جميع كتابات ماهين شيخاني

G.M.K Team

G.M.K Team
العواصم

علمتهُ أسماء العواصم والدول وفهمتهُ أن العاصمة هي كبرى المدن في الدولة و لها أهميتها الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية. فالرؤساء والوزراء يجتمعون فيها ...الخ
نعم ، بدأت اعلمه في وقت فراغـه تقريباً كل ما اعلمه ، حتى اصبح يحفظها عن ظهر قلب ، فأسأله عن عاصمة سوريا ؟
- يجيب مباشرة:دمشق.
- تركيا...؟
- عنقرة فابتسم و أقول له بالألف وليس العين أنقرة
- العراق...؟
- يرفـع رأسه وينظر الى السقف وبابتسامة تبسط فيّه.حيث تتبين أسنانه وينكشف الفراغ بسبب سقوط سنّين من أسنانه اللبنية.
- تذكرت ...يبدأ بحرف الباء ...نعم...بغ...بغ...بغداد.
أمسد شعره حيث يشدني من الداخل موجة فرح
وأقول : غداً إنشاء الله سنتعرف على ثلاث عواصم أخرى
هكذا بدأنا المشـوار .أنا و آزاد .إلى إن جاءني ذات مرة وقال :
- بابا،لقد عرفت...؟
- ماذا عرفت يا بني ...؟!
- عرفت ان كل دولة لها عاصمة ...
قاطعته :وهل اغني في الطاحونة ؟ألم أعلمك بذلك؟
- دعني اكمل بابا..لها عاصمة ولها أيضا لغة .أليس كذلك؟
- صحيح، ولكن من أين تعلمت هذا؟ من المدرسة ام من زملائك؟
- لا...لقد تعلمتها من التلفزيون...القناة السورية لها لغة والتركية لها لغة . حتى انني أصبحت افهم بعض كلمات اللغة التركية .
- نعم صدقت ...كل دولة لهـا لغة و أضف الى معلوماتك يا عزيزي اللغة الإنكليزية و...اللغة الهندية ...اللغة الألمانية ...ثلاث لغـات ...كفى الآن وغداً لغات أخرى.
فاجأني بحديث اخر:
صديقي في المدرسة لا يعـرف مثلي لغتين ، فقط يتكلم لغة واحدة في البيت والمدرسة .أما أنا فلي في البيت لغة وفي المدرسة لغة،أنا اشطر منه...أليس كذلك...؟
- أنت ولد شاطر وذكي؟!

توقف برهة ، وضع سبابته في فمه ، أدركت بأنه يريد أن يبوح بشيء اخر تنحنح ثم قال:
- بابا...لغة بيتنا ما هي عاصمتها؟
أدهشني سؤاله أحسست بقشعريرة من رأسي الى أخمص قدمي ، حاولت ان اخرج نفسي من هذا المأزق الذي لم احسب له يومـاً بأنه سيسألني ولا ان اقـف عاجزاً أمام سؤاله.
- عاصمة لغتنا ...هي ...لا...ابداً يابني ، لها عواصــم عديدة لان مدنها كثيرة وكبيرة جداً ...اربيل...ديار بكر...مهاباد...هذه كلها عواصم.
 

G.M.K Team

G.M.K Team
الحدود

اخضوضرت الدرباسية وأطرافها ببساط ربيعي، وبدأ الناس يخرجون لرعي ماشيتهم.كنت أنا وزميل لي بالقرب من صوامع الحبوب المتاخمة للحدود .(لولا المفرزة العسكرية القريبة منها لاستطاع الانسان أن يقفز من حائطها ويدخل الى تركيا).

يسألني زميلي عن الدراسة وعن المدة التي بقيت خارج البلدة لإكمال الدراسة وهل أستطيع التوظيف في صوامع الحبوب، باعتبار دراستي في مجـال الزراعة. أثناء الحديث التفتَ نظري الى ديك رومي يأتي باتجاهنا من الشمال.
انتابني شعور خفي وكأن هذا الديك هو قدري ، وتذكرت وعل سيامند تيبستُ في مكـاني وأنا انظر إليه .كيف نُتف ريشه وهو يريد ان يخرج نفسـه من بين الأسلاك الشـائكة الواقعة بيننا وبين تُركيـا وبعد محــاولات متكررة تخلص الديك أخيراً من أسـلاك ونزل إلينا فأمسكنا به.
ابتسم صديقي وقال:يا لطعامنا الشهي لهذا اليوم!!‍‍‍
وبعد فترة قصـيرة خرجت فتاة من الدار، تنظر هنا وهناك وكأنها فقدت شيئاً ما انتبهت إ لينا ونحن ننظر أليها
فاتجهت نحونا دون أن تبالي بالمفرزة العسكرية أو الحرس، نعم اتجهت إلينا وأنا مندهشٌ لجرأتها.
أنها فتاة عصرية لباسها يدل على أنـها من خارج البلدة الصغيرة.
اقتربت .واقتربت حتى أصبحت على بعد بضع خطوات على مقربة منا.سلمت علينا بالتركية . فقلت : ؟ tu kurdmanj,
فَرِحَتْ كثيراً لدى سماعها بذلك ورددت بلغتي:نعم إذاً أنتم كرد أهلا وسهلاً.
فقلت لها : ألا تخافين من العسـاكر .إذا رآك أحدهم سيطلق النار عليك ابتعدي رجاءً ألست من هنا؟
ردّت قائلة: من هنا ولكنني ادرسُ في مكان آخـر.
أوه، يا للصدفة وأنا ادرس في مكان آخـر غـير الدرباسية.ولكن ماذا تدرسين.
قالت :ادرس لكي أتخرج معلمة مدرسة(خوجة).
حسناً فعلتِ ، معلمـة ، ستُخرجينَ جيلاً يستطيعون التقرب من السياج وحتى قطعها أليس كذلك؟.
ضحكت وقالت:هل تعلم أنك جعلتني أنسى ما جئت ابحث عنه.فقد نسـيت الديك حيث خرجت لأفتش عنه لنذبحه .

- إذاً هذا الديك لكم ورفعته.
- نعم .نعم !إنه هو. ياله من إبليس ، كيف عبر الحدود ؟ .
- سأرده لكم ولكن بشرط ؟
- قالت : قبل ان أتكلم: عرفت شرطك أن لا اذبـحه وهذا وعد مني أن لا أذبحه مهما حصل.ولكن قل لي ماذا تدرس أنت .
- قلت: دراستي في مجال الزراعة ولكن..
- ولكن ماذا...؟ ألم تنتهِ منها...؟
- نحن يا آنسة مواطنون من الدرجةالأخيرة،توظيفنا صعب وحياتنا اصعب، ندرس ونتعلم،نغترب ونأتي إلى هنا - ثم أشرت إلى صوامع الحبوب - لنشتغل عتالين بدلاً عن التوظيف وقفتْ هنيهة دون حراك وكأنها تألمت لمأساتي.
وقالت : أريد منك ان تكتب عنوانك حتى أراسـلك وأعرف منك كل شيء فهل هذا ممكن؟.
أخرجتُ القلم وكتبتُ اسمي وعنواني على ورقـة صغيرة ووضعت بينها حجرة و قذفت بها إلى الجهة الأخرى ، رفعت يديها لي شاكرة.
فقلت:الباب التي خرجت منها لكم إذاً.
قالت : نعم لنا .
قلت: في أيام الربيـع نخرج عادة إلى هنا نتمشى ونريد ان نكـون قريبـين من الجبـل أكثر بإمكانك أن تخرجي يوم الجمعة حوالي السـاعة الخامسة على ذاك التل وأنا سأخرج و سأكون هناك قرب ال... - وأشرت بإصبعي إلى الاتجاه المطلوب - فبيتنا قريب من هناك.
أمسـكت بالديك ورميته وكأنني ارمي قطعة من قلبي لها وقلت:حافظي عليه.نَظرتْ إلي.لوحت بيدها وابتعدت شيئاً فشيئاً حتى دخلت الباب والتفتت إلينا ورفعت يدها مرة أخرى.
رجعتُ إلى البيت وصورتها لا تفارق ذهني وكلامها لا يفارق من مسمعي إنهـا نغمٌ لحنٌ موسيقي في أُذُنَي وبقيتُ كالتائه لأيام. وانتظرت وعشت لحظات أعدفيها الساعات والثواني وقد استعرت من صديق لي منظاراً.
وأخيراً جاء يوم الجمعـة واقتربت الساعة من الخامسة وقلبي يدق وتراودني أفكار شتى هل يا ترى ستأتي الى موعدها ، أم انها كانت مجاملة لا اكثر ولا اقل و نسيتني؟.
مازال المنظـار أمامي. وعيني لا تترك العـدسة وإذ يزداد خفقان قلبي وخانني اللاشعور وصحتُ بأعلـى صوتي إنها هي ..!...إنها هي انظروا...! انظروا جيداً إنها تخرج من الدار نفسها وتتجه نحو التلة المقصودة بالذات لوحتُ لها بيدي وقلبي يرقص فرحاً ، وكأنه يريد ان يخرج من صدري.
لوحتْ أيضا بيديها وبقينا هكذا نلوح بأيدينا حتى غابت الشمس و منذ ذلك الوقت،أراسلها وتراسلني ، حتى خصصت ألبوما لصورها وصور أهلها أنها تكتب كل شيء...كل ...ما يجول في خاطرها.. وحبنا يكبر وشـوقنا يزداد يوماً بعد يوم...ومـع ذلك لا أستطيع رؤيتها ولو مرة واحدة.
رؤيتنا للبعض فقط من خلال الصور والرسـائل ، ومناسـبات الأعياد من بعيد فقد كتبت لي ذات مرة تقول: لماذا لا تستطيع زيارتنا.فأبناء بلدكم يأتون إلى تُركيـا ألا تُحبني بالله عليك إذا كنت تحبني فاحصل لك على جواز سفر وتعالى اليَّ أنني بانتظارك، مشتاقةٌ لرؤيتك ، أنتَ قدري، فهل كتُبَ علي ألا أراك.
فقلت : يا حبيبتي ألم أقـل لك نحن مواطـنون من الدرجة الأخيرة. فأنا محروم من هويتي كإنسان ، محروم من أبسط الحقوق الإنسانية محروم من حق المواطنة فأين لي بجواز سفر كي آتي إليك. آه...أيتها الحدود اللعينة إنك لست من حديد،لأن الحديد يذوب،يتأثر بالبرد والحرارة وحرارة قلوبنا تذوب أقسى أنواع الحديد والسياج.



ومازالت القصة مستمرة
 

G.M.K Team

G.M.K Team
الشبح ... والطريدة

في وسط السوق المكتظة بالناس تجمد عروقه, وقف بمكانه وعيناه جاحظتان باتجاه شخص يبعد عنه بمسافة بضع أمتار , كان الواقف يرتدي هنداماً أنيقاً , واضعا نظارة سوداء وكأنه بانتظار شخص ما .
حاول تغيير مساره وبسرعة البرق ولج إحدى المحلات القريبة بحجة التبضع واشترى أشياء تكاد تكون غير ضرورية لبيته ودقات قلبه الوجل في ازدياد مضطرد , انسل من المتجر دون إن يلاحظ عليه أحد ذاك الرعب القابع في ذاته , استأجر سيارة بمبلغ كان سيكفيه لمدة أسبوع , بددت حركاته غير طبيعية وهو داخل السيارة , ينظر خلفه تارة وتارة أخرى يسترق النظر من خلال مرآة السيارة والعرق يتدفق من جبينه المليء بالتجاعيد بالرغم من سنين عمره التي لم تتجاوز الخمسين , ومن حين لآخر ينظر إلى ساعته . كأن ميعاده مع العزرائيل قد حان . وبحركاته المريبة تلك جعل السائق بسؤاله :
- ما بك يا أخ , هل تشكو من شيْ ؟ أرح من جلوسك فالمكان واسع ...
- لا...لا..المكان واسع ولكن صدري ...؟
- - ما به صدرك....!
- كاد يذبحني...
رفع السائق رجله عن مرجل البنزين ووضعها على الكابح , فاندفع الاثنان إلى الإمام بحركة لاإرادية , التفت إليه السائق وقال باستغراب:
- أتعني ... لاسمح الله أتتك نوبة جلطة !.
- لا .. لا.. رجاءا لا تتوقف , أسرع , أسرع وبكلمات تمتم لم يتلقفها أذن السائق : باريت تكون جلطة لأخلص من هذا العذاب والخوف .
- من ينظر إليك سيظن بأنك مطارد من أحد ؟.
- لا ... لا...فقط أشعر بضيق شديد . قد يكون الدخان هو السبب .
- هل متأكد أنك بخير , إذا لم يكن معك نقود بإمكاني إيصالك إلى الدكتور الذي تريده ؟.
- لا ... شكراً , فقط أريد أن تزيد من سرعة السيارة - قال ذلك وهو بتصبب عرقاً - والتزم الصمت .

بعد حين صمتت هدير السيارة و توقفت إمام هنكار تحيطها خضرة مكسوة بلآلئ بيضاء , تسو رها أشجار دوار الشمس الزاهية , حيث يبدو للمرء وكأنه أمام لوحة جميلة تذكرنا بلوحة الفنان فان كوخ .
لاحظ السائق علامات الخوف والوجل مازالت مسيطر ة على حالته بالرغم من وصوله بالسلامة إلى كوخه وعيونه الذاهلة من حين إلى آخر ينظر إلى تلك الشرايين الترابية المؤدية إلى بيته , قدم ثانية خدماته ومساعدته , إلا انه لم يرد ببنت شفة حيث أخرج من جيوبه النقود ووضعها بيد السائق واتجه إلى الباب بدون أن يشكره أو يستقبله بكأس شاي , مثلما يفعل القرويين الكرام .
تلمس السائق مقبض علبة السرعة وشفط السيارة بحركة جنونية غاضبا من تصرفه الغير لائق .

خرج أولاده فرحين بعودته من المدينة وهم يتلقفون تلك الأكياس المرمية على الأرض ولكنهم لاحظوا عليه تلك العلامات المحبطة والميؤسة و التي ذكرتهم بأيامهم المريرة عندما كانوا في قريتهم .
أسرع أحدهم إلى والدته لأخبارها بحالة والدهم , رمت ما بيدها وخرجت مسرعة الخطى وهي تردد ( عندما ذهب إلى المدينة لم يشكو من شيء , أترى قد تشاجر مع صاحب الأرض , أعرف المزارعين الملاكين لايشبعون , أنهم كالجراد , يأكلون الأخضر واليابس , يستلفون النقود من كل الناس وعند الحساب يقولون إنتاجنا كان خاسرا أو أن المصرف حجز على الأموال ) . دنت منه متسائلة :
- ما بك يا رجل ...؟ ماذا حصل لك ...؟
- وبصوت خافت رد :لا شيء ...لاشيء .
- كيف لا شيء ووجهك أصفر كالليمون .
- كل ما هنالك تعبت من السفر .
- أي سفر يا رجل ؟! وهل تحسب مدة ربع ساعة سفر , لولا الخجل من الناس بإمكانك الذهاب سيرا على الأقدام , المدينة قريبة , إنها رمية حجر , ثم أنك تعمل في الأرض ليلا نهارا ولم يصيبك مما أصابك ألآن , أنت منهار تماما , انظر إلى نفسك في المرآة , أكيد تشاجرت مع المالك , أليس كذلك ؟
- (هز رأسه ) ... نعم ..نعم ..تشاجرت معه , ارتحت ألان ...؟ اذهبي وافرشي أن رأسي يؤلمني سآخذ قسطاً من الراحة وإذا غفوت لا أحد يستيقظني , والتفت إلى أولاده قائلاً : هل فهمتم ...؟
ما أن أغمض عينيه , حتى رآه منتصبا أمامه بلباس أسود فاحم وبلهجته المعتادة حيث فتح قاموسه المليء بالشتائم ومصطلحا ته التي يجعل من المرء أن يندم طيلة حياته بأنه جاء على وجه الخليقة . وفي قبضته الحديدية كبلا رباعيا لايعرف مذاقه إلا من كتب عليه الشقاء .
- لماذا هربت مني ولا..؟ هل تعتقد بأنك ستنفذ بجلدك إذا هاجرت إلى محافظة ثانية ولا , لا.. يا (.......) أمثالك لو تخبوا تحت سابع أرض , لو بدنا ... نجرك مثل (الك........)
- بس يا سيدي ...
- قاطعه - لا تبسبس ولا , شو نسيت أصول ألحكي , بهالسرعة .
- ياسيدي صار لي أربع سنوات بعيد عن أهلي , نسيت كل شيء . وأنت لاحقتني إلى هنا ؟ تركت أرضي وقريتي وصرت فلاح عند العالم ولسه عم تحاسبونني على شيء ما بفهم منه , أنا غير الأرض والزراعة ما بعرف شي , صدقني يا سيدي أنا بخاف من ظلي . هات يدك أبوسها. يا ناس اتركوني بحالي والله العظيم نسيت .
- بس نحنا مابننسى شيء , كلو في اللوح المحفوظ , الارشبف جاهز وما نكذب .
- قال في سره : صحيح ما تكذبوا بس التلفيق على أبو جنب .
- شو قلت ولا .
- لا ياسيدي ما قلت شي .
- شو ولا , عم تكذب كمان , شو قلت في سرك , نحن عم نلفق على أبو جنب ولا , ورفع سوطه . دوى صريخه عاليا وهو يتوسل طالباً الرحمة والسماح و بحرقة يقول : أنا كذاب , ياسيدي كذاب ابن كذاب .
ارتعبت زوجته وأولاده من ذاك الصريخ وتوجهوا إليه وانتشلوه من الفراش مذعورين من حالة معينهم وهو مبلول بالعرق.
 

G.M.K Team

G.M.K Team
قصة قصيرة / الرائحة ....

بالرغم من التخدير الكلي لجسدي إلا أنني كنت أسمع أصواتهم المبهمة الآتية من بعيد أو من العالم الآخر وهم يتحدثون ويتناقشون حول هذه الحالة الفريدة من نوعها ، بدا عليهم علامات العجز والتعب ، هؤلاء أشباه الرؤوس الخضراء الملثمة والمكممة والذين شكلوا لجاناً ومتخصصين لدراسة المشكلة ، تجمعوا فوق رأسي المليء بالمتناقضات والمرفق بطنين مزعج ، حيث تتخللهم أشعة ساطعة كأنها الشمس ، تبهر عيناي ، لم اعد أميز شيئا ؟. ولا أعرف أين أنا ؟؟؟؟؟ ولماذا جاؤوا ليقبضوا على روحي ؟.. أتابعهم بالنظر واستنشق تلك الرائحة المقيتة ، التي تثير أعصابي وتخرجني عن طوعي دون أرادة مني .

سمعت أحدهم يقول : لدى إجراء العملية الجراحية للقلب ، تبين لنا آثار صورة فتاة ضمن أطار ألماسي محطم ومتناثر حيث تأثر شغاف قلبه بجروح بالغة لم يلتأم بعد .

•- رد آخر: أي قلب يا دكتور ؟ . قل بيضة مفرغة من محتواها، لم نرى سوى أطلال قلب والتي تربعت على عرشه دودة متوحشة فسدت كل شيء من خلال تحركها .

•- يا الهي ؟...إذن هؤلاء الذين حولي دكاتره وممرضين ...؟ . ثم سألت ذاتي : دودة متوحشة ، وبقايا قلب فارغ ، كبيضة فرغت من محتواها ، قشور فقط .

في تلك اللحظة زارتني سحابة سوداء ، وقفت حاجزا بيني وبينهم لترجع بذاكرتي إلى تلك الليلة المأساوية.

حاولت جاهدا أن أتخلص من أرقي وارقد للنوم ولو لبضع دقائق لأن تباشير الصبح قد لاح ، لكن المسائل المتعلقة والمتراكمة في ذهني كانت تدفع ببعضها تحاصرني من كل جانب لتفرش أمورها المستعصية حولي . آملاً في حلها أو تصفيتها. كنت أتقلب يمنة ويسرة والسهد هجرني والكآبة هاجمتني , أحسست بضيق في نفسي ، كأن جو الغرفة قد شابه التغيير وقد رافقتها رائحة غريبة للغاية . ألقيت بنظرة إلى أولادي النائمين كأشلاء متناثرة ، قد يكون الرائحة خارجة من أحدهم ولكن هذه الرائحة غريبة لا تقارن بروائحهم ، كانت الرائحة تقترب مني بازدياد ، فأضررت إلى فتح النافذة والباب على مصراعيه ، وتوجهت إلى المطبخ لأروي ظمأي وأخمد حرارة جسمي ، فمددت يدي إلى كأس الماء لأدلقها مرة واحدة . أحسست بنفس الجو ونفس الرائحة ، يا الهي ...! من أين تأتي هذه الرائحة القذرة وكأنها رائحة جيفة ميتة ؟

اقتربت من اسطوانة الغاز لعلها هي التي تسرب الرائحة ، لكنها كانت مغلقة بإحكام . أحس إن هذه الرائحة تملأ البيت ، تلاحقني بل تكاد تخنقني . فلم يبق أمامي سوى غرفة الضيوف والتي تحتوي على مكتبتي و جهاز التلفاز . أشغلت الجهاز ودنوت إلى المكتبة لأتصفح بعض الكتب أو المجلات . انتابني شعور وكأن الكتب تهرب مني ، لم استنشق رائحة الكتب القديمة ولم اشعر بحنوها لي . يبدوا أن الكتب فقدوني منذ فترة غير قصيرة ولعلهم نسوا أناملي ، على أية حال لا ألومهم فالمصائب والمشاكل أتتني على دفعة واحدة ، كادت تقضي علي بل كانت على قدر كاف لنسيان الكثير . جلست و تصفحت لبعض الوقت إلا أن الرائحة لاحقتني الىهناك أيضا ،كانت الغرفة حارة والجو الملبد بتلك الرائحة خانقاً . انتصبت وخطيت خطوتين باتجاه المكيف لأشغله عله يطرد الرائحة ، الاان محاولاتي أحبطت ولم أنوب منها سوى البرودة والارتعاش

راودتني فكرة الاستحمام وتلاوة بضع صفحات من القرآن الكريم ، وهذا ما حصل بالفعل لغاية آذان الصبح . عمت أرجاء الغرفة بتلك الرائحة واشتد غيظي وقهري ، لكن النعاس غلبني , فاستغفرت ربي وتوجهت إلى فراشي لأغط في نوم عميق .

رأيت زوجتي تتحدث مع جارتها حول الرائحة وتصر على أن هذه الرائحة هي رائحة الطبخ بالسمن البلدي ، ثم لفت انتباهي إلى قنوات التلفزيون حيث معظم البرامج السياسية وحتى الغنائية منها تقدم أغان وأشعار عن الرائحة أما في إحدى القنوات كانت ندوة بهذا الخصوص حيث اجتمع لفيف من المحللين السياسيين حول طاولة مستديرة قال احدهم: إن هذه الرائحة من فعل أمريكا ، نعم أمريكا هي السبب الأول والأخير في مشاكلنا وتقف حجرة عثرة في طريق تقدمنا، لاشك إن هذه أيضا بدعة منها كسابقاتها كالجمرة الخبيثة مثلاً ، لترهب المجتمعات . تدخل آخر والحماس باد على وجهه قال : لنسم الأشياء بمسمياتها يا أخوان ما هذه الترهات ولماذا نحمل غيرنا ونجعل من أمريكا شماعة نعلق أخطاءنا عليها ، بالعكس أن رياح التغيير آتية لامحال ، إلا أنني أرى أن هذه الرائحة هي من عمل الحكام ليشغلون الناس بأشياء تافهة كي ننسى مشاكلنا وهمومنا ، من المفترض أن لا تنجر النخبة وراء ذلك ولا ترعبنا هذه الأفعال، تدخل الثالث ذو اللحية البيضاء وقال : مع الأسف يا أخوان انتم تناقشون موضوعا ليس لنا حول ولا قوة إنها أرادة الخالق إذ قال : كن فيكن ، وهذه الرائحة هي من علامات دنو الآخرة ، أن الساعة أتية لاريب فيها( صدق الله العظيم ).

استيقظت باكرا لأتأكد هل تخلصت من تلك الرائحة ، يبدوا أن لا جدوى من الخلاص، الرائحة كما هي وأحيانا اشعر بزيادتها، انزويت في الغرفة وأنا اختلس النظر إلى الأولاد لأتأكد هل يشعرون مثلي بشيء ، إلا أنهم كانوا طبيعيين وكأنهم بلا أنوف ، أتصورهم بلا أنوف ، لا اعلم هل هذا مشهد كوميدي أم مشهد تراجيدي ، انوي الضحك من داخلي لتلك الوجوه المسطحة ، فأتذكر بحركاتهم وهم على هذه الصورة الفنان الأسباني ( سلفادور دالي ) ولوحاته السريالية . ثم يحجمني العادات والتقاليد كحصان جامح . إذ كيف لبني آدم الخروج من دون انف ؟. وهذا الأنف فيه كل القيم والشرف ؟.

•- لا أدري لماذا كررت هذه الجملة : ( القيم والشرف ) ، العملة النادرة في زمن المال والطمع . كان عليَ أن أبدو طبيعيا مثلما بدا الأولاد بعد أن تأكدت بأنهم لم يشعروا أو يلاحظوا شيء .



هذه الرائحة سببت لي قلقا وإزعاجا لا يحتمل في حياتي ، أحس بان فئة من الناس يسخرون مني بل ويتهربون من لقاءي وأن بعضهم ينحرفون عن مسارهم لدى رؤيتي في طريقهم والمارين بجانبي واضعين أياديهم على أنوفهم , والكل يشترك في مقولة يتهامسون بمرورهم جانبي ، سيمفونية اعتادت عليها أذني : المفلس رائحته مقرفة وان اغتسل بمياه الغانج أحس بأن هذه الهيئة الإنسانية النظيفة التي تنتهج الخلق والطهارة ، أصبحت مليئة بالقذارة . لكنني لست مفلسا والحمد لله ، توجهت إلى بائع العطور وحاولت التقرب منه ومحادثته وأنا انظر إلى وجهه لأبحث عن شيء في عينيه ، في وجهه ، في حديثه ، كان عاديا جدا . لم يمط بشفته ؟. اشتريت علبة عطر من إحدى الماركات المعروفة ، فتحتها وتعطرت برائحتها ، وأخذت طريقي إلى محل عملي . وأنا في منتصف الطريق تبادر إلى ذهني مشاورة طبيب وعرض حالتي عليه .



•- تبين علامات الدهشة على وجهه، لدى وضع السماعة على صدري ، كرر العملية لعدة مرات ، ثم همس في أذن الممرض الذي بدا عليه بدوره حالة الطبيب ، ونطقوا معا عبارة : غير معقول 0000مستحيل !!!

•- خارت قواي لدى سماعي قوليهما، تلعثمت وقلت بصوت متحشرج : هل أنا بخير يا دكتور ؟.

•- بخير، أطمئن ، طالما أنت لحد الآن على قيد الحياة ، لكن عليك إجراء بعض الفحوصات ، لذا سأرسلك إلى المستشفى ؟. قد تحتاج إلى عملية في القلب .

•- تقصد القثطلة ؟ .

•- ........

•- عملية في القلب ؟.

•- لاعليك ، فقط أنصحك الذهاب بأقصى سرعة .

•- لا شعوريا نطقت ( والرائحة )؟...



28\8\2004
 
ها هو القلم الرائع الذي يبهر العقل
هذا القلم الذي رسم لنا لوحات فنية
صادقة بكل معانيها
قصص وحكايات نادرة وذو نمض جديد
في عالم الكتاب والروائيين
كم استمتعت بقرائتها وكم عشت في جو هذه القصص
التي توهمت اني اشاهد افلاما سينمائية جميلة

الكاتب ماهين شيخاني
نجم من نجوم الكورد الذين يبدعون في حمل القلم
نتشرف جدا بوجود هذا الكم الهائل مما رواه قلمك هنا
في متناول ايدينا
وكم يشرفنا لو تتواجد انت ايضا بيننا ككاتب مميز كي تزيدنا
ثقة بأنفسنا
مع كل التحيات والاحترام والتقدير لهذا الصرح المميز الذي انرتنا به

وكل الشكر لك مديرنا العزيز واخونا الاكبر هنا
لانك زودتنا بما رواه هذا القلم من ابداع

تحياتي لكم
اختكم جانة
 

almkurdistan

مراقبة عامة
اخي العزيز عبدو تسلم وزوووووووووور سوباس على الكتابات الرائعة والراقية جداً جداً ..
مجهود فعلاً رائع..
دمت لنا مدير حصري دووووووم يا رب..
والله يسعدك ويخليك لمنتداك..
الم..
 
أعلى