احذروا الكردي جوان حاجو

G.M.K Team

G.M.K Team
ابراهيم محمود

كان فيثاغورث يعتبر الكون عدداً ونغماً، وربما يعني ذلك أن الترددات الصوتية تتبع المساحة المحسوبة للكون عددياً، أو أن العدد يشير إلى الصوت الذي يتردد صداه، ويبرِز المسافة التي يقطعها الصوت أو يحددها، ليكون صدى الصوت عبارة عن مختصر كوني من جهة وساعته.
ألهذا يكون التسبيح بالمعنى الديني بعداً من أبعاد الصوت، تكون الرياضيات في الصميم محكومة بالصوت من الداخل، يكون الفلك ذاته ذا إيقاعات صوتية معلومة، وفي الوقت ذاته إحالة إلى ثقافة كونية عريقة تخص الكون قبل ظهور الأديان، وأن ما يسمى بالهارموني، أي التناغم ليس سوى إشارة جلية إلى المرتكز الجوهري للكون وحركته، ألا وهو الصوت بصياغات مختلفة؟
أكثر من ذلك، يكون هذا الهارموني لـه صلة بالهرمونات وقدرته على ضبط الجسم: تعريفه موسيقياً، فيكون الجسد صورة مصغرة للكون، ويستحضر قول أحدهم:
تقول بأنيَ جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
في هذا الصدد، أرى في حنجرة كل كائن بوابة كونية، حضوراً لكون معين، حنجرة محكومة بما سمي بالأوتار الصوتية، وهذه لا أعتقدها تفارق ما كان يشتغل عليه فيثاغورث الرياضي، حيث في التركيز على الدائرة ( الكون) والأقطار والأوتار الموجودة، ما يربط أجزاء الكون مع بعضها بعضاً أو يؤكدها، وعبر الأقطار والأوتار، يتهادى الصوت بمقاييس معينة.
إن قابلية كل حنجرة لتصويت مختلف، هي تجلي الكوني، بروز سحر الصوت منغَّماً، متنوعاً.
أكتب هذا، وأنا أعود إلى الوراء، وأمامي صوت تتقدمه حنجرة للتعريف به وبصاحبه، تمكَّن من تجاوز حدود الجسد الضيقة، أو أفصح عما في الجسد من هارمونيا في نسبها الكوني.
كيف يمكن التأريخ له؟
في سبعينيات القرن الماضي، كردياً ، في وسطي الكردي ، كانت مجموعة أصوات لفنانين كرد تتنافس فيما بينها، لها مقاماتها، لكل صوت قدرة مميّزة، في التعريف بكونه الخاص به، أي حنجرة بعلامات صوتية مميَّزة، أشير هنا إلى سعيد يوسف، محمد شيخو، محمود عزيز، بدرانو، شفان ...الخ، كان بوسع كل صوت أن ينتشر من خلال أداء وبحة صوتية معينين، مع فارق في الصلة الرحمية بالصوت ، ورسالته، إن أردنا إخلاصاً للمرحلة، وما كان يترتب على الصوت من دور مجتمعي وثقافي وقومي وبطولي...الخ، حيث الوسط المعاش كان يفصح عن مدى ارتباط الصوت بما يتصادى باسمه.
كانت الساحة محكومة بهؤلاء ومن كان من جيلهم، في إثرهم كان ثمة صوت، قيّض أو أريد لـه أن يكون من جهته صوتاً لـه مقامه ومساحته ودوره الذي ينتظره تصاعدياً، كان مزيجاً من محمد شيخو وسعيد يوسف ومحمود عزيز وبدرانو وشفان، مع تفاوت في النسب، أقول ذلك، وأنا أستحضر شفان أكثر من صعيد ملبياً لخصوصيات المرحلة كفاحياً، وانطلاقاً من ذلك الدمج المصيري والملهم بين الصوت والكلمة واللحن، والبحث عن المساحة الأكثر قدرة على رفد هذه العناصر بالدم الجديد بالملهم الفولكلوري والحداثي القابل للتكيف مع المعاش كردياً، ليكون أكثر حضوراً في صوت من أريد التحرك إليه، ألا وهو الفنان الكردي: جوان حاجو!
جوان حاجو في مسيرة ثلث قرن تقريباً من الاستحمام بالموسيقى، وربما أكثر من (تقريباً)، إن قدَّرنا شغف الرجل بها، قبل أن ينعطف إليها، وينزل في ديارها المفتوحة معجباً ، رحالة إليها، ثم مقيم َ صوت، فصوتاً مقيماً معرفاً باسمها، كان الباحث عبر آثارها المجسدة للأذن، ولتلك الروح التي عُرّفت عدداً ونغماً، داخل الدائرة الخاصة به، عن لوغاريتما الصوت التي تعرّفه الآخرين به تدريجياً، وتنزلهم في دياره الصوتية، وقد بانت معالمها تمايزاً، كان بوسع الباحث المأخوذ بلألاء الصوت، أو على الأقل باختلافه، أن يتلمس فيه: انهماماً فولكلورياً في أغانيه التي تخص سواه، وهي المشكّلة البداية الدالة على بداية تبلور صوت في الجوار الكردي – الكردي موسيقياً، أعني تكامل الصوت في ثالوثه المعروف: الصوت المغنى، والصوت الملحن، والصوت المجوَّد كلمات منتقاة، ومن خلال الوسط الكردي دون نسيان العام فيه.
كان في الصوت ذاك، كما يتبدى لنظري الموسيقي: أذناً وعيناً وتذوقاً وكياناً، خصلة من بحة صوت محمد شيخو الشجية، وصفاء صوت معزَّز بصدى مرئي لصوت سعيد يوسف، وتجاوب صوت مرنان، مركب، في أكثر من اتجاه لشفان، وتلك الكفاحية في الصوت المتجلي عبر أغان ترددت كردياً وقتذاك من لدن بدرانوالذي تلاشى لتلاشي دوره الذي انحبس داخله كلياً، ليكون تالياً جوان حاجو الذي لا يعود في المحصلة، حصيلة صهر أصوات فقط ، كما تؤكد مسيرته- سيرته المسموعة في الهواء النقي حتى اللحظة، حتى لحظة التقائي به في سانديفيكن، في زيارتي الأخيرة إلى السويد، على أنه الباحث عن ذاته ولا زال من خلال تنوع أغانيه وتكاملها، وانخراطه في جملة الصوت- حملته في ديار الكرد وهمومهم وتوجساتهم النفسية، بصفته الكرد مجموعاً، من الداخل، وهو الكرد بالمفرد قدر مستطاعه، دون نسيان خصوصيته: معتقداً، ثقافة، تذوق صوت خاصاً به، معاييرموجّهة لصوته بصوته.
ستقول لي: هذا مديح! وأقول للتعليق ذي الغمز، إن وجِد، وهو موجود: هذا ليس مديحاً لظل صوته الممتد غير المستقر بهيئة، إنما بهيئات، عبر أكثر من موضوع لا حباً في التنويع، إنما تجاوباً مع إرادة الصوت المهيَّأ لبوليفونيته، في بعض من حضور الجبلي صعوداً، ومن السهلي انبساطاً، ومن البحري تماوجاً، ومن الذاتي في المجمل تأملَ ذات، وعبر متابعة.
سيكون البدء، كما تستوجب لعبة أو مهارة لعبة البدء بما كان متداولاً ما كان فولكلورياً، ومن ثم ما كان يستجيب للروح الكردية في أبهائها النضالية القومية الطابع والأرضية التي تُبنى عليها الروح تلك، من خلال Axa meye: ترابنا، في شبه مارش عسكري يغازل عتبة الأداء الغربي الحداثي في الصوت، ومن ثم الاستجابة لرموز كانت ذات قيمة أممية محوَّرة، كما في Gîvara، في أبعادها الثورية الأخرى: الحنين إلى الشخصية المؤسطرة، وإلباسها اللبوس الكردي، بشجن الصوت وهديره معاً، واعتماداً على جمهرة آلات إيقاعية ووترية ونفخية ميَّزت جوان حاجو ولا زالت، وعبر أغان كثيرة صادقت على هذا التنوع، من جهة Bese binal welato: كفى أنيناُ أيها الوطن، وKeça kurda: الفتاة الكردية، وتلك الأغاني التي استحضرت أسماء أخرى وقتذاك مثل ماركس ولينين والعامل والفلاح ولقروي والمديني، وحتى الغناء لفلسطين بالعربية في أغنية قديمة لـه وباسلوب حداثي نسبياً، والحياة التي لا تُعاش دون كردستان، والتأكيد على الكردية Em kurdin: نحن كرد، لتتنوع الأمكنة والوطن المنشود واحد، كما في أغاني :
Nisêbîna rengîn، وWelat، وBehra wanê، وDêrsîm، وDiyarbekir.الخ.
ويكون المألوف الشجي بصوت ممتلىء مساحةً ًمن الداخل، من خلالLimin lêlê، وAman Aman، وLê canê، وBêrîvan، وNeçe bêriye...الخ، ويمتزج الشرقي بالغربي أداء وموسيقى فيDestêm bigre، وHey hey، وZemano،وZiravê، وBehr bê pêl nabe،وKetme xêra xwedê de،و Kalo...الخ، ليبرز الاسلوب الغربي ملطفاً ومتعدد الأبعاد الصوتية، كما في Girtiyên azadiyê ، و Esmer esmerê ، وJi bin kaş kîvroşkek rabû ، وCanê، وDilo rebeno، و Lêxin lêxin hevalo، و Hey hey kêfam gelkî ji te re tê، وLeyla،و Hawar ، وما هوملحمي أوبرالي، كما في Ev çiya، وEgîdekî، وSer bûyerek...الخ.
لا أتحدث كما لو أنني أريد التأكيد على فرادة صوت جوان كباحث في الفن، إنما كذواقة، فثمة فنانون كرد لهم حضورهم الفني اللافت، ولست بصدد مبايعة لصوته دون آخرين، إنما لأنني في محاولتي هذه، وفي المجال الذي أكتب فيه، أحاول التشديد على ما يبدو يقيناً خاصاً بي، ومن خلال ما هو متداول سماعاً، وليبقى صوتي المجسَّد في مرآتي الكردية الخاصة شهادة معرفية تذوقية، وأنا ألتقي به، حيث كان لقاؤنا في بيتي في قامشلو قبل عقدين من الزمن ، وربما أكثر، فالرجل جاء لتجديد حرارة اللقاء، وأنا كنت بانتظاره، وليكون اللقاء في جو سانديفيكني يجمع ما بين الهدوء خارجاً، وامتداد رقع الثلج المجمد ، وانعكاس البياض في الجوار، وعبر بللور المطعم الشفاف والفسيح، كما هو اللقاء، كان الحديث إثر المعانقة والسؤال عن الصحة والأهل، كما هي العادة، عن الصوت الفني، عن صوت جوان عبر جوان، حيث تلمست في جوان هذا حضور صوته، انشغاله بصوته، حتى وهو يتحدث، كما لو أنه يتحفز للغناء بطريقته الخاصة طبعاً، وهو يتجاوب مع أسئلتي أو استفساراتي، أو انطباعات لي طبعاً أيضاً، بخصوص مشاغله الصوتية، وما يريد أن يقول رداً أو تعليقاً على المتردد من الأقوال والتعليقات طبعاً من جديد، عن أغان تلفت الأسماع في جدتها، وحتى في بنيتها ومضمونها، كما في Kalo، وEz ketme xêra Xwedê de، وسواها من غالبية الأغاني التي تميَّز بها، حيث إن مسيرته- سيرته معاً، تريان مدى التجاوب مع المستجدات، مع ما هو شبابي ضرورة واقع، مع ما هو حداثي لزوماً، مع ما هو مؤدى بالطريقة الشرقية ببساطة إيقاع حنيناً إلى ما كان، وربطاً عُقدياً جميلاً بين الأجيال بتنوع رغباتها، والشعور بالتكامل، ليؤكد على أنه يعيش شعوره بالزمن ومستجداته، شعوره بانفتاحه على الموسيقى وما يجب أن تكونه في تعددية مقاماتها، في ذلك التجديد الذي يبقيها موسيقى حياة، وحتى من جهة الكلمات التي تُؤدى ملحنة أو تُسمع كما لو أنها حديث من شخص لآخر، ولكنها في سياق الأغنية تكتسب بعداً لآخر، بعد الصوت الذي يستجيب لقدراته في التفتح، في الرخامة والرقة والتحول المباغت من حالة لأخرى، وهذا يعدُّ مخاطرة تتطلب إرادة حنجرة قادرة على تجاوزها، وعبر الجمع بين الانتماءات الصوتية: الحادة ( تينور) والوسط (باريتون) والمنخفضة (باص)، وليكون اعتماد مجموعة الآلات من جهة الجمع بين ما يسمى بالشرقي والغربي، إلا رغبة في صهرها معاً للحصول على صوت مختلف، من جهة ما هو إيقاعي كثيراً، وما للإيقاع من دور كبير في ضبط الصوت وتوجيهه، وحتى التأثير في الجسم، والقيثار المعتمَد عنده بجلاء، ومحاولة تطويعه في خدمة الصوت، وأظنه أفلح كثيراً في تدشين شخصية فنان يمكن الإصغاء إليه كمنتم إلى عصره، ويعيش مجتمعه، وما فيه من تنوع رغبات واختلاف ميول الأجيال فيه، وفي الوقت ذاته، لاغياً الجدارالذي لم يعد موجوداً، بين ما هو شرقي أو غربي، من خلال تجواله في بلدان كثيرة، وكما هو وضع الكردي في جهات الأرض الأربع، فالانسان وحده من يستطيع الارتقاء إلى الأصل فيه، بصفته صورة عما هو كوني.
كان تركيز جوان على أنه يعيش ما يبدو له صحيحاً، وهو يتابع ما يجري من تحولات، حتى في وضعه لكلمات أغانيه، يريد الاستجابة لحالته الخاصة، للتمكن من ذاته أكثر.
ربما يكون تحفظ ٌهنا، إزاء اكتفاء الفنان بما لديه، وربما يكون تبرير لما يذهب، وربما يكون تعليق يخص النظرة إلى الذات، ولكن في مجمل الأحوال، أتلمس في جوان حاجو الصوت الذي لا يتوقف عن مواجهة ما حققه، وما يجب عليه أن يؤديه أكثر من ذلك، لئلا يكون سجين نمط معين، ولعله هنا، يغري الآخرين بالإصغاء إليه، وحتى بالتخوف منه، وهو في تجدد الذات بالذات. احذروا جوان حاجو إذاً، وأنتم في عملية البحث عن التجدد، وأنتم مشدودون إلى المسمى بـ (الأصول)، وما تعنيه الأصول هذه، من ثبات في المكان، ورفض الدخول في الحياة وهي في تحولاتها. أستطيع أن أقول أن بوسع أي كان أن يجد في جوان حاجو بعضاً منه، فقط إذا أشهرَ مرآته الفنية بعيداً عن أي اعتبار ذاتي ضيق، أي جوان الفنان الكردي الذي يعيش الصوت فعلَ حياة، مثلما يعيش الحياة صوتاً ينتشر في أكثر من جهة.
لقد قلت ُ فيه الكثير، كما يُتصوَّر، نعم! لكنني لم أقل إلا كما هو الصوت الذي أتلمسه روحاً طليقة في الحياة، أما عن الملاحظات، أم عن التحفظات، وفي مجال الصوت هنا، فأتركها للباحثين عن الأصول والمتشددين عليها دون أصولها أصولاً !!!.
أقول ذلك وأنا أورد مقطعين من أغنيتين تنسجان مسيرة الصوت المتخم بالحياة انسانياً وكردياً، وأتركهما دون ترجمة، لئلا أسيء إلى روح النص وصداه الكردستاني:
الأول من Diyarbekir
Diyarbekir warê mine
Diayrbekir cihê mine
Cihê bav û kalê mine
Ew mesken û peytexta mine
Cihê bav û kale mine
Ew mesken û azata mine

والثاني منNav bexçe rê heye
Nav bexçe rê heye
Kezî zera min
Îşev civanê meye
Çav xezala min
 

كول نار

G.M.K Team
رد: احذروا الكردي جوان حاجو

كل الشكر لالك عبدو على الطرح
 

جوان

مراقب و شيخ المراقبين
رد: احذروا الكردي جوان حاجو

مشكور استاذ على الطرح الجميل
 

كلبهار

مراقبة عامة
هور يانعه في بساتين المنتدى نجني ثمارها من خلال الطرح الرائع لمواضيع اروع
وجمالية لا يضاهيها سوى هذا النثر البهي
فمع نشيد الطيور
وتباشير فجر كل يوم
وتغريد كل عصفور
وتفتح الزهور
اشكرك من عميق القلب على هذا الطرح الجميل
بانتظار المزيد من الجمال والمواضيع الرائعه
 
أعلى