الأسرة مفتاح الهزائم والانتصارات

muhmmad alo

كاتب
الأسرة مفتاح الهزائم والانتصارات (إتقان الهندسة البشرية)

الحمد لله القائل (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدَّبَّروا آياته وليتذكر أولو الألباب)1.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ونشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحامَ إن الله كان عليكم رقيبا)2.
أما بعد: فإن أصدق الكلام كلام الله وخير الهدي هدي نبيكم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وإن من كلامه تعالى قوله: (ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم)3 ، وأهله : هم الذين آمنوا به كما يقول الامام ابن كثير ... ابن نوح ماكان من أهله (قال يا نوح إنه ليس من أهلك انه عملٌ غير صالح فلا تسألنِ ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين)4.
امرأة فرعون ماكانت من أهله ؛ قال تعالى: (ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين)5.
وذكر الإمام القرطبي قولا بأن خيانتهما إنما كانت النميمة ، والكفر أعظم من أي ذنب.
لماذا يذكر لنا القرآن أن ابن نوح كان من المغرقين ، وزوجته على ضلال! الأمر فيه استنفار نفسي لكل مؤمن. بناء الأسرة ليس أمرا كيفيا بل يحتاج إلى جهد خاص ؛ يغلب على أكثر الناس عدم بناء شيء في أسرهم وما فيها من خير إنما هو بقايا تراكمات للفطرة ، والبناء الإيماني قد لا يبذل لأجله الجهد المطلوب ، وكثيرون يكون اهتمامهم بأسرهم إنفاقا ماديا ورعاية سطحية ، أما الاصطبار من أجل خاتمة حسنة فلا يفعله إلا قلة من الناس.
المجتمعات المسلمة في أحيان عديدة قد تعاني من اختلالات مروعة ، وربما انطلقت فيها صيحات مخلصة ، ولكن نادرا ما تضع يدها على موضع الألم.
أحد الباحثين الإسلاميين وضع يده على موضع الألم بعد أربعين عاما من البحث من خلال طرق شتى ، والرجل مفكر إسلامي وعالم ضليع ومتخصص بالعلوم السياسية وأسس معهدا خاصا لذلك ، ولكن بعد أربعين عاما من الطواف والبحث هنا وهناك أعلن في ندوة ألقاها في أحد المؤتمرات الاسلامية أنه قد عرف أخيرا ماهي المشكلة؟ وماهو الحل؟ جوابه كان مثل جواب الإمام الجنيد رضي الله عنه لما رآه في الرؤيا أحد تلاميذه بعد وفاته وسأله: مافعل الله بك؟ فقال الجنيد: طاحت تلك العبادات وفنيت تلك الإشارات وما نفعتنا إلا ركعات قمناها في جوف الليل ، ومن هذه الروح أجاب الباحث عندما قال أن كل ما ينفق المسلمون أوقاتهم فيه وكل جهودهم لن تكون لها ثمرة مادام الخلل موجودا في الأسرة المسلمة. الأسرة المسلمة هي مفتاح الهزائم والانتصارات ؛ الضعف أو القوة ... الثبات أو التراجع ... الحضارة أو السقوط ... للأمة المسلمة كلها. قوانين التربية عند أغلبنا غائبة ، وإنشاء أسرة شيء آخر غير تربيتها ، فإطعام الأبناء أمر تفعله كل الكائنات أما تربية الأبناء فأمر راق سام له أبعاد إيجابية عظيمة إن أحسن القيام به ، وله أبعاد سلبية خطيرة إن فُرط به ، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول في الحديث الصحيح : (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ؛ الإمام راع ومسؤول عن رعيته ، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته ، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها ، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته ؛ فكلكم راع ومسؤول عن رعيته)6.
الرعاية والعناية والتربية لم تعد أمورا تلقائية بل هي علوم واسعة تحتاج إلى إخلاص وأخلاق ... ذكاء ومعلومات ولنقل بلغة العصر أن هناك اختصاصا هندسيا يكاد يفقد في مجتمعاتنا‍‍‍‍‍! إنه الهندسة لا المعمارية ولا المدنية ؛ لا الصناعية ولا النووية ؛ لا الزراعية ولا الإلكترونية! الهندسة شبه المفقودة هي الهندسة البشرية.
يستطيع كثيرون من الأشخاص بناء غرفة لها أربعة جدران وفوقها سقف من الخشب والصفائح المعدنية ولكن إنشاء عمارة ضخمة مؤلفة من عشرات الطوابق أمر هندسي معقد يحتاج إلى خبرات هائلة وخطط محكمة وحسابات دقيقة وكذلك كل المشاريع الكبيرة.
وإبقاء الكائن البشري على قيد الحياة ليس بالأمر الصعب ولكن بناءه بحيث يكون قمة تربوية أو قدوة فكرية أو ذروة إيمانية ومصحفا بشريا فإنما يحتاج إلى معرفة عميقة بالهندسة البشرية وأبعادها.
الإمام الغزالي مهندس بشري رائع ؛ الإمام ابن القيم مهندس بشري عظيم. الجيلاني وابن عطاء الله وابن الجوزي والجنيد كانوا مهندسين بشريين على مستوى عال من الكفاءة. الهندسة البشرية تكاد تندثر وآلاتها تكاد تنقرض وتدفن ، ويجب إحياؤها من جديد.
الهندسات الدنيوية يتقنها أصحاب القلوب المتحرقة على الانسانية المسكينة ، وشعارهم قوله تعالى : (ياليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين)7 ميدان الهندسة البشرية ليس المخابر بل ماأشار اليه الحديث الصحيح : (جعلت لي كل أرض طيبة مسجدا وطهورا)8 تطبيقات الهندسة البشرية شاملة تبدأ من الفطرة التي يخلق الناس عليها وتنتهي بكل الآفاق الإيمانية وتظلل كل جوانب الحياة المادية والمعنوية معا ، وكمقدمات لفهم منطق الهندسة البشرية نقول أن القائم بها هو المربي ، والمربي يجب أن تكون له مواصفات خاصة نستعرض بإيجاز بعضها :
1- المربي الحقيقي لا ينطلق من مفاهيمه الخاصة الشخصية أو ينظر من خلال أفق ضيق بل واجبه أن ينمي روح الانفتاح ويبني النفوس المنعتقة من الذاتية الطاغية أو الفردية المدمرة. يبني النفوس التي تسترسل مع الله على ما يريد لا على ما تريد ؛ قال تعالى : (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) 9.
2- لا يمكن للمربي أن يحجر على عقليات من يربيهم أو أن يحصرهم ضمن تصورات وأفكار ومشاعر خاصة ليس لها بعد تربوي واضح ، وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قَبَّل الحسن وفي رواية الحسين ابني علي رضي الله عنهم جميعا ، وعنده الأقرع بن حابس فقال الأقرع : إن لي عشرة ماقبلت منهم أحدا قط ؛ فنظر إليه الهادي صلى الله عليه وسلم ثم قال : (من لا يَرحم لا يُرحم)10 فها هنا تبدو الدلالة واضحة في عدم إقرار النبي لسلوك هذا الإنسان الذي يعيش في تصورات وأفكار ومشاعر خاصة مغلوطة ، ودور المربي إخراج الناس منها فضلا عن عدم اقترافه هو لها.
3- المربي المنفتح الواعي يستطيع التعامل مع أي أمر ولو كان خلاف ما اعتاد عليه ، ويستطيع بمرونة هائلة التخلي عن أية نظرة أو تصور أو وسيلة غير مجدية أو كانت ذات فائدة مرحلية انته وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مر بقوم يلقحون النخل فقال: (لو لم تفعلوا لصلح ؛ قال: فخرج شيصاً وهو التمر الذي لا يشتد نواه ؛ فمر بهم فقال: ما لنخلكم قالوا : قلت كذا وكذا ؛ فقال صلى الله عليه وآله وسلم : أنتم أعلم بأمور دنياكم)11 وإن في الحديث دلالات تربوية عظيمة أخرى ذكرها المحدث الشيخ عبد الله سراج الدين في كتابه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
4- المربي ذو النفسية الصافية يبذل للمتلقي على يديه كل رعاية ومودة ونصح ؛ فالتربية السائرة على منهج النبوة هي عطاء دون حدود وإخلاص ورعاية ومودة ، ومحبة لا تتناهى دون مَنٍّ ولا افتخار ولا عجب ولا رياء ولا طلب أجر من أحد ، وهو عمل المرسلين ؛ قال تعالى (وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون)12.
5- التربية نماء دائم والمربي الحقيقي يستفيد ويتعلم ممن حوله كما يستفيدون ويتعلمون منه اقتداء وامتثالا بحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ يقول: (لن يشبع مؤمن من خير يسمعه حتى يكون منتهاه الجنة)13ورحم الله ابن القيم إذ يقول : إذا حال غيم الهوى بين القلوب وبين شمس الهدى تحير السالك. وصلى الله على الهادي المصطفى إذ ما منعه مقام النبوة أن يأخذ بمثل رأي سلمان في حفر الخندق14.
6- المربي نور دائم الإشعاع وهو مرآة لاخوته و(المؤمن مرآة المؤمن)15 والمربي ينعكس صفاؤه على اخوته ويفيض عليهم مما آتاه الله فتكون مرآته التربوية ممتصة لكل العوالق والشوائب ؛ مبدلة لها بكل جميل من الخلق والسلوك والفكر والعمل ؛ قال ابن القيم : مياه المعاني مخزونة في قلب العالم يفتح منها للسقي سيحا بعد سيح ويدخر أصفاها لأهل الصفا فإذا تكاثرت عليه نادى للسبيل ، وفي الصحيح عن أنس رضي الله عنه قال: (ما سُئل صلى الله عليه وآله وسلم شيئا إلا أعطاه فجاء رجل وهو صفوان بن أمية فأعطاه غنما بين جبلين فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا فان محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر)16 ؛ فأبدل كفر الرجل بالإيمان وأعطاه عطاء من لا يخشى الفقر ، وربما طوى جائعا ، وربما ربط على بطنه الحجر من الجوع صلى الله عليه وآله وسلم17.
والتربية علم لا يشرح بلحظات وكل موقف تربوي يجب أن لا يضيع ، وراعي الأسرة عليه أن يدرك كيف يستثمر المواقف ونذكر باختصار على أن نعود إلى الشرح المفصل في خطب قادمة ؛ نذكر أن من نعلمه أو نربيه ترتبط نتيجة ما نلقيه إليه بعدة عوامل منها:
1- الاستعدادات العقلية ودرجة النضج وكما يقول ابن مسعود رضي الله عنه : (ماأنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة)18، والخبرة المنقولة يجب أن تترافق مع النضج عند المتلقي وإلا سبَّبَ ذلك الإحباط أحيانا.
2- يجب مراعاة الاستعدادات النفسية وما يثيره الموقف التعليمي من دوافع وحاجات وميول فإلقاء أمور مناسبة للراشدين قد لا تنفع للمراهقين وما يناسب المراهقين لا يصلح للأطفال ، وعلى المربي أن يدرك خصائص كل مرحلة من مراحل العمر.
3- لا يمكن للمتربي التلقي إلا في حال الشعور بالثقة بمن يربيه ، والإحساس بالأمن الداخلي معه وإلا سبب الأمر قلقا نفسيا يمنع من الاستفادة والتلقي والالتزام.
4- يجب تفهم البيئة المحيطة بالأفراد الذين نربيهم فمن عائق تربيته هو الترف والدلال يختلف وضعه عمن عائق تربيته هو القلة والحرمان ؛ عمن عائق تربيته هو التنطع والقسوة ؛ عمن عائق تربيته هو الانحراف المحيط والفساد
5- يتأثر الفرد تأثرا شديدا بإخلاص المربي وحماسته لمبدئه وموضوعيته في طرحه ، وعلى المربي أن يكون مثالا صالحا في كل ما يطرحه.
6- التربية هي بلوغ الأمر كماله بالتدريج وبالتالي فان الثمار التربوية لا تؤتي أكلها مباشرة وقطفها قبل نضجها يدعها فجة والثمرة المقطوفة قبل نضجها لا يمكن إرجاعها ولا الاستفادة منها ؛ فرحم الله من صبر ؛ قال تعالى: (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون)19.

اللهم علمنا ماينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما.
من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون.



الإحالات :

1- ص 29.
2- النساء 1.
3- الأنبياء 76.
4- هود 46.
5- التحريم 10.
6- البخاري ، الجمعة 893.
7- يس 27.
8- البخاري ، التيمم 335. واللفظ للضياء المقدسي في المختارة.
9- النساء 65.
10- البخاري ، الأدب 5997 ، ومسلم ، الفضائل 2317.
11- مسلم ، الفضائل 2363.
12- يس 21
13- الترمذي ، العلم 2686 ، وقال حديث حسن غريب.
14- أقدم من أشار إلى ذلك أبو معشر السندي (ت171هـ) بدون إسناد (فتح الباري 7/393) ؛ والواقدي في المغازي 2/445 بدون إسناد ، وابن هشام في السيرة 2/224 ؛ نقلاً عن:
- أكرم ضياء العمري ، السيرة النبوية الصحيحة ، المدينة المنورة ، مكتبة العلوم والحكم ، ط6، 2/420.
15-أبو داود، الأدب 4918. وهو حسن الإسناد.
16- مسلم ، الفضائل 2312. واللفظ لأحمد.
17- الترمذي ، الزهد 2371 ، قال أبو عيسى هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وله شاهد في مسلم ، الأشربة 2040 ؛ بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعصب على بطنه عصابة من الجوع.
18- أثر موقوف على عبد الله بن مسعود ذكره مسلم في مقدمة صحيحه.
19- لقمان 24.
 

muhmmad alo

كاتب
رد: الأسرة مفتاح الهزائم والانتصارات

شكرا لكِ اخت سوسن على المرور
 

كلبهار

مراقبة عامة
هور يانعه في بساتين المنتدى نجني ثمارها من خلال الطرح الرائع لمواضيع اروع
وجمالية لا يضاهيها سوى هذا النثر البهي
فمع نشيد الطيور
وتباشير فجر كل يوم
وتغريد كل عصفور
وتفتح الزهور
اشكرك من عميق القلب على هذا الطرح الجميل
بانتظار المزيد من الجمال والمواضيع الرائعه
 
أعلى