريفان تقطب ملامح وجهه وتجهمه , ارتمى على السرير يلهث , طلب من بيريفان أن تتمدد إلى جانبه , وضع ذراعه اليسرى تحت رأسها ويده اليمنى على بطنها المتورمة مثل الكمأ , نظر إلى خياله من مرآة تغطي باب خزانة الملابس الموازية للسرير فوجد الشيب قد دب في شعر رأسه , تفرس في جبينه فرأى خطوطه قد تجعدت , بادرت بيريفان بالحديث وقالت :
_ إنه عينه ذاك العنصري ستيفن , أليس كذلك ؟
هز شفان رأسه بالإيجاب , وتابعت بيريفان :
_ يقال أن العالم الجديد يخلو من العنصرية المقيتة التي تتعشش في الدول القائمة على أساس عرقي وتكبر يوما بعد الآخر. نحن حصلنا على الجنسية البريطانية وتعلمنا اللغة الإنكليزية , فلماذا لا نهاجر إلى إحدى دول العالم الجديد مثل أمريكا وكندا واستراليا ..............
استرسلت بيريفان بالحديث ولكن شفاناً لم يكن يسمعها , كان خياله شاردا , يتقرى بعينيه لوحة فنية معلقة على الحائط أبدع فيها الفنان رسم جبال شاهقة يعلو الثلج ذراها , لحظةً شعر بحركات ولات تحت يده اليمنى , أطلق تنهيدة عميقة وقال :
_ آه ولات , آه ولات , لقد ضاق بي الزمان , وضاقت بي الأرض , وأنت , فقد طال ليلك يا عزيزي , فمتى ستشرق شمسك ؟؟





أنتهى
12 كانون الثاني 2008
د آلان كيكاني
alan_kikani@hotmail.com
 

كول نار

G.M.K Team
رد: نواح كردي في هيستنغز (د آلان كيكاني)

رائعة قرات منتصفها وساعود للتكملة
واو كتير احب هيك نوعية قصص
ياريت نلاقي متل شيفان ههههههههههه
تحية كبيرة للأديب الكبير
وتحية شكر لك عبدو على امتاعنا
 

روشهات زاخوي

شخصية عامة
رد: نواح كردي في هيستنغز (د آلان كيكاني)

براستي جيروكك زور زور جوانه زور زور من زئ حزكر خوزي كه جيت مه هه مو ببان بيرفان وه خورتيت مه ببان شفان


زور زور سباس كه كئ هيزا بو كارئ ته ي جوانو بهاكران هه ربزي تو
 
أعلى