هجرات الآريين ؟

وقد كتب ول ديورانت ذات مرة:


" التاريخ كتابٌ يجب أن يبدأه الإنسان من الوسط ".

وهذه هي الحقيقة في التعامل مع التاريخ، إذ لا توجد على الدوام وثائق مؤكّدة حول بداية تاريخ جماعة بشرية، سواء أكانت قبيلة أم شعباً أم عرقاً، وإنما ثمة ظنون وترجيحات، وكثيراً ما يختلف المختصون في تلك الظنون والترجيحات، والأرجح أن الجنس البشري ظهر منذ حوالي مليون سنة، وقد تجعل الاكتشافات العلمية هذا الرقم يتغيّر صعوداً أو هبوطاً، ولا مشكلة في ذلك، فهو لا يفقدنا حق الوقوف عند السؤال الآتي: كم من السلالات البشرية ظلت محتفظة، على الدوام، بالمكان الذي ظهرت فيه أول مرة؟ إنها تكاد تكون محدودة جداً، هذا إذا لم تكن معدومة، فقد كانت السلالات مضطرة إلى الانزياح عبر المكان (الجغرافيا)، ومع تكاثر البشر في نطاق جغرافي معيّن أخذ الانزياح صورة (الانتشار)، ومع تنافس المجموعات البشرية على (المكان) الأفضل، أخذ الانزياح صورة (الاحتلال).

وقسّم المؤرخون شعوب العالم إلى مجموعات عرقية كبرى، أهمها: الشعوب الهندو- أوربية، والشعوب السامية، والشعوب الحامية، والشعوب الأورال ألطائية، وشعوب جنوب شرقي آسيا، وشعب الإسكيمو. وذكروا أن الشعوب الهندو-أوربية تضم الأوربيين والأمريكيين، والسلاف، والأرمن، والفرس، والكرد، وآخرين، ويطلقون على هذه المجموعة اسم (الآريين) أيضاً، وجاء في كتاب (انتصـار الحضارة، ص 245 - 246) للمؤرخ جيمس هنري برستد، أن مصطلح (الآريين) يطلق على الفرع الشرقي من الشعوب الهندو-أوربية، وهم: الأرمن، والفرس، والميد (من أجداد الكرد)، ومن استقر في أفغانستان والهنـد. أما الأوربيـون والأمريكيون فهم من الفرع الغربي؛ أي أن الآريين هم أبناء عمومة الأوربيين، وليسوا أجدادهم.

ويتفق معظم المتخصصين في التاريخ القديم، وفي علم السلالات، أن وسط آسيا، وتحديداً شرقي بحر قزوين، كان المهد الأصلي للشعوب الآرية، وذكر ول ديورانت (قصة الحضارة، مجلد1، جزء2، ص 399)، أن (الزند أفستا)، وهو الكتاب الزردشتي المقدس، يأتي على ذكر هذا الموطن القديم، " ويصفه بأنه جنة من الجنان ". وقد اكتشف الأمير الروسي بيير كروبوتكيين Pierre Kropotkine في سهول وسط آسيا غابات واسعة يابسة، واستدل منها على أن تلك المنطقة عانت من أزمة مناخية حادة خلال الألف الثالث قبل الميلاد؛ أي أن المكان أصبح معادياً وطارداً، ولم يعد يهيّئ إمكانية البقاء لسكانه على النحو الأفضل، وطبعاً كان الحل هو الانزياح إلى المكان الواعد، فتوجّه بعض الآريين جنوباً نحو شمالي شبه القارة الهندية، وتوجّه آخرون نحو غربي آسيا، وتوجّه فريق ثالث شمالاً وغرباً نحو أوربا الشرقية والغربية.

والأرجح أن هجرات تلك القبائل بدأت من أوائل الألف الثالث قبل الميلاد، ودليلنا على ذلك أن السومريين، وهم شعب آري، أقاموا حضارة مزدهرة في جنوبي بلاد الرافدين (جنوبي العراق حالياً) حوالي منتصف الألف الثالث قبل الميلاد، وأن الأكاديين الساميين القادمين من شبه الجزيرة العربية غلبوهم على أمرهم حوالي سنة (2350 ق.م)، ولا ريب أن هجرة السومريين من شرقي بحر قزوين، واستقرارهم في بلاد الرافدين، كان على مراحل، واستغرق وقتاً ليس بالقصير.


تنافس آري - سامي

وقد توالت هجرات بعض الفروع الآرية، واستقرت في غربي الهضبة الآريانية وجنوبها الغربي، وتحديداً في جبـال زاغروس والمناطق المتاخمة لها، وظهرت أخبـارها في أزمنة متواكبة تارة، وفي أزمنـة متلاحقة أحيـاناً، وكان ذلك مرهوناً بالمرحلة التاريخـية التي كان يلمع فيها اسم كل فرع سياسياً، فتشير إليه المدوَّنات السومرية أو الأكادية أو البابلية أو الآشورية أو الحثية أو المصرية، وتمازجت تلك الفروع الآرية عبر القرون في مختلف مناطق كردستان الحالية، ولا سيما في الشرق والشمال والجنوب، ثم توحّدت سياسياً وحضارياً تحت راية الفروع البارزة التي أسّست دولاً قوية؛ مثل اللولو، والگوتيين، والكاشيين، والميتانيين (الحوريين)، والسوباريين، والنايري، والأورارتو.

وفي عهود القنص والرعي كانت السهوب وسفوح الجبال هي (الجغرافيا) الأفضل لممارسة مشروع البقاء، لكن مع تزايد السكان، واكتشاف إمكانية إنبات البذور، والحصول منها على الغذاء، انتقلت البشرية إلى العهد الزراعي، وأصبحت السهول وأحواض الأنهار هي الأمكنة الصديقة الواعدة، ولذا أصبحت سهول جنوبي بلاد الرافدين- وهي متاخمة شرقاً لسفوح زاغروس، ومتاخمة غرباً وجنوباً لبلاد العرب- المكان الذي يستقطب الشعوب المجاورة، سواء أكانت شعوباً جبلية أم كانت شعوباً صحراوية، وكان السومريون أول شعب جبلي استقر هناك في الألف الثالث قبل الميلاد كما مرّ، وشيّد المدن، واخترع الكتابة، وسنّ القوانين (قانون أورنامو)، وأقام حضارة زراعية مزدهرة.

ويتفق المؤرخون على أن السومريين آريون، وأن هذا الشعب انحدر إلى بلاد الرافدين من الشمال والشرق، أي من المنطقة التي كان الشعب الكردي يقيم فيها، وما زال مقيماً فيها، وقد تكون للسومريين صلة قرابة إثنية ما بالشعب الكردي؛ نظراً لانتمائهما إلى السلالة الآرية وإلى بقعة جغرافية مشتركة، ولما بين اللغتين السومرية والكردية من تشابه في بعض المفردات والصيغ، سواء أكان ذلك في المجال الميثولوجي، أم في مجال الحياة العادية، ومهما يكن فإن الدراسات الجادة كفيلة في المستقبل بالبتّ في هذا الموضوع. ولم يستطيع السومريون الاحتفاظ طويلاً بمكانهم الواعد (جنوبي بلاد الرافدين)، فقد نافسهم أقاربهم الآريون قادمين من الاتجاه نفسه الذي قدموا هم منه، وكان الگوتيون أول أولئك الآريين، ثم تلاهم الآخرون.

وكان شبه الجزيرة العربية قد تحوّل إلى صحراء منذ أواسط الألف الثاني قبل الميلاد، وأصبح مكاناً طارداً للبشر، فتوجه بعض سكانه الساميين شرقا وشمالاً نحو جنوبي بلاد الرافدين، حيث كان يقيم السومريون، وكان الأكاديون أول الساميين الذين احتلوا بلاد سومر، فحوالي عام (2300 ق.م) استولى أحد زعماء الأكاديين، وهو سرجون، على السلطة في سومر، وأسس السلالة الأكادية، ثم تلاهم أقاربهم البابليون، إذ سيطر حمورابي البابلي على بلاد ما بين النهرين حوالي سنة (1787 ق.م)، وأخضع سومر جنوباً وآشور شمالاً، وكان الآشوريون قد توافدوا من الشمال أو من الغرب، وثمة خلاف في أصلهم ما بين آري وسامي، ثم سيطر الآشوريون على الموقف في غربي آسيا من حوالي (1360 ق.م) إلى سنة (612 ق.م).

وجملة القول أن المناطق السهلية المتاخمة لجبال زاغروس شرقاً، ولبلاد العرب غرباً، كانت منطقة تنافس وصراع بين الشعوب الآرية والشعوب السامية، كما أنها كانت في الوقت نفسه ساحة تنافس داخلي بين فروع كل واحدة من السلالتين، ومع القرن الثامن قبل الميلاد انكشف الموقف في تلك المنطقة عن قوتين متنافستين: قوة آشورية إمبراطورية مهيمنة ذات ثقافة سامية، وقوة ميدية ناهضة ذات ثقافة آرية.

وكان قائد القوة الميدية هو دياكو.

وهو الذي قاد الميديين لمقاومة الإمبراطورية الآشورية.

فمن هو هذا الرجل؟ وماذا عن إنجازاته القيادية؟
 

كلبهار

مراقبة عامة
هور يانعه في بساتين المنتدى نجني ثمارها من خلال الطرح الرائع لمواضيع اروع
وجمالية لا يضاهيها سوى هذا النثر البهي
فمع نشيد الطيور
وتباشير فجر كل يوم
وتغريد كل عصفور
وتفتح الزهور
اشكرك من عميق القلب على هذا الطرح الجميل
بانتظار المزيد من الجمال والمواضيع الرائعه
 
أعلى