الكاتب الكردي قدري جان - قصص ومقالات

G.M.K Team

G.M.K Team
مجلة هاوار العدد /35 / السنة 1941 الصفحة 8، 9، 10.
الذنب
قرأت مرة في كتاب ما: (مهما كانت حادثة الرجل قديمة، تركت أثراً عميقاً في ذهنه..) رأيت أشياء كثيرة في طفولتي، واليوم أذكرها جيداً... لكن هناك أشياء حديثة رأيتها أو سمعت عنها أو جرت معي لا أتذكرها اليوم بسهولة.
ربما عندما كنا أطفالاً كان ذهننا صفحة بيضاء خالية من أي هموم، لذلك تتخذ الحوادث والذكريات مكانة لها بسهولة في ذاكرتنا، وكلما مضت فترة تركت الحوادث أثراً عميقاً في الذاكرة... هذه احدى الحوادث التي مرت معي عندما كنت طفلاً صغيراً .
انقضى الربيع، وبدأ فصل الصيف، كان كل شخص يهرب من حرارة الشمس، ويلجأ إلى ظل شجرة أو ظل جدار.
بعد مضيّ أشهر الدراسة الثمانية أغلقت المدارس أبوابها، كنت فرحاً جداً، ثمانية أشهر دراسة بين الضجيج والضوضاء، بين الجدران الضيقة والغرف المظلمة، لم يُصب جسدي بالروماتيزم فحسب بل كانت روحي أيضاً، تعفنت وتصدع قلبي.
عندما بشرنا أستاذنا ببداية عطلة الصيف، لم أفرح وحدي بل جميع طلاب المدرسة كانوا فرحين، ويرمون قبعاتهم باتجاه السماء دلالة على الفرح وقالوا: (يعيش الاستاذ، يعيش الاستاذ)!
لقد بكى ثلاثة أو أربعة طلاب فقط كانوا قد رسبوا في صفهم، وكانوا خجلين من الاستاذ وزملائهم، وقد كانوا يخافون من أهلهم أيضاً ، تنهمر الدموع من أعينهم. تأثرت لبكاء هؤلاء الطلاب ولأوضاعهم.
* * *​
مضى وقتٌ على اغلاق المدرسة، لم أتذكر جيداً، ربما شهر أو شهران ونصف كنا أنا وبعض اصدقائي نقفز من صخرة إلى أخرى، نبحث عن أعشاش الطيور نجتاز الوديان والسهول ونلاحق صغارها التي لم تستطع الطيران بعد، ساعات طويلة، كنا نمسك فراخها الصغيرة التي لا تستطيع أن تعبر عن غضبها بغير الزقزقة، وتموت بين أيدينا، كنا نلعب بها.
كنا نتجول أحياناً حاسري الرؤوس، وأخرى حفاة ورغم ذلك نفرح كثيراً، كانت ثيابنا وأحذيتنا وقبعاتنا تعيق حركتنا فنتخلى عنها بأي شكل ونتحرر منها .
كانت الأشواك تغرز في اقدامنا وسيقاننا، والاكمة تجرحنا ولم نكن نبالي بشيء أو نهتم به، يسكرنا اللعب والتحرر والحرية. . نسمع الشتائم من أهلنا أحياناً كثيرة كذلك ولا نهتم.
بعد ثمانية أشهر من الدراسة وحياة السجن الالزامي بين جدران المدرسة، نستحق، هذه العطلة الصيفية بل من حقنا أن نقضيها ولايحق لأحد أن يمنعنا منها.
ذات يوم توحدت كلمتنا نحن الأربعة أصدقاء واتفقنا: سنذهب إلى المغارة، إلى صيد فراخ الحجل... تبتعد المغارة عن قريتنا ثلاث أو أربع ساعات، كان الحجل وفراخه تلجأ إلى ظل تلك المغارة من شدة حرارة الصيف، ويوجد في المغارة نبع ماء، فالمغارة ملجأ الجان والأشباح. سمعت ذات مرة من جدتي أن المغارة عاصمة ملك الجان والاشباح، لا أحد يتجرأ أن يدخل إلى المغارة، حتى الكبار لم يتجرأوا على الدخول إليها. لكن الطفولة ورغبة الصيد أنستنا الجان وكل شيء... كنا نريد أن نظهر رجولتنا للمرة الأولى ونقتحم المغارة دون خوف، ونصطاد فراخ الحجل في مغارة الجان والاشباح.
توقف رشو و رمو أمام باب المغارة، دخلت أنا وجمو إليها، أمسكنا بصعوبة بالغة أربعة من فراخ الحجل، كانت صغيرة لا تستطيع الطيران. كنا فرحين جداً وكأننا استولينا على كنوز الدنيا بل أكثر من ذلك، وفي الحقيقة تعبنا قليلاً، كانت أمام باب المغارة شجرة توت كبيرة، جلسنا تحتها، كي نرتاح قليلاً ونفرح بصيدنا... كان جمو يريد أن يشرب الماء فقد نال منه العطش، وهمّ أن يدخل المغارة كي يشرب الماء، لكنه لم يتجرأ أن يدخل وحده، عرفت أن كبرياءه يمنعه أن يقول لي: ادخل معي إلى المغارة، لا أتجرأ على الدخول وحدي. وعرفت أنه سيدخل بمفرده، خطرت لي فكرة طفولية خبيثة، أردت أن أجرب شجاعته. تواريت عنهم ودخلت المغارة، لم يشك أحد من زملائي ولم ير أحد أنني دخلت المغارة. اختبأت في زاوية ما، رأيت أن جمو يدخل المغارة بهدوء والخوف يسيطر عليه، كانت المغارة مظلمة وجمو لم يشرب الماء بعد: عندما اقترب مني، فجأة صرخت بصوت عال وقلت:بخ..بخ. هيهات... فكر جمو أن الجن يلاحقونه، التفت جمو خائفاً ثم سقط على الأرض، ولم يعد يتكلم، صرخت عليه عدة مرات لكنه لم يجب ولم يرد علي، فتح عينيه عدة مرات فقط ونظر إليّ بخوف. همد بريق عينيه الخضراوين في ظلمة المغارة، عندها فهمت أنني أجرمت بحقه، ذهبت إلى الأصدقاء وقلت لهم: تعالوا ماذا جرى لجمو؟.
ذهبنا ثلاثتنا إليه، حاولنا كثيراً أن نحركه من مكانه لكننا لم نستطع، كنا جميعاً أطفالاً، ولاتتجاوز أعمارنا ثماني سنوات، سمعنا صوت ناي حزين من بعيد، لابد أن هناك راعٍ يعزف عليها، بقي رشو ورمو مع جمو، توجهت إلى صوت الناي، وصلت إلى الراعي بعد فترة وقلت له ماجرى لنا. كان الراعي قريب جمو من بعيد، سلم قطيعه لصديق له، وجاء معي إلى المغارة، حمل جمو على ظهره وعدنا جميعاً إلى القرية. مازال جمو لا يستطيع التكلم، وخبأت فعلتي بل جريمتي حياءً، حتى أنني لم أخبر أصدقائي الحقيقة.
كيف نعود إلى القرية؟ ماذا يقول أهل جمو لنا؟ ماذا نقول لأهلنا؟ كنا نذهب مضطربين ونفكر. انتشرت قصتنا بسرعة في القرية. سجنني والدي في البيت، سمعت أن أصدقائي الآخرين مثلي قد سجنوا في البيوت. مازال جمو لا يتكلم. كل واحد كان يقول: جنيّه شيطاني وليس رحمانياً، وكان الجميع يخافون من نهاية جمو إلا الشيخ صدقة.
كان الشيخ صدقة يعرف الجن والأشباح، ذلك العجوز الذي فعل فيه الزمن حتى انحنى ظهره، كان مشهوراً يقولون إن أصله من المكة أو من المدينة. سمعت أن الشيخ قال لوالد جمو: إن أعطيتني عشرة قطع ذهبية (خمسة قطع الآن، وبعدها خمسة) فسأشفي ابنك... وافقه والد جمو وقال له: إن اشفيت ابني فسأقدم لك كل ما أملكه...).
اعتقد كل واحد أن الشيخ سيشفي جمو من مرضه، كنت الوحيد لم أصدقه، كنت أعرف مرض جمو أكثر من الشيخ.
عندما أخذوا جمو إلى الشيخ، طلبني الشيخ معه وسألني عدة أسئلة: عندما دخل جمو إلى المغارة كم كان يبعد مكان سقوطه عن الزاوية اليسرى، وكم كان يبعد من الزاوية اليمنى؟ كان ينظر إلى كتابه ويكتب بقلمه يضع رسومات ويضع نقاط عليه ويهز رأسه ثم يقول :فهمت. . . من أين ضربه الجان . . . هذا جن شيطاني، يقولون له: (بولوتوخ).
ثم كتب على أظافر أيدي وأقدام جمو بقلمه بعض الأشياء وقال: (سجنت الجن في جسمه، لن أتركه حتى أقتله أحضروا لي حزمة من العصي الرطبة).
أحضر غلامه (دلو) حزمة من عصي الرمان الرطبة، حمل أقدام جمو ورفعه عالياً، وكان الشيخ يضرب أقدام جمو البائس وتنكسر العصي، ارتفع صراخ جمو الذي لم يستطع التكلم حتى ذلك الوقت عالياً، كان الشيخ يقول: (هذا ليس صوت جمو، لم يتكلم بعد)وبدأ الشيخ يضرب ويقول:(يا عفريت... يا شيطان... أين ستهرب مني) وبلغة الجان يسأل بعض الأسئلة. تيماتم... تناتن... شن... شن. سال الدم من أقدام جمو البائس، عندما كان يضرب جمو، يصعقني كالبرق، لم أتجرأ أن أقول الحقيقة. لم يمض النهار، مات جمو البائس من شدة الضرب.
* * *​
مضت على هذه الحادثة عشرون سنة أو أكثر. ولم أزل أذكرها، أصبحت لي مصيبة، تضخمت في داخلي كعقدة وأحدثت جرحاً في قلبي... جرحاً عميقاً. يزداد كل سنة ألمها، تهتز روحي من أجلها... أرى جمو أكثر الاحيان في حلمي، يقف أمامي ذليلاً منكسر الخاطر ويقول لي مشتكياً: خيانة... خيانة .
 

G.M.K Team

G.M.K Team
___________________________________________
*مجلة هاوار العدد /39/ السنة 1942 الصفحة 6، 7، 8.
الأيام الماضية
ابتعدت عن عامودا بعد ثلاث سنوات من حياة المرارة والفرح. تحلق بعض اصدقائي الأوفياء وتلاميذي الأمناء حول سيارتنا. لم أرَ بعض الزملاء ، يعلم الله! لم يكونوا خائنين، ربما لم يأتوا حتى لايروا مشهد الفراق والوداع المؤثر، ربما لا يستطيعون أن يتحملوا هذا .
ضممت الاصدقاء والدموع تنهمر من عيوننا، شددنا أيدينا بحرارة وقلوبنا تقول: (سنبقى دائماً أصدقاء وأخوة).
عندما تحركت السيارة، سالت دموعي بدون شعور مني، من جهة لفراق أصدقائي ومن جهة أخرى بسبب ألم الجرح الذي كان في مؤخرتي إنه يؤلمني كثيراً، كانت روحي تهتز، لم أعرف أن ألم هذا الجرح يطول كثيراً. ترى ماذا كتب القدر لي ؟.
مضت الأيام بحلوها ومرها في مدينة عامودا. أرى نفسي في النهاية قبيح المنظر. عندما كنت أذهب إلى المدرسة وأعود إلى البيت كان يوجد على الطريق كلبة وجروان ، كانت الكلبة تعوي وتهجم علي، وكان أحد الجروين ذئبياً وأعور، ومحروق الوجه والجرو الآخر مدور الوجه . يبدو أنه مصاب بمرض الزهري. كان ينبح فيخرج صوته مثل السلحفاة التي غصت باللبلاب.
كان هذان الجروان يريدان أن يقطعا طريقي دائماً. لم أكن أهتم بهما. لم أتذكر يوماً أن أرمي بعض الطعام لأتقي شرهما.
في يوم من الأيام هجم فجأة علي جرو، ربما كان أعمى وعضني من مؤخرتي. طلب مني الأطباء أن أغيّر الجو. وأشاروا علي بمنطقة (عين ديوار) خرجت سيارتنا بهدوء وعلى مهل من عامودا، ثم أسرعت. رفع الأصدقاء أياديهم حتى غابوا عن نظري. كانت السيارة تسرع كلما تقدمت. كان من الجهة اليسرى للطريق جبال كردستان ومن الجهة اليمنى سهول الجزيرة، وسيلان سبخة عربستان، وكان المطر ينهمر رذاذاً. كان السائق يقول: (أدعو الله ألا يسقط المطر بغزارة حتى نصل إلى القامشلي. حفظنا الله من الوحل والفيضانات، مازال المطر خفيفاً. عندما وصلنا إلى القامشلي كان الماء يبلل وجوهنا. ذهبت للطبيب لينظف جرحي ويضمده من جديد فأعطاني بعض الأدوية. وصلنا إلى ديريك في اليوم التالي، نزلنا عند صديق لي. كانت أحلام تلك الليلة مرعبة ومخيفة حتى أنني استيقظت مراراً فزعاً، وجرحي مازال يؤلمني.
في الصباح فتشنا عن سيارة لكننا لم نجدها. فركبنا الأحصنة ولجأنا إلى منطقة (عين ديوار). وصلنا بعد ساعتين، استقبلني هناك ثلة من الشباب منهم فتاح ملا صادق ومحمد ملا أحمد، صافحوني بفرح وحماس وشدوا على يدي بحرارة.
وصلت إلى عين ديوار في الأول من آذار كان كل واحد يقول لي: حظك جيد أن تأتي في بداية الربيع، ربيع عين ديوار مثل ربيع زوزان (مصايف) كردستان. وكلما صادفت شخصاً يكرر علي بهذا الحظ وهذه النعمة، لكن للأسف لم يكن هكذا، لم يكن حظي جيداً! فقد انهمر المطر شهراً وثلاثة أيام ليلاً ونهاراً. ما إن وصلت الى المدرسة حتى واجهتني ألف مشكلة. طلاب المدرسة مثل طلاب عامودا، غالبيتهم كانوا من الأكراد. لذا تعرفنا على بعضنا، وأحببنا بعضنا بسرعة.
خلال شهر لم أستطيع رؤية شيء حولي، المطر دائم في الليل والنهار. أصبنا بمرض الروماتيزم وتصدأ داخلنا، وكان مرضي ينازع، لم أصدق أن جرحي سيشفى.
بعد شهر أشرقت الشمس من جديد، واخضرّت الأعشاب، وتفتحت الورود والأزهار الملونة. هذا هو ربيع عين ديوار، ربيع وطني. في الجهة المقابلة تشمخ جبال جودي، موطن النبي نوح وجنوبها يجري نهردجلة ، أمام النهر تظهر جزيرة بوطان موطن مم و زين .
هذه الأوابد التاريخية الثلاث تحفر في نفسي آثاراً عميقة. وتربط روحي بتراب تلك المنطقة. كان الأصدقاء والزملاء يقولون لي أيام المطر: لا تتضايق سيتوقف هطول الأمطار اليوم أو غداً، بعد ذلك سيأتي الربيع، سنذهب إلى جسر بافت Bafet للتنزه سترى أنه مكان جميل .
خرجنا في نزهات جميلة. وذهبنا يوماً إلى جسر بافت فأخذنا الطعام وقضينا وقتاً رائعاً. يقولون أن هذا الجسر بني في زمن الأميرمحمد بك دست . إنه مكان رائع يجري دجلة تحت أقدامنا ويلوح برجا بلكBirca Belek أمامنا. وتذوب الثلوج شيئاً فشيئاً عن جبال جودي. بقينا حتى المساء. كان الصديق الجميل والبشوش دائماً محمد ملا يقرأ اجزاء من ديوان الجزري الحزين. يفعل كما الشحرور يشدو بحرية وانطلاق.
عندما تم اغلاق المدارس للعطلة الصيفية فرحنا للراحة التي ننشدها بعد عناء ثمانية أشهر وحزنت لأنني سأعود إلى دمشق . كان يحز في نفسي أن أترك أصدقاء عين ديوار وعين ديوار نفسها. فقد قال شاعر: (عندما يبقى المرء في مكان ما، فإنه يرتبط بالانسان وبتراب المنطقة بخيوط خفية وعندما يريد أن يغادرها تشد هذه الخيوط قلب المرء وتؤلمه). هذا حقيقة لا انكرها.
عندما خرجت من عين ديوار مثل يوم خروجي من عامودا . فقد شعرت بغصة في حلقي وامتلأت عيناي بالدموع.
تمر الأيام والشهور بسرعة هائلة . فقد مضى على بعدي عن تلك الأماكن وأولئك الأصدقاء سنتان. لم أعد أخرج بل انظر حولي فأرى بدلاً عن جبال جودي سراباً خادعاً.
لم أجد صديقاً يملأ الفراغ الذي تركه محمد ملا ـ جعل الله روحه في جناته ـ والذي تركه تلميذي برو ورمو. ومن ذكريات تلك الأماكن بقي شيء واحداً معي آثار أسنان ذلك الجرو في مؤخرتي ، الجرو الذي لا صاحب له، الجرو الفلتان .
الجديدة 10 ـ 11 ـ 1942 .
 

G.M.K Team

G.M.K Team
___________________________________________
*مجلة هاوار العدد /52/ السنة 1943 الصفحة 9، 10.
كلاب المصايف
إن قصة كلاب المصايف ليست قصة وهمية، ولا هي خيالية ورغم ذلك لم أرها بعيني، بل سمعتها من شخصين، فالاول يدعى صلاح بك رمضان من بلدة الزبداني، والآخر يدعى داوود أفندي من أشرفية القنيطرة.
جرت العادة منذ القديم، أن تأتي الأغنام من كردستان إلى سوريا وفلسطين وقد تصل إلى مصر أحياناً، إن اغنام كردستان تلقى رواجاً في أسواق تلك الدول، كانوا يطلقون عليها، الاغنام البنية.
جاء تاجر ذات مرة مع اغنامه من أرضروم إلى سوريا، وبقي فترة في الزبداني، وقد كان الشتاء قاسياً في تلك السنة، حيث تساقطت الثلوج بكثرة، ولم يستطع التاجر أن يخرج بأغنامه من الزبداني، لذلك اضطر أن يبيع أغنامه في البلدة إلى مضيفه، وكان مع التاجر كلب المصايف يحرس الاغنام من اللصوص والذئاب، تثاقل المضيف على ضيفه وطلب منه الكلب أيضاً، خجل الضيف أن يرد مضيفه خائباً، فقدم كلبه الرصاصي اللون الكبير الذي يرد الذئاب عن القطيع، وعاد إلى وطنه ارضروم.
كانت الغابات والادغال التي تحيط بالزبداني في ذلك الوقت، مأوى الذئاب والوحوش ولبعض الحيوانات البرية الأخرى. وكانت الذئاب بدورها لا تدع أغنام البلدة ترعى بأمان. . . وبعد أن ظهر كلب المصايف هناك، لم تتجرأ الذئاب والحيوانات المتوحشة الاقتراب من القطيع كبر الكلب وشاخ بعد عدة سنوات ولم يستطع أن يرد الذئاب عن القطيع . اجتمعت الذئاب ذات مرة على كلب المصايف بين الغابات والادغال، وكاد أن يودي بحياة الكلب، وعندما عاد الكلب إلى البيت رأه صاحبه الجديد أن الكلب ملطخاً بالدم، مثخن الجراح، ومازال الدم ينزف من جروحه، غضب صاحبه كثيراً ثم ضمد جراحه.
ضاع الكلب في اليوم التالي، فتش صاحبه عنه كثيراً لكنه لم يجده، قال لنفسه: ربما مات في مكان ما بجروحه المتقيحة.
فجأة وجد صاحبه أن الكلب ظهر ثانية بعد شهرين، لكن لم يكن وحيداً هذه المرة، فقد جر معه كلبين آخرين أكثر قوة منه، كانا يشبهان الكلب العجوز تماماً حتى أن لونهما يشبه لون الكلب العجوز، فرح صاحبه كثيراً، ولو كان لديه اجنحة لطار من الفرحة. نحر الرجل خروفاً لضيوفه الكلاب ، ووضعه أمامهم.
استراحت الكلاب الثلاث في تلك الليلة، وفي الصباح الباكر تقدم الكلب العجوز ووراءه الكلبان الضيفان القويان إلى مأوى الذئاب، حيث الادغال والغابات ـ يعلم الله أن لهذه العملية حكمة.
اتجهت الكلاب الثلاث إلى الوديان... إلى مأوى الذئاب... تقدم الكلب العجوز إلى الوادي وحيداً، وتأخر الاثنان ينتظران. هجمت الذئاب على الكلب العجوز... فجأة انطلق الكلبان القويان كالبرق إلى الذئاب ـ يبلغ عدد الذئاب /50/ ذئباً ـ وبدأت المعركة، معركة حامية، وأخيراً تغلبت الكلاب على الذئاب وخاصة القويان... كانا يرميان الذئب تلو الآخر طريحاً... وثأرا للكلب العجوز. ثم عادت الكلاب إلى البيت، وكان الدم يسيل من أفواههم، نحر الرجل خروفاً آخر بفرح وفخر.
بعد عدة سنوات من تلك الحادثة، جاء الارضرومي إلى الزبداني ثانية، وروى له الزبداني قصة كلبه بفخر واعتزاز.
قال الارضرومي: نعم، كل مارويته كان صحيحاً، لأن الكلب عجوز، لايستطيع أن يتغلب على كل الذئاب.
وفي يوم ما ظهر جروان للكلب، ثم اختفى الكلبان القويان، وقد كان القويان أولاد كلب المصايف، وبعد ثلاثة أشهر مات كلب المصايف العجوز وبقي الجروان .
 

G.M.K Team

G.M.K Team
_______________________________________
* مجلة روناهي العدد /14/ السنة 1943 الصفحة 11 .
كُلجين
كُلجين ابنة نورس بك وهي الابنة الوحيدة والبكر أيضاً لوالديها.... لذا كبرت وترعرعت في عز ودلال، فقد كانت كُلجين جميلة جداً لها قامة هيفاء، وشعر أشقر ذهبي، وعيون خضراء، تبلغ من العمر ثماني عشر سنة، اشتهرت بجمالها بين الأهل والعشيرة، وكان الشباب يعشقونها كثيراً، لكن لم يتجرأ أحد أن يتقدم لخطبتها من والدها خوفاً على شعورها .
كان نورس بك من وجهاء مدينة نولNol ومن أغنيائها وبنفس الوقت رئيس العشيرة، كان رجلاً مجرماً وسفاحاً. كل شخص يكرهه لأن أحداً لم يسلم من شره، ويلوكون سيرته في الأماكن بالسوء،ويترصدون لايذائه والايقاع به.
يعتبر سيدو آغا عدوه الأول، وهو أيضاً من وجهاء ورؤوساء العشيرة، ومن مؤسسيها، وهو الذي كان يزعج نورس بك ولم يدعه يهنأ حتى في نومه أيضاً.
كان نورس بك يعرف تماماً أن مكانته تهتز، وإن استمرت هذه الحالة أكثر، فسيخسر العشيرة والممتلكات أيضاً. كان يتوجب عليه أن يجد حلاً لهذه المشكلة التي تزعجه، يفكر ليلاً ونهاراً عسى أن يجد حلاً، وأخيراً وصل إلى نتيجة ترضيه وتخرجه من المشكلة، قال لنفسه:​
ـ إن أصبح سيدو آغا صهري فلن أخاف منه بعد اليوم، ولن يزعجني بشيء.
قدم نورس بك ابنته المدللة كُلجين إلى سيدو آغا ، وقبل سيدو آغا هدية نورس بك برحابة صدر، وتقدم لخطبتها. لقد تصالح الآغوات والبكوات. خطب سيدو آغا كُلجين ابنة نورس بك، وألبسها خاتم الخطبة، واشترى لها ذهباً، ووزعت كؤوس الشراب. وتحدد موعد الزفاف بعد ثلاثة أشهر، وستكون كُلجين زوجة سيدو آغا.
لم يسعد نورس بك في نومه منذ مدة طويلة، أما اليوم فسيضع نورس بك رأسه على المخدة للمرة الأولى دون خوف أو قلق بعد هذه المصالحة ،.. وينام قرير العين، لقد نام فعلاً في هناء.
ماذا جرى لكُلجين المسكينة؟ اسوّدت الدنيا أمام عينيها، كانت ترى كل شيء اسودَ مظلماً، الشمس والقمر والضياء، كيف ستصبح زوجة سيدو آغا ؟ إن لم يبلغ سيدو آغا خمسين سنة من العمر، فلم يكن أقل من خمسين سنة، ومازال على وجهه آثار مرض الجدري، وله عين بيضاء. وعلاوة على هذه العلل والعجز، كان له ثلاث زوجات، وقد تزوجت ثلاث من بناته اللائي يكبرن كُلجين أيضاً.
الأمل هو الذي يجعل الانسان يستمر في الحياة ، لولا الأمل لانعدمت الحياة على الأرض، وإن انعدم الأمل، فلا يستطيع الانسان أن يعيش دائماً مع الشكوى والمرض والألم في هذا العالم ، حتى القاتل أو المحكوم عليه بالاعدام الذي يجرونه إلى حبل المشنقة يأمل في انقاذ نفسه، يستعطف الآخرين من خلال ملامح وجهه يستثير شفقة الناس كي يعفو عنه الملك أو يصدر قراراً بعدم شنقه.
مازال الأمل يسيطر على كُلجين، وأرادت أن تنقذ نفسها من هذا القدر المكتوب على جبينها وتصنع قدرها بيدها، وتنقذ نفسها من الحظ الأسود.
لم يبق لكُلجين سوى العجوز بيزى، وهي عجوز ساحرة، أعادت كثير من الفتيات إلى أهلها بقوة السحر، وردت العرسان وفسخت الخطوبات، وبفضل السحر قربت قلوب آلاف الشباب والفتيات وشاركت في طلاق الكثيرين من الازواج.
التجأت كُلجين إلى العجوز،لاذت بها، أمسكت بطرف ثوبها وقبلت يدها، وروت ما حدث لها:( أيتها العجوز، أتمنى أن تنقذيني من نار الجحيم، وما تطلبين من المال ستقدمها والدتي لك، وهي أيضاً لا تريد هذا الزواج). فكرت العجوز فترة ثم قالت لها:يجب أن آخذك إلى الشيخ يا ابنتي، إنه الشيخ شفقت |efqet ، هو الذي يستطيع أن ينقذك من هذه المصيبة.
اتفقتا على يوم محدد للذهاب إلى الشيخ.
قدمت العجوز بعض النصائح إلى كُلجين قبل أن يذهبا إلى الشيخ قالت:(إن الشيخ من عائلة النبي، يتوجب عليك أن تتوضيء قبل أن تزوريه، إنه يعرف روح الإنس والجن ، كلامه جواهر، وفي أقواله حكم قدسية، إن قال لك كن فيكون، قد يكون لكلامه هذا حكمة، يجب ألا تفكري بالسؤ وتحملي قلباً طاهراً، كي يعرف الشيخ رغبتك، ويحقق أملك).
حفظت كُلجين نصائج العجوز، وعندما دخلت إلى خلوة الشيخ، قال الشيخ:​
ـ أنت عجوز بيز:لم تأتي إلي منذ عدة أسابيع، أين كنت، وماذا جرى لك ؟ أعتقد أن أختك حلت ضيفة عليك، أليس كذلك؟.
قبل أن تجيب العجوز على أسئلة الشيخ، نظرت إلى كُلجين وهزت رأسها منتصرة، ثم ردت على الشيخ وقالت :هذا صحيح ياشيخي، جاءت أختي لزيارتي، عدة أيام ، لذا تأخرت عن زيارتك.
قال الشيخ:لايهم! أليست هذه ابنة نورس بك؟
قالت كُلجين :نعم.
هرعت كُلجين وقبلت يد الشيخ بحياء واحترام .
قال الشيخ:كرامة لله الذي في السموات والأرض يا أبنتي، عليك أن تتطهري، وتصلي، ليس لأجل مجيئك. نظرت العجوز مرة أخرى إلى كُلجين وهزت رأسها باعجاب، وكأنها تذكر كُلجين بنصائحها وواجباتها، أما كُلجين فقد كانت ترتجف معجبة بمعرفة الشيخ.
قال الشيخ:لا حاجة لك أن تكرري لي مصيبتك يا أبنتي، أنا أعرف جرحك وألمك، لم يخبرني أحد أعرفها بنفسي، لاتقلقي، لا تقلقي، أنا والدك، سأنقذك من الكلب المنخور.
لم يسمح عمر الشيخ أن يقول لأي فتاة كبيرة (أنا بمثابة والدك يا ابنتي) لأنه لم يتجاوز الثلاثين أو خمس وثلاثين عاماً، لكنه نصب نفسه لهذه الأبوة لمكانته الدينية كشيخ، لذا لم تتضايق كُلجين من كلامه، سيما وأن الفتاة قد اقتنعت به تماماً.
كان على العجوز أن تخرج، وفعلاً خرجت، وتركت الشيخ والفتاة في الخلوة وحدهما، خرجت العجوز من الخلوة كي لايدخل أحدٌ دون اذن ويفسد السحر وفي نفس الوقت كي لا يسمع أحد أن كُلجين جاءت مع العجوز إلى الشيخ. مسد الشيخ يده على رأس كُلجين عدة مرات، ثم وضع يده على جبينها، انحدرت اليد بكل هدوء إلى الأسفل واستقرت على عينيها ووجهها، أمسك بفكها السفلي وهزها، كانت كُلجين واقفة كالتمثال دون حراك، تأثر الشيخ لوضعها، قبّل جبينها كوالدها ثم عينيها واستقر فمه على فمها.
انتابت كُلجين احساس بالخجل من رحمة الشيخ، ولم تعرف كيف تشكره، ظلت صامتة، لابد أن الشيخ قد وجد وسيلة لانقاذها من نار الجحيم، وهذه من الأمور السهلة لدى الشيخ، يستطيع أن يستحضر روح سيدو آغا إليها، ويأمرها أن تبتعد عن طريق كُلجين، يستطيع أن يجعل الفتاة قبيحة في نظر سيدو آغا، لديه الخطط الكثيرة.
أخذ الشيخ قطعة من الكلس في يده، ثم رسم دائرة على الأرض، دخل مع كُلجين إلى الدائرة وقال لها: لاتخرجي من الدائرة يا... سأستحضر روح سيدو وأخدره. بقيت كُلجين داخل الدائرة، ثم وضع الشيخ بخوراً على النار، وذهب إلى خلف الستار، بقي فترة . وعندما امتلأت الخلوة بدخان البخور، وأسودت الغرفة، صبغ الشيخ جسمه ببودرة فوسفورية بسرعة، وقد كانت الخلوة مظلمة من شدة دخان البخور كاد أن يتحول إلى أزرق.
لم تخرج كُلجين من الدائرة، فجأة صرخ الشيخ بصوت جهوري عال: ياهو. . . وقفز من وراء الستار، فتحول جسمه إلى نور وضياء، ارتجفت كُلجين رهبة لصراخ الشيخ، وفزعت، لكن كي تتخلص من سيدو آغا، ومن نار الجحيم، وضعت كل شيء نصب عينيها التعب والخوف والتضحية.
أسرع الشيخ ودخل الدائرة ، كانت الدائرة صغيرة وضيقة، كي لا تخرج كُلجين منها، فالتصق الجسدان ببعضهما كقالب واحد. مد الشيخ يده إلى روح سيدو آغا وسحبها، لمعت يده النورانية كالبرق في الليلة المظلمة، وأضاءت. ثم حضن باليد الأخرى كُلجين، وضغط عليها كي لا تخرج من الدائرة، ويبطل مفعول الطلاسم، كان الشيخ يتكلم مع روح سيدو آغا ويأمرها. لم تعارض روح سيدو آغا أوامر الشيخ فاستجابة لأوامره كل شيء يسير في طريقه الصحيح. هكذا أخبر الشيخ بل بشر بها كُلجين، ثم ضغط على الفتاة من شدة الفرح في حضنه، وقبّل عينيها ووجهها واستقر الفم على فمها .
لم تتكلم كُلجين ولم تعارض. قال الشيخ:انزلي السروال الداخلي يا ابنتي. نسيت كُلجين نصائح العجوز بيز في تلك اللحظة، وكأنها استيقظت من غفلة طويلة، نظرت إلى نفسها والى الشيخ، ماذا يريد الشيخ منها؟ لقد فكرت كَلجين بكل شيء كي تتخلص من نار الجحيم ، من سيدو آغا، وتستطيع أن تضحي، لكن ليس بشرفها. فهمت كُلجين نوايا الشيخ وماسيجري لها خلال ثلاث ثوان، بصقت في وجه الشيخ من فورها، وندت منها صرخت لاشعورية، سمعت العجوز صراخ كُلجين ودخلت فوراً.
قال الشيخ: أيتها العجوز:.... ماهذه المجنونة التي أحضرتها إليّ ؟
ارتمت العجوز على أقدام الشيخ راجية متوسلة وقالت:التوبة ، لأكن جاريتك... التوبة... استغفر الله العظيم . ثم التفتت إلى كُلجين وقالت: ماذا فعلت يا أبنتي، هيا توبي بسرعة، ألم أقدم لك النصائح؟ يقول لك الشيخ انزلي السروال الذي كان على الحبل في الأعلى كي يحبس فيه روح سيدو آغا.
عندما نظرت كُلجين إلى الأعلى، رأت فعلاً أن السروال معلق على الحبل، عندها فهمت أنها كانت مخطئة، وارتمت أيضاً على أقدام الشيخ، تطلب التوبة، واستغفرت الله، لكن الشيخ الجليل لم يقبل توبتها إلى أن تدخلت العجوز، وتوسلت للشيخ مرات عديدة. على ألا يتكرر هذا الخطأ مع الشيخ ثانية، ثم عفا عنها الشيخ.
قبح الله وجه المصادفة، لقد ساعدت الصدفة مرات عديدة السحرة.
اختلف سيدو آغا مع نورس بك لسبب ما، بعد أن قدم لكُلجين الخاتم والذهب، كان سيدو آغا يأتي إلى زيارة عمه نورس بك كل يوم . وعندما رأت العشيرة أن سيدو آغا قد خدع بنورس بك، وأصبح عدواً له أيضاً، تبرع أربعة شبان في احدى الليالي ودخلوا منزل سيدو آغا وهددوه ثم قالوا له :​
ـ إما نورس بك أو العشيرة.
لم يتجرأ سيدو آغا أن يخالف العشيرة بهذه السرعة، فبقي في منزله عدة أيام، كان يخاف أن يقتله أحد، عندما يترك سيدو آغا العشيرة ويتزوج من كُلجين، مضت فترة لم يذهب سيدو آغا إلى زيارة نورس بك. وهذه كانت أمنية كُلجين أيضاً، قدم الشيخ لها فائدة كبيرة، لقد أنقذها من نار الجحيم، لكن كان يجب على الشيخ أن يسجن روح سيدو آغا دائماً كي لا يعود ثانية الى كُلجين، لذا كان عليها أن تزور الشيخ كل عدة أيام مرة واحدة. وكلما سنحت لها الفرصة ذهبت مع العجوز إلى الشيخ، يسجنان روح سيدو آغا، طلبت كُلجين أمنية أخرى من الشيخ، أرادت أن تجمع روحها مع روح كاتب والدها سَرْوَرْ Serwer .
كان سَرْوَرْ شاباً أنيق المظهر وسيم المحيا، طالباً في الجامعة، يحب كُلجين كثيراً ، وتبادلها هي نفس الشعور، لكنه لم يكن من الأغنياء، ولم يكن بمستوى نورس بك كي يصبح صهره.
وافق الشيخ أمنية كُلجين، إنه يجمع دائماً روحيهما معاً .
آمنت كُلجين بالشيخ وكرامته، واستسلمت له كلياً كانت تجلس معه، ويشربان ماء الزمزم في الخلوة معاً. وقد كان الشيخ يسجن روح عدوها ، وترسل روحها إلى حبيبها سَرْوَرْ ، عندما تبقى بلا روح، كان الشيخ يحضنها ويمددها بين نوره. فأصبحت كُلجين من اتباع الشيخ قلباً وقالباً، تذهب إليه كل اسبوع مرتين أو ثلاث مرات، وتبقى معه في كل مرة أربع ساعات في الخلوة، وتشرب مع الشيخ ماء الكوثر والزمزم، ويشدها الشيخ إليه، كانت الروح تخرج من جسدها مع روح الشيخ، وينبتان لهما ريش وأجنحة ثم يحلقان فوق الجنة، وفي السموات... مرت سبعة أسابيع على هذه الحال، حتى تحرك في بطن كُلجين شيء ما، لكنها لم تعرف ما هو ؟. لم تدرك أنها عندما كانت تشرب ماء الكوثر والزمزم، كانت تقع فاقدة الوعي، وعندها كان الشيخ يمنح من نوره جزءاً من الشراب .
لاحظ الشيخ هذا، وعرف أنه سيفتضح أمره بين الناس بعد شهرين أو ثلاثة، لذا كان عليه أن يداوي مريضته بالدواء الذي كان يداوي بها مرضاه مثل كُلجين وهو بودرة من بركات جده... يضع قليلاً من البودرة في كأس من الماء، ويقدم لمرضاه كي يشربوا.
بعد أن تجرعت كُلجين هذا الدواء، كانت تذبل تدريجياً كالريحانة وتذوب كالشمعة، فاقتعدت الفراش، ولم تملك القدرة على الوقوف، وبعد ثلاثة أسابيع اشتد بها المرض وأنطفأت كالسراج فجأة في يوم ما .
ماتت كُلجين، لكن شيخاً صغير كان يتحرك في داخلها، وبلا شك كان شيخاً دون ذنب .
 

G.M.K Team

G.M.K Team
_______________________________________
*مجلة روناهي العدد /16/ السنة 1943 الصفحة 5، 6، 7، 8.
صيد الخنازير
كنا نمشي في طرقات وعرة، ومشجرة، في وديان عميقة، على الصخور العالية، إلى الاماكن البعيدة... كنت أنا وصديقان لي، ومعنا كلابنا. حملنا بنادقنا على اكتافنا، وتخنصرنا بالزنار، ارتدينا القفازات في ايدينا وفي أقدامنا أحذية قوية متينة، وجوارب صوفية تقينا من برد الشتاء، ونرتدي الثياب الأنيقة الشتوية، وكان فصل الشتاء في الأربعينية، نقصد جبل (منجل) لصيد الخنازير. لم تكن هذه المرة الأولى التي نسافر فيها، بل سافرت عدة مرات في هذه الطريق، أصبح الصيد حاجة ملحة، ورغبة مميتة تجري في دمائنا، تسكرنا، نركب الطرقات كالمجانين، لا نستطيع التخلي عنها. كنا نمشي في النهار، وننام في المغارات ليلاً. بعد ثلاثة أيام اقتربنا من الجبل، وكان الوقت مساءً، والجو شديد البرودة، تعبنا كثيراً، واقتربنا من مغارة (كوف)، عادة عندما نصل إلى المغارة، نشعل النار بسرعة كي نتدفأ ونرتاح.
وصلنا إلى المغارة، لكن للأسف، كانت مهدمة لسوء حظنا، ولم أعرف مغارات أخرى في هذا المكان، ولم نستطع الرجوع في الظلام لأن الطرقات وعرة، والرجوع مستحيل، فالحيوانات الضارية والمتوحشة كثيرة جداً، احتمينا بصخرة كبيرة، كان المكان ضيقاً جداً، بحيث لم يسعنا وكلابنا، بصعوبة بالغة احتمينا بالمكان وأشعلنا النار.
هبت ريح عاتية بعد العشاء مباشرة. . . انهمر المطر رذاذاً، وازدادت الريح والمطر كلما توغلنا في الليل، انطفأت النيران، ابتلت ثيابنا، ارتجفنا من البرد، وارتجفت الكلاب، ووضعت أذنابها بين أرجلها، ورفعوا رؤوسها عالية، وارتفع نباحها، يبدو أنهم ينذرون بنتيجة سيئة أو كارثة محتملة.
بدأت العاصفة تزداد كلما اقتربنا من منتصف الليل، وعندما كانت تلمع الدنيا، كنا نستطيع رؤية الأشياء. نخاف أن تهاجمنا الحيوانات البرية، ولن نستطيع أن نتخلص منها.
خفت شدة الرياح بعد منتصف الليل، توقف المطر تماماً، تفرقت الغيوم السوداء، ظهرت نجوم في بعض الأماكن من السماء، دبت الحيوية والنشاط فينا، تحرك الدم من جديد في عروقنا . لكن لم تمض فترة ، حتى تجمعت الغيوم الناصعة البياض بدلاً من الغيوم الداكنة، وبدأت تثلج.
هطل الثلج مع بداية الفجر، وأصبحت الدنيا بيضاء، كان بإمكاننا أن نرى أمامنا، أردنا أن نرجع إلى الوراء، ونحتمي بمغارة ما. اوشكنا أن ننهض، وفجأة هجم علينا قطيع من الخنازير... الخنازير التي كانت تهرب منا مجموعات وقطعان، لكن الآن تهاجمنا بشراسة.
نحن الأصدقاء الثلاثة، وضعنا ظهورنا إلى بعضنا، وصوبنا بنادقنا باتجاههم، وقد ساعدنا كلابنا أيضاً، كانوا يهجمون على الخنازير. بدأت معركة كبيرة، انتهت الطلقات، وازداد عدد الخنازير رغم أننا قتلنا الكثير منهم. كانت يهاجمنا جماعات، ملبية نداء بني جنسها، يزداد تساقط الثلج، ثم بدأت الزوبعة الثلجية تلفنا، واشتدت العواصف. ظهرت من جديد الخنازير والحيوانات المتوحشة والمفترسة، هجمت علينا، وعلى كلابنا تطلب الطعام، فهي جائعة، بعد أن نفدت طلقاتنا، علقناحرابنا ، قاومناهم فترة باليد، لكن لم نستطع المقاومة. وقع كل واحد منا في مكانه، قُتل كلابنا الثلاثة بعد ذلك سحبت الحيوانات المفترسة جثث صديقين لي على الثلج. كنت في حفرة، امتلأت الحفرة بالثلج، فتشوا عني، غبت عن انظارهم. وقد غطاني الثلج تماماً.
يزداد الثلج فوق ظهري، ويثقل كاهلي، لم أستطع التحرك، لكن هذه المرة، لم أشعر بالبرد، وكأنني ارتديت الفرو الصوفي، كان جسمي دافئاً. كنت داخل كفن طبيعي أبيض. لا أمل في النجاة. عندما يكون المرء أمام الموت، يتذكر بكل تأكيد نهاية حوادثه التي تمر كشريط سينمائي أمامه. تذكرت أشياء كثيرة وأنا في تلك الحالة. لاسيما كنت اسمع دائماً صوت المرتل قبل /20/ سنة عندما كنت صغيراً (الله حق. . مولاي حق. . . الموت حق).
كان الصوت صوت الدرويش ، يلبس زياً أخضر، يظهر كل سنة مرتين أو ثلاث مرات ، وفي كل مرة يظهر فجأة دون سايق انذار، اسمر اللون، طويل القامة، ذقنه حمراء. . . علبته التي يضع على ظهره خضراء وأيضاً عمامته. كانت تتدلى من رقبته سبحة خضراء حباتها كبيرة، وعلى كتفه علبة من خشب جوز الهند، وفي يده عصا طويلة، وفي رأسها حديدة. يدور في الأزقة ويصرخ بصوته الحزين (الله حق.. مولاي حق.. الموت حق) كان الناس يجلبون له أطفالهم، يمسد بيده المباركة على رؤوسهم، كان بإمكانه أن يدخل كل البيوت دون أن يردعه أحد، وينام في أي مكان أو بيت يريده. وأن يأكل من البيت الذي يرغبه. كانت جدتي، تحترمه كثيراً، تجلب له الطعام، وكان يمسد يده على رأسي، يقرأ شيئاً ما بهمس وينفخ حولي. كانوا يطلقون عليه (الخال خضر) يظهر فجأة ، ويختفي فجأة، بإمكانه أن يلف العالم كله في يوم واحد. كنت أتضايق تحت الثلج، يسيل العرق من جسمي. تمر في ذاكرتي تلك المشاهد والمناظر، وخاصة منظر الدرويش. . تربيت في بيئة دينية، كنت أعتقد أن الدرويش الذي يلبس الأخضر، أو (ملا خضر) سينقذني من الموت الأكيد، أو يساعدني. الدرويش رجل الكرامات والمعجزات، والذي يستطيع أن يلف العالم كله في يوم واحد، يستطيع أن يلبي صراخ مريده القديم، وينقذني من هذه الضائقة. كنت أفكر بهذه الأمور. سمعت صوتاً هاتفاً يقول لي: (لاتخف... أنا قادم إليك) نظرت إلى الأعلى، طبقات الثلج تراكمت على ظهري، رأيت من الأعلى اسراباً كبيرة من الغربان، تتجه نحوي. ثم حطت بجانبي.
انتعشت، ردت روحي بأمل ملا خضر، قلت ربما أرسله الدرويش. لكن للأسف كان غراباً طويلاً جداً رأسه مدور كبير، وعلى صدره ريش ناعم، لايشبه الغربان. خاب ظني. . . إنه غرابٌ آكل الجثث. . . يشم الرائحة قبل أن يموت الانسان، هاهو قادم إلى جثتي. لكن هذا غراب أبيض، ذو هيبة وجلال ووقار، ليس غراب آكل الجثث، مسد بمخالبه الفولاذية على رأسي بعطف وحنان، رفعني على جناحيه الحديدية، وطار بي إلى السماء، عندها لم أكن أخاف من الموت. كنت أنظر إلى الدنيا، نظرة تفاؤل.
عندما فتحت عيني لم أر نفسي على اجنحة الطير، بل كنت في بيتي وعلى فراشي، يرفع الطبيب ذو اللباس الأبيض رأسي ، ويضع الدواء في فمي، نظر أقربائي الجالسون على الطرفين اليّ بخوف، والدموع تسيل من عيونهم، ضحك الطبيب وقال: الآن لاتخافوا. . . لقد مزق الكفن).
عاد الوعي إليّ، كنت مريضاً منذ عشرين يوماً بحمى التيفوئيد.
 

G.M.K Team

G.M.K Team
_________________________________________
*مجلة روناهي العدد/28/السنة 1945 الصفحة5، 6، 7 .
الانقلاب الأحمر الكبير
ـ لانريد الحرب
ـ لا نريد القيصر
ـ يعيش الشعب.
كان آلاف الفقراء وفلاحو بطرسبورغ يتجولون في الشوارع والأزقة في شهر آذار من العام 1917، ويطلقون بصوت واحد معاً تلك الكلمات . وكان القيصر وعائلته وأعوانه ينظرون من خلف النوافذ إلى جمهرة الكادحين والفلاحين والرعاة الصعاليك، ويضحكون، ويقهقهون ثم يقولون:
ـ يزعجنا عواء هؤلاء الكلاب.
فعلاً كان القيصر وأعوانه منزعجين. . . ولم يكن انزعاجاً طبيعياً، بل كان غضباً سياسياً، وإن كانت تعابير وجوههم تضحك زيفاً، لكن قلوبهم تبكي حقيقة. فقد تعلق حمى الموت برقابهم، تهتز من تحتهم العروش.
لم تحدث هذه المشاغبات في شوارع بطرسبورغ فحسب، بل كانت البلاد كلها تموج بهذه الاحداث، فيطالب الفلاحون والكادحون والرعاة بالحرية والتقدم.
يتألف الشعب الروسي من طبقات كما هو الحال في جميع انحاء العالم هم: الحرفيون والقرويون وأهل المدن، من الفلاحين الكادحين، والرعاة... أهل المدن هم الطبقة البرجوازية الوسطى، الحرفيون هم الطبقة المهنية الحرة، أما الفلاحون الكادحون والرعاة هم طبقة المستغلين، كانت طبقة المهن الحرة تعيش على جهود الطبقة المستغلة، ويتمتعون بملذات الحياة بجهودهم. وكان التعب والبؤس من نصيب الفلاحين والكادحين.
* * *
أول من وضع نظام الطبقات الاجتماعي هو كارل ماركس في القرن التاسع عشر، لم يوافق على هذا النظام الطبقي الاخرق، وطورّ أفكاره الماركسية إلى الأمام . كان كارل ماركس يقول دائماً (الدم الذي يجري في عروق الانسان أحمر، لايوجد إنسان يجري في عروقه دم أخضر، ولايحق لأحد أن يعيش على جهد الآخر، ولا يجوز ان يكون الشخص بلا عمل).
جرت الثورة الفرنسية الكبرى في عام 1789على هذه الأسس، وانكسرت منذ ذلك اليوم شوكة الطبقة الأسياد، واستدرك كل أمة معنى الحرية ومتعتها .
كان معتنق الفكر الماركسي، وقائد الثورة البلشفية هو لينين، واسمه الحقيقي هو فلاديمير ايليتش ايليانوف، ولد لينين عام 1870 في سينبرسك، في ومنذ نعومة اظفاره بدأ يناضل من اجل الحرية وكرامة الانسان، ويكافح في سبيلها ليلاً ونهاراً، بفكره وعقله ويديه.
بدأت الثورة الروسية عام 1917، لم يكن انقلاباً مفاجئاً، ولم تكن معجزة، لا، بل كانت ثمرة شجرة كان قد زرعها لينين قبل ثلاثين عاماً، البذرة التي بذرها لينين قبل سنوات في روسيا في الزمن الذي لوى القيصر عنقه وعنق أصدقائه.
طرد لينين من جامعة قازان عندما كان في السابعة عشر من عمره بسبب علاقاته برجاله الثورة وشنق شقيقه الأكبر الكسندر في نفس السنة.
كان لينين يحب العلم والتعليم كثيراً وخاصة كان يهتم بفكر كارل ماركس، وقرأ كافة الافكار (الاجتماعية) وخاصة كتاب ماركس الأول بعنوان (المسألة القروية)، وبدأ نشاطه منذ عام 1893 في مدينة بطرسبورغ. . واتجه إلى الكتب الاشتراكية، وقبل كل شيء أراد أن يسن القوانين للفلاحين والعمال، أسس حزباً أشتراكياً ديمقراطياً بين عام 1894 ـ 1898، ,اصدر صحيفة رسمية، ثم اعتقل ونفي إلى سيبيريا، وبقي هناك حتى عام 1900، ولم يتخل عن نضاله .
بعد أن عاد من المنفى خرج مع أصدقائه الاثنين الأول (مارتوف)، والثاني (توبريسون) من روسيا، وذهبا إلى المهجر مع بليخانوف واكلور وفيرازاسوليست وأصدروا جريدة بعنوان ايسكر. ثم ذهبوا إلى بروكسل، ولم يستطيعوا الاستمرار هناك، فلجأوا إلى لندن ودب الخلاف بين جماعة ايسكر ، وانقسم الحزب إلى طائفتين. البلاشفة والمناشفة، كان البلاشفة تحت قيادة لينين، واصدر صحيفة بعنوان (بريود) وفي عام 1905 عاد لينين إلى روسيا، وحدث انقلاب في الفكر والنظريات العامة في روسيا، وانخرطوا في المجال العملي، حدث كفاح مسلح في شهر كانون الأول تحت قيادة الحزب باسم جماعة السوفيت، فحاربوا جنود القيصر عشرة أيام، لم يوافق المناشفة على هذا الكفاح المسلح واراقة الدماء وانضموا بدورهم إلى القيصر والبرجوازية.
اضطر لينين أن يخرج من روسيا في عام 1907، وبدأ نشاطه السياسي في عام 1912من خارج روسيا. وعندما بدأت الحرب الكبرى في عام 1914، بدأت جماعة السوفيت تظهر من جديد وبقوة أكبر واهتزت بطرسبورغ.
ظهرت بوادر الثورة الاشتراكية في روسيا تحت قيادة الحزب البلشفي وزعامة لينين في عام 1917 وكانت هذه بداية تاريخ تحويل الطبقة الرأسمالية، وبداية التاريخ والمسار الصحيح والحرية.
عرض عمال بطرسبورغ عرضاً مسرحياً في شهر آذار من نفس العام، وتجول آلاف الناس في الشوارع والأزقة يرددون: (لانريد القيصر، نريد الحرية، يعيش الشعب...).
اشتدت نيران الثورة في بداية شهر آذار ، وكان القوزاق والجنود الذين يرسلهم القيصر إلى هؤلاء الجمهرة ينضمون إليهم، ويحاربون شرطة القيصر. . . لم يبق سبيل أمام القيصر... وسقط القيصر عن عرشه الذهبي.
ومع سقوط القيصر، وجهت ضربة اقتصادية وادارية إلى الطبقة الرأسمالية، وجرت انتفاضة آذار بقوة القرويون والجنود فقط ... بدأت ثورة تشرين الأول بعد ثمانية أشهر، وانتصر البلاشفة في كل الاماكن، وتأسست حكومة بلشفية بزعامة لينين . وفي نفس الوقت أسس أهل المدن والبرجوازيون حكومة بقيادة الأمير لغوف وميلكوف. نشر لينين برنامجه المتضمن من عشرة بنود في نيسان . فجّر البرنامج الوضع في روسيا كقنبلة ثم بدأت ثورة تشرين الثاني، أراد لينين أن ينهي الوضع لصالحه في أيلول، لكنه طهر البلاد منهم في شهر تشرين الأول، انهارت الامبراطورية الروسية الظالمة، وأسس بدلاً عنها اتحاد الشعب السوفيتي.
اشتهر لينين في العالم أجمع خلال ثمانية أشهر، فازدادت واجبات لينين وكثرت مهامه في السنوات الأخيرة، لكن للأسف امتدت إليه يد المنية.
استلم قيادة البلاد السوفيتية بعد لينين الزعيم ستالين، وقد حوّل هذا الرجل الفولاذي بلاد السوفيت إلى جنة ونعيم، قدم لهم وسائل الرفاه والسعادة. يحصل اليوم في السوفيت كل امريء على قوته حسب عمله واحتياجاته. . . فالإنسان حر، لايتجرأ أحد أن يظلم الآخر أو يقسو عليه. . . لاتقاس الحاجيات بالعظمة والشيخوخة والأبوة ، بل تقاس بالاعمال المقدمة.
يوجد الآن بين الشعوب السوفيتية اتحاد قوي، لا فرق بين القوميات الصغيرة والكبيرة، من الناحية القومية والدينية. كل شعب يتكلم بلغته ويكتب بلغته ويقرأ بلغته. ولايمكن لأحد أن يحتقر القوميات الأخرى، بل يعاقب كل من يخالف هذا الأمر .
* * *
توجد عدة قرى كردية في بلاد السوفيت، وقد حصل الأكراد على حقوقهم القومية والدينية ، بحيث توجد في كل قرية مدرسة وكولخوز كردي، وتصدر صحيفة رسمية تدعى (ريا تازا Riya Teze )، وهناك دار المعلمين وجامعة. ويصدر أعضاء الجمعيات مئات الكتب الكردية، نتمنى لهم الحرية، ومزيداً من التقدم.
 
أعلى