أحسد جدي

Bradost

كاتب
أحسد جدي



استفقت اليوم في الصباح الباكر كما كل يوم على زعيق مزامير السيارات وهدير محركاتها وصياح الباعة المتجولين , ضغطت على زر التشغيل في جهاز التحكم عن بعد للتلفاز وأنا لا أزال متمددا في الفراش , كانت قناة إخبارية تنقل على الأثير مشاهد جثث وجرحى ناجمة عن انفجار سيارة ملغمة في إحدى بقاع العالم , كبست زر المحطة التالية فكانت تبث ندوة لعلماء البيئة عن ظاهرة الاحتباس الحراري وذوبان الجليد في القطب الشمالي وما ينجم عنه من ارتفاع منسوب البحار والمحيطات , الأمر الذي يهدد بتقليص مساحة اليابسة , أما القناة الثالثة فكانت ترسل برنامجا عن القحط والجفاف والتصحر وانتشار المجاعة في العالم . أطفأت التلفاز ومددت يدي على سماعة الهاتف كي التمس من المدير إجازة ليوم واحد ناسيا أن خط الهاتف مقطوع منذ أيام لأسباب مالية .
نهضت من الفراش ارتدي ثيابي , فقد قررت اليوم زيارة جدتي في القرية النائية الواقعة على سفح جبل شاهق لنحتفل سوية بيوم ميلادي الأربعين وطمعا بقضاء يوم واحد في عزلة وانفراد بعيدا عن ضوضاء المدينة وهوائها الملوث , اعتلت السيارة التي تقلني ربوة في أطراف المدينة فلاحت ملامح أبنيتها العالية وهي تسبح في غمامة سوداء من الدخان والغبار , شقت السيارة طريقها وسط الازدحام إلى الطرف الآخر من المدينة , مسحت وجهي بمنديل ورقي أبيض فاستحال لونه إلى الأسود , في الطريق رن جهازي الخليوي خمس مرات وكان السؤال الأول بعد التحية في كل مكالمة هو : أين أنت ؟ .
نزلت من السيارة على بعد ميل من منزل جدتي وسلكت سيرا على الأقدام طريقا صخريا يؤدي إليه , استهواني على الطريق قضاء حاجتي في العراء خلف أشجار بجانب الطريق , الأمر الذي اعتدت عليه في الطفولة حين كنت أعيش مع جدتي , عندما قضيت نصف حاجتي أفزني رنين جرس هاتفي المحمول فانتصبت واقفا كالملسوع , كانت النغمة تنبئ باستلام رسالة , فتحتها وقرأت : عزيزي المشترك , الرجاء تسديد فاتورتك وإلا سنضطر إلى قطع خطك .
أمام بيت جدي القديم المبني من الحجر والمسقوف بأعمدة خشبية والمحاط بالأشجار والزهور استقبلتني جدتي بحفاوة , جدتي التي تجاوزت التسعين والأرملة منذ خمسين سنة فقد فصلت أيادي القدر جدي عنها وكان له من العمر سبعين .
تأبطت جدتي يدي وجالت بي أرجاء البيت تطلعني على الأثاث والأدوات مما كانت تستخدمه وجدي , عدة أوان من الآجر وطست وإبريق من النحاس تقبع على رفوف في المطبخ , وعدة طنافس ووسائد وأفرشة ولحف بالية تتراكم فوق بعضها في غرفة وحيدة هي للنوم وللضيوف , وفي إحدى حيطانها تجويف على هيئة بوابة تسدها صفيحة من الخشب فتحتها وكان فيها كل ما استخدمه جدي من ملابس في حياته : عدة سراويل فضفاضة وجوارب وسترات من الصوف الخالص حاكتها جدتي له , وفي زاوية من الخزانة كان كتابه المقدس الوحيد الذي كان يروي به عطشه الروحي .
قلت لجدتي : هلا حدثتيني عن جدي ؟ فقالت : كان يقضي وقته من طلوع الشمس إلى مغيبها في الحقل إما حارثا أو باذرا أو حاصدا , وفي فترة الظهيرة كنت أحمل له الزاد إلى الحقل , رغيفان من خبز التنور وحبتين من البصل ودن صغير من اللبن الرائق , يهوي حبة البصل بيده فيغديها فتات يرش عليها قليلا من الملح ثم نتناولها بنهم مع الخبز واللبن , ثم يجمع قليلا من الحطب ويشعل فيها النار ويضع عليها إبريق الشاي .
بعد هنيهة من الصمت سألتها مازحا : وفي الفراش يا جدتي ؟
قهقهت جدتي من فمها الأدرد ككهف هجره سكانه وهزت رأسها وقالت : كان الفراش يتذمر من حركاته , يا بني .
ضحكت فتموجت طبقة الشحم الكثيفة على كرشي المقببة كالفطر تموج ماء راكد قهقهت عليها رياح عاتية , وإذ قهقهت طقطقت علبتا الفياغرا وخافض الكولسترول في جيبي , نظرت إلى الحائط في الصدر , كانت صورة جدي معلقة عليه , قديمة كأنها التقطت من خلف السديم تفرست فيها وقلت في نفسي : أحسدك يا جدي .
 

كلبهار

مراقبة عامة
هور يانعه في بساتين المنتدى نجني ثمارها من خلال الطرح الرائع لمواضيع اروع
وجمالية لا يضاهيها سوى هذا النثر البهي
فمع نشيد الطيور
وتباشير فجر كل يوم
وتغريد كل عصفور
وتفتح الزهور
اشكرك من عميق القلب على هذا الطرح الجميل
بانتظار المزيد من الجمال والمواضيع الرائعه
 
أعلى