قصص قصيرة .. ماهين شيخاني



جرح لا يندمل

كانت المرة الثالثة لي على ما أعتقد بارتياد المقهى مع زملائي الرواد المدمنين على لعب الورق وشرب الشاي , ارتيادي معهم فقط أيام الجمعة أي في العطلة الأسبوعية , لمحته منزوياً على نفس الطاولة المعتاد الجلوس عليها , متكأ ظهره للجدار واضعاً كفه الأيسر المستندة على الطاولة على خده الأيسر مقابل التلفاز مباشرة , رفع كأس الشاي المليء البارد ليرتشف منها الحسرة والآهات , تاركا العنان لسحاب سيجارته و خياله السارح مع تلك الأغنية العراقية الحزينة . تركتُ رفاقي التائهين في غمار اللعب , بعد أن أدلقت كأسي على مراحل مختصرة ودنوت منه حتى لامست طاولته , أرتبك قليلاً وانتصب .
- أتسمح لي بالجلوس معك قليلاً ؟.
- بحركة من كفه المبسطة - بكل سرور , تفضل أخي , أهلاً وسهلاً بك .
- مددت يدي إلى كرسي قريب , لأجلس عليه .
أخذت أسارير وجهه تتفتح شيئاً فشيئاً وتعود إليه بالطمأنينة , أراد أن يخرج نفسه من ذاك الارتباك :
- شاي أم شاي ؟.
- لا هذا ولا ذاك ؟. شكراً , لقد شربت بما فيه الكفاية عند الشباب .
- لا يجوز ذلك , أنت في ضيافتي , العفو المقهى هنا تصنع فقط الشاي , آه لو كانت هذه المقهى بيدي , بإدارتي ؟. لجعلتها فرجة ..؟
- ماذا عساك فاعلا بها؟.
- صفن قليلا , ثم خرجت تنهيدة عميقة وقال : صحيح والله , ماذا عساي أعمل بها؟. لا ولد ولا ...
قاطعته : هل كنت تحبها ؟.
- .....هم !!!
لدى سؤالي له عن حبه لها , نظر إلي بذهول وكأنه تلقى صفعة قوية مباغته من شخص لم يتوقعه , أزداد شحوب وجهه الشاحب أصلاً . حين أكتشف بأنني أعلم أسراره وخباياه .طأطأ رأسه , نفض رماد سيجارته ثم رمقني بنظرة وقال : ماذا تقصد ؟.
- أقصد المقهى ؟ ألم يكن هذا عملك سابقاً ؟.
- لا..لا , أعي ما تقول , لا تتملص من سؤالك , لقد قصدت موضوع آخر (يق البحصة التي في فمك ) لأنني أعرف هذا البلد لا يخف فيها شيء ؟ ولكنني لم أتوقع منك أنت بالذات يا أستاذ , أن تهينني وأنا أجلك وأحترمك .
- المعذرة , لم أقصد الإساءة إليك أو تجريحك , أنا أيضاً أحترمك و من المؤازرين لمحنتك , أحياناً البني آدم منا بحاجة إلى أن يفضفض ما بداخله , إذا كنت بحاجة للمساعدة أو لعمل ما نقوم لأجلكما , للمصالحة بينكما , أنا مستعد واعتبرني أخاك الصغير.
- فات الأوان يا أستاذ , انتهى كل شيء – أغرورق عيناه بالدموع - أنبعث من صدره تنهيدة مكبوتة وأستأنف : خمس وعشرون سنة شقاء, عذاب وشغل وفي الآخر(فراق ) تصوًّر , ذهبت هذه السنين كلها أدراج الرياح , هباء في هباء , لملمت كل مصوغات التي اشتريت لها من كدي ومن عرق جبيني والمبلغ الذي ادخرته لخبايا الزمن , كنست كل شيء ونسيت العِشرة, لماذا ؟. لأنها تحججت بأنني عقيم , مع العلم رافقتني في كل خطوة لدى زياراتنا ومراجعاتنا للأطباء الأخصائيين – وبنقرة قوية من سبابته على الطاولة - من هنا إلى العاصمة ولكن إرادة الله فوق كل شيء , كل ما هو مطلوب مني فعلته , هز رأسه قائلاً : هذه هي حكايتي مع الزمن , مع الغدر , هذا هو قدري ونصيبي . جرحي بليغ , بليغ يا أستاذ لا يندمل .
 

زائر الليل


كان اليوم الثاني من عودتهما بعد قضاء ثلاث أيام من العسل وذلك لظروفهما المادية، و لسوء الأحوال الجوية حيث صادف زواجهما في فصل الشتاء .وقد اتفقا مع نجار الموبيليا على أن يكون الأثاث الغرفة حين عودتهما جاهزة حسب وعده لهما , حيث استلم معظم نقوده , ولكن النجار نكث بوعده ولدى عودتهما كان نصف المواد غير جاهز , كل ما قام بتجهيزه السرير أما الخزانة كانت الأبواب غير جاهزة . حيث أصبح منزلهماالصغير المكون من غرفة - بالاسم صالون - وغرفة منامة محصورة لا يستطيع المرء التحرك بداخلها , غير مرتب لا يمكنهم استقبال الضيوف .
رن جرس الباب , سألته من يكون في هذا الوقت المتأخر من الليل .
- أكيد أحد من أهلي , قد يكون أخي جالباً بعض من الحلويات، أحب أن يضيفنا قبل أن يذهب إلى منزله .
كانت السماء ملبدة بالغيوم وأنوار الشارع منطفئة واحتمال الكسر وارد , لأن أولاد الحارة يقذفون بالحجارة إلى عامود الكهرباء وكأنه دريئة يتدربون عليها للرماية .
فتح الباب ودون أن يمد رأسه للخارج منتظرا الطارق للدخول , فجأة ظهر أمامه شبح شخص ملثم , ذي هامة كبيرة , هزه الخوف الكامن في داخله , كاد قلبه يقفز خارج صدره , ارتعدت أوصاله لاشعورياً ولم يعد قادراً على النطق , تسمر في مكانه للحظات ,كان ضوء المنزل ينعكس إلى وجهه الملثم , لم يتراءى له سوى عيناه الجاحظتين , ولم يدر كيف بدر منه صوت خافت :
- أهلا وسهلا , هل من خدمة أقدمها لك .
- لم ينطق !!! .
- قال في سره : لعله يبحث عن بيت أحد السائقين، أو أحد معارفه ولم يعد يتذكر الاسم. هناك أناس ينسون الأسماء بسرعة، وقد يكون هذا واحد منهم ومصاب بهذا المرض اللئيم , عسى خيراً يا أخ , هل تبحث عن أحد في هذا الليل..؟
- ظل الملثم صامتاً , وعيناه تتفحصان صاحب الدار من رأسه إلى أخمص قدمه , تحرك صوبه ودون أن يستأذن له بالدخول ولج الدار , لم يعد يتمالك نفسه , غمر بحر من الحيرة والارتباك , مدد يده المرتجفة إلى صدر الملثم لصده وباليد الأخرى لنزع اللثام ليكشف عن وجهه وبرهبة سيطرت على كيانه سأله : عفوا لحظة , إلى أين ..؟. و ماذا تريد ؟ .
- تأتأ قائلاً : دعني أدخل وأشر بكلتا يديه حركات إيمائية على انه جائع , ثم ردد بثقل : جائع , طعام !.
- استغرب لهيئته , تردد في دخوله , كونه يعلم إن دخوله في هذا الوقت المتأخر من الليل لمنزله غير مأمون قد لا تحمد عقباه , و هذا الشخص غريب ليس من بلدته ولا حتى من قراها , انه في الأربعينيات من العمر وقال في سره : لو من منطقتنا لرأيته أو لمحته ذات مرة في السوق , في الأعراس أو العزوات , غريب أمر هذا الرجل , ولكن كلمة (( جائع )) آلمه ومزقه من الداخل , سيطر على جسده قشعريرة جعله ينصرف من مخاوفه وتردده وأدخله إلى الصالون .
كانت عروسه مترددة لا تجرؤ دخول الدار , ترتعد وجلا ًوتهمس: سأهتف لأهلك , إن أطواره غريبة , ثم اقتربت بخوف من الباب ومدت عنقها وقالت:
- انظر ..!. كيف تمدد واستلقى على البساط، وسحب وسادة دون أن ينتظرك , غداً سأحرق تلك الوسادة لأنها تعشش فيها قمله , مستحيل أن يكون شخصاً سوياً , إن تصرفه وحركاته تدل على إنه مختل عقلي , زفرت بغيض واستأنفت : هل من الحكمة أن تسمح لإنسان تجهله لا تعرفه , لو كان في وضح النهار لقلنا فقير أو معتوه وجائع وأدخلناه , لماذا سمحت له بالدخول , ألا تخاف على أنفسنا , في هذه الأيام من لا يحسب لا يسلم ؟.
- لا يجوز يا امرأة أنه جائع وطرق بابنا , المقدر والمكتوب ليس له من هروب , اذهبي واحضري الطعام ولا تنسي الشاي ..؟.
كان الضيف لا يأبه بما يدور من حديث بين الزوجين , ينظر للسقف وللستارة المؤقتة للنافذة ومد يده للستارة لمسها ودعكها بين أصابعه ورفعها قليلاً ،وبدأ يلتفت يمنة ويسرة ولا يتفوه بشيء وحدقتاه كبندول الساعة لا تهمدان , حاول أن يأخذ منه معلومة , حادثه , سأله عن اسمه ومن أي مكان , هل له أقارب هنا في المنطقة , لكن دون جدوى .
لدى حضور الطعام , تناول بضع لقيمات لا تدل على إنه كان جائعاً كما ادعى، وشرب كأساً من الشاي الساخن وقبل أن يكمل المضيف كأسه , سمع رنة غريبة ظنها من هاتفه المحمول في غرفة المنامة , توجه لجلبها إلا أن الهاتف لم يكن متصلا , وما إن رجع إليه رآه قد انتصب واقفاً , رفع كفه المبسطة كتحية شكر وبعجالة انتعل الحذاء وغادر .
- تنفسا الصعداء وكأن هماً كبيراً قد زاح عن كاهلهما .
بعد إغلاق الباب مباشرة ،لاحظا بأنه قد ترك حذاءه، وانتعل حذاء آخر , أسرع نحو الباب للحاق به , لكنه اختفى بلمح البصر في ذاك الشارع الطويل, وغادر النوم جفونهما حتى طلوع الشمس , وترك في ذهنهما أسئلة عدة لم يحصلا على إجابتها حتى اللحظة .

 


شيء في صدره ...


هل أبوح لها ما يجول في صدري ؟. هل أترك العنان للساني وأفرغ ما في جوفي من ألم من الفرقة وتوق واشتياق للحظة ؟. هل أكشف لها عن احتراقي ولوعتي .؟.
هل أكشف لها عن مدى حبي وهل ....!.هل أكشف لها سري ؟.
بالتأكيد لا أستطيع مواجهتها , لا أستطيع مصارحتها مما يختلج في كياني , وأن حاولت سأصغر في عينيها , سأصبح قزماً , لا أقدر على مواجهة هذا الأمر, سأصبر إلى ماشاء الله . ونظر إلى المرآة القريبة منه وقال:
- لا..لا قد تخيب ظني وستفسد كل ما بنيته من مودة واحترام بيننا , الصمت خير لي ولها ( الكلام من الفضة والسكوت من الذهب ) هذا ما تربينا عليها في المجتمع .
- يا عيني عليك ...- أجابه المواجه له في المرآة -
- بس يا ناس أنا أريد فضة لا أريد ذهبا . أريد البوح , المسافة بيني وبينها هو فقط فتح الباب , أشرح لها الوضع وأرتاح.
- ولكن هذان الخطوتان بينكما أصبحتا سلسلتان جبليتان من الجليد, وبفضل تفكيرك يا ...عزيزي ؟.
- حدق في المرآة وقال : أترى سيأتي الربيع ثانية ويذوب هذا الجليد ؟.
- أنت لا تجلب سوى عواصف رعدية وتهدم كل شيء من حولك . سنين العمر ضيعته في عاصفة هوجاء . كفاك عناد , ويحك من هذه الجمجمة الصلدة , تغير العالم حتى الأحوال الجوية تغيرت في منطقتنا وفي العالم , تغير أنت أيضا مع الجو , الذوبان يلزمها طاقة , حركة , كفاك عنجهية .
- يا رجل تفوه خيراً . لماذا تشاكسني دائما ؟.
- لأنك لا تدرك مصلحة أسرتك , لا يهمك سوى كبرياؤك .
- آه .... كم أشتاق إليك أيها الربيع , وكم أتمنى مجيئك قريبا سريعا كغمضة عين , هما فقط خطوتان لو فتحت الباب , لو تجرأت , لو بإمكاني الحديث معها قليلاً ومصارحتها ؟. لدي إحساس غريب بان الربيع آت ,وإن الله سبحانه وتعالى مع الصابرين .
- الصابرين وهل هناك جلد وصبر أكثر من ذلك ؟. ألا تر بأنك صبرت طويلا.. والنتيجة ؟.
- نعم , صبرت طويلا - قالها بتأوه - وخرجت زفرة قوية من أعماقه .
- مدة أربع سنوات أليست كافية في هذا الزمان , لو التقاة عاشوا في هذا العصر لما صبروا مثلك , تخيل لو نبينا أيوب عليه السلام , كان يعيش في زماننا هذا , علم وطب وأجهزة تقنية متطورة وعالية , هل كان سيصبر على علته كما صبرت ؟.
- أستغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم , وما شأن نبينا بهذا الموضوع ؟.
- أخي شغل مخك شوي , أكان يذهب إلى الطبيب ويدخل المشافي بواسطة أم بدون أية وساطة .
- أكيد وساطة أو بماله . هذا الوقت – صمت للحظة - ثم أردف قائلا : لكن المسكين من أين له المال , لقد خسر المال والبنون وظل طريح الفراش لمدة طويلة تتساقط لحمه عن جسده , حتى لم يبق إلا العصب والعظام, أخي أنا أعلم أن كل الأنبياء فقراء , رعاة .
- هه ..أنت عيني , لا تملك المال ولكن لديك البنون , بقي وساطة - ( ألآن اتفقنا ) - أعتقد آن الأوان أن تقرر محادثتها بالموضوع , ستكون هي الوساطة بينك وبين والدتها التي هجرتك .
 



المتبرع


سمع ضجيجاً ولمح حركة غير مألوفة أمام مكتبه , نظر إلى ممر المبنى المقابل له في الجهة الثانية من الشارع والذي يقطنه طبيب , حيث يتجمهر الناس عادة , كلما حصلت حادثة أو مشكلة , خرجَ بدوره ليدرك ما الأمر, لعل أحد من معارفه أو أناس بحاجة للمساعدة , دخل العيادة وجد فتاة مضرجة بالدم , تئن من الوجع , ملقاة على الأرض بانتظار الطبيب الساكن فوق عيادته , سأل المتجمهرين من هي الفتاة ؟. ليعلم أحدكم ذويها , قد تحتاج لدم, المسكينة تنزف بغزارة..؟
- أجابه الممرض : لا أحد يعرفها , ولا تحمل شيئاً تثبت هويتها , كل ما عرفت عنها أن أسم ليلى منقوش على ساعدها الأيمن و أعتقد هذه الملاية السوداء توحي لي بأنها متسولة , هن عادة تلبسن هكذا رداء , بلدتنا تغزوها هؤلاء الناس من كل حدب وصوب . حينها دخل الطبيب وأمر بنقلها إلى غرفة الإسعاف وإخراج الجميع باستثنائه مع جار له بالمحل .
- خرج الطبيب بعد حين وبيده قصاصة وقال : أنها بحاجة لدم وزمرتها مكتوب في الورقة , حاولوا قدر المستطاع تأمين الدم بأقصى سرعة , أنها في حالة خطرة .
- سأله وما زمرتها , دكتور ؟.
- رد الطبيب - a+ -
- a+ - أنها لمحظوظة , متوفرة دكتور , لا عليك .
- أسرعوا رجاءاً , ليس لدينا وقت كاف . احضروا المتبرع حالاً.
- تفضل ...
- أين هو , لم لم تتحركوا بعد , من المتبرع ..؟.
- أنا جاهز..بتصرفكم دكتور .
- أنت, بارك الله بك , إذاً أسرع من فضلك ..؟.
سحبه جاره لزاوية الغرفة وهمس في أذنه : هل أنت مجنون ؟. هل أنت جاد بالتبرع , هناك على الباب جمع غفير من الشباب , ليتبرع أحدهم , ثم أخذه باتجاه الباب وقال : انظر إلى هؤلاء الفتيان أجسادهم الضخمة كالوحوش الكاسرة , المنقوشة بالوشم وكتابات توحي بالرجولة والعنترية , لنسألهم قد تأتيهم النخوة ونجد من يتوافق زمرته مع زمرتها , ثم هل تعرف من هي هذه الفتاة حتى تهدر دمك لأجلها ؟.
- أليست إنسانة , مخلوقة مثلنا , خلقها الله ودب الروح فيها . ثم لماذا نبحث طالما أنا أملك هذه الزمرة ؟.
- ليأتي أهلها يا أخي ويتبرعوا , أو لنشتري لها الدم ريثما يحضروا .
- وإن لم نحصل على الدم أو لم يكن لديها أهل , هل نتركها تموت ..؟ لا ..يا جاري , هذا ليس من شيمنا وأخلاقنا , لقد سخرني الله لإنقاذها , حصلت لها هذه الحادثة هنا بالقرب منا لننقذها , أنها مشيئة الله , وأنا جاهز لأمره .
سمعا نحيب نسوة وولولاتهن في الممر وهن تتجهن صوب العيادة وإحداهن تنادي باسم ليلى ...ليلى ماذا حل بك ..؟ ماذا جرى لك ..؟ . قصف الله عمر ذاك الشاب المتهور ..؟ . ألم تسمعي هدير دراجته النارية ...؟.
- اصطبغ سحنة جاره بصفرة ليمونية , لدى سماعه صوتا مألوفا لديه , لفحته مسحة كآبة واتجه نحو غرفة الإسعاف ودوت منه صرخة قوية , ارتجت البناية والحارة للوعته وأساه: إنها ابنة أختي ....ابنة أختي , لقد خابرتني أختي هذا الصباح على أن تزورنا برفقة ابنتها , المسكينة لم نتعرف على هويتها , كونها لا تملك الهوية أصلاً , ولطم كلتا كفيه على رأسه وصاح : أجانب يا خالو أجانب
 



ألم و ندم ....

يكاد رأسي ينفجر ، تأخذني الأفكار بين أمواجها المتلاطمة بعيداً بعيداً ثم تعود بي إلى حيث كنت ، لا استقرار في ذاتي ، عقلي شارد حيناً وفي حالة صحو تام حيناً آخر ، نار تتأجج في داخلي . أحرق نفسي بنفسي ، أحاول نسيان الموقف ولكن هيهات ؟
لم أعد قادراً على التركيز ، أخطئ في الحسابات ، لم أعد أحتمل ، لذا عليّ إغلاق المحل وأخذ حبوب السيتامول من الصيدلية والعودة إلى البيت .
لا أعرف كيف تمالكت نفسي ولا كيف وصلت ؟! أخرجت شكالة المفاتيح من جيبي وفتحت الباب ، كانت الدار يكتنفها السكون والصمت ، ساده الصمت وكأن الحياة هجرتها ، أين تلك الأصوات والحركات والمشاغبات اللطيفة ؟! لم هذه الدرّاجة وتلك الألعاب حزينة ، كئيبة مرمية في زوايا الإهمال ، ازداد الصداع ألماً .
رغم معرفتها بقدومي إلا أنها لم تأبه بذلك ، كانت في حالة شرود وذهول وخيبة ، أعرفها أكثر مما أعرف نفسي ، تشعر بجرح عميق وإهانة كبرى في كيانها، خجولة من رفع رأسها ومكالمة طفليها .
ـ 2 ـ
دنوت وجلست بجانبها على السرير ، شعرت بألم يمزق صدري ، يجعلني أشلاء مبعثرة ، احتقرت ذاتي على هذا التصرف اللاحضاري واللاإنساني ،أين الإخلاص ؟ أين المودة ؟ وأين القسم ؟!.
أمانة في عنقي!…. شريكتي التي أعجبت بها ونلتها ؟!… أم ولديَّ، كانت أمنيتي أن أختار لهما أماً متعلمة ، تجمع الأخلاق والمعرفة ، تعلمهما القراءة والكتابة منذ الصغر وقبل دخول الحضانة تعلمهما الأدب والاحترام . ولدي اللذان يجب أن يكونا ( …. ) ؟!! ـــ ننور لهما درب المستقبل . ؟ ! ! …
وبعد أن اخترت لهما خير أم ، وحمدت الله على هذه الهبة فماذا بعد ؟ وماذا أريد؟ .. أنا المدافع بكل أحاسيسي وإنسانيتي عن حقوق المرأة ؟
أنا المتباهي بديمقراطيتي وتفكيري، وأقول لو خلقني الله في عهد قاسم أمين لسبقته في الدفاع عن المرأة ؟!، أقوم أنا بهذا العمل اللاأخلاقي المنافي للشرع والقانون : نظرت إلى كفيّ باشمئزاز ، الأصل ؟ أنْ يعلم مجتمعنا شبه البدائي بأنني قوي قادر على ضرب زوجتي ؟! الأصل أن يسمع الجيران صُراخها وتنتشر بين النـاس سيرة بطـل ؟! .
ـ3 ـ
آه … لخيبتي … آه لتصرفي الشاذ ، أصبحت أمقت نفسي ، أشمئز منها وكأنها تخبئ وجهها الملائكي بكفيها والطفلان يرمقانني بنظرات كلها استياء حاولت التكلم معهما وإخراجهما من دوامة ذلك الصمت .
ـ آزاد … آفروديت … ؟ لقد اشتريت لكما ( الدوندرمة ) اذهبا.. لقد وضعتها الثلاجة ؟ … وأنت يا ( …. ) ، ربت على كتفيها بحنان. كفاك تعذيبي؟ ليعلم الله أنني عندما أفعل شيئاً ما لا أندم ولا أعتذر ولكن الآن فقط وبما أنني قمتُ بتصرف خاطئ ومؤذ،غير وارد في قاموس حياتي فسيكون لي الشرف أن أعتذر منك وأعترف بذنبي وأتمنى أن لا يتكرر مثل هذا للأبد ، انتشليني من بين براثن هذه العاصفة الهوجاء ؟… أكاد أختنق؟ .
ـ انهضي ..؟ وسامحيني … ها قد اعتذرت منكِ لا تخيبي ظني ، عرفتك أصيلة ولامستُ يديها الجامدتين ، رمقتني بنظرة فاترة دون أن تنبس بشيء ولكنني أحسست بما يجول في داخلها وما قالته لي :
ـ أين نضارتها وإشراقها ؟‍‍‍‍ ‍‍‍‍‌‍‍‍…
ـ أين بريق عينيها ؟
لقد ذبلت كالزهرة في هذه السويعات القليلة .
لا تزال يدي فوق يديها ، … شعرت بسريان الحرارة في جسمها شيئاً فشيئاً ، رفعت رأسها قليلاً ، تبين لي أن الوسادة مبللة بالدموع . إلا أن استدارتها نحوي وعيناها اللتان تحاكيان وجداني و قلبي وتقولان ماذا فعلت بك ؟ ما ذنبي ؟ لِمَ هذه العصبية المفرطة ؟ أهكذا تواعدنا ؟
انتبهت إلى تلك الدمعة التي كادت أن تسقط على الوسادة ، فمسحتها بيدي ومسدت شعرها وأنا أقول ثانية : سامحينني ..
ألم تسمعي بتلك المقولة الدّارجة: أن المسامح كريم وكريمٌ جداً . فارتسمت على شفتيها ابتسامة جعلتني أقفز فرحاً .

 


الشبح ... والطريدة


في وسط السوق المكتظة بالناس تجمد عروقه, وقف بمكانه وعيناه جاحظتان باتجاه شخص يبعد عنه بمسافة بضع أمتار , كان الواقف يرتدي هنداماً أنيقاً , واضعا نظارة سوداء وكأنه بانتظار شخص ما .
حاول تغيير مساره وبسرعة البرق ولج إحدى المحلات القريبة بحجة التبضع واشترى أشياء تكاد تكون غير ضرورية لبيته ودقات قلبه الوجل في ازدياد مضطرد , انسل من المتجر دون إن يلاحظ عليه أحد ذاك الرعب القابع في ذاته , استأجر سيارة بمبلغ كان سيكفيه لمدة أسبوع , بددت حركاته غير طبيعية وهو داخل السيارة , ينظر خلفه تارة وتارة أخرى يسترق النظر من خلال مرآة السيارة والعرق يتدفق من جبينه المليء بالتجاعيد بالرغم من سنين عمره التي لم تتجاوز الخمسين , ومن حين لآخر ينظر إلى ساعته . كأن ميعاده مع العزرائيل قد حان . وبحركاته المريبة تلك جعل السائق بسؤاله :
- ما بك يا أخ , هل تشكو من شيْ ؟ أرح من جلوسك فالمكان واسع ...
- لا...لا..المكان واسع ولكن صدري ...؟
- - ما به صدرك....!
- كاد يذبحني...
رفع السائق رجله عن مرجل البنزين ووضعها على الكابح , فاندفع الاثنان إلى الإمام بحركة لاإرادية , التفت إليه السائق وقال باستغراب:
- أتعني ... لاسمح الله أتتك نوبة جلطة !.
- لا .. لا.. رجاءا لا تتوقف , أسرع , أسرع وبكلمات تمتم لم يتلقفها أذن السائق : باريت تكون جلطة لأخلص من هذا العذاب والخوف .
- من ينظر إليك سيظن بأنك مطارد من أحد ؟.
- لا ... لا...فقط أشعر بضيق شديد . قد يكون الدخان هو السبب .
- هل متأكد أنك بخير , إذا لم يكن معك نقود بإمكاني إيصالك إلى الدكتور الذي تريده ؟.
- لا ... شكراً , فقط أريد أن تزيد من سرعة السيارة - قال ذلك وهو بتصبب عرقاً – والتزم الصمت .
بعد حين صمتت هدير السيارة و توقفت إمام هنكار تحيطها خضرة مكسوة بلآلئ بيضاء , تسو رها أشجار دوار الشمس الزاهية , حيث يبدو للمرء وكأنه أمام لوحة جميلة تذكرنا بلوحة الفنان فان كوخ .
لاحظ السائق علامات الخوف والوجل مازالت مسيطر ة على حالته بالرغم من وصوله بالسلامة إلى كوخه وعيونه الذاهلة من حين إلى آخر ينظر إلى تلك الشرايين الترابية المؤدية إلى بيته , قدم ثانية خدماته ومساعدته , إلا انه لم يرد ببنت شفة حيث أخرج من جيوبه النقود ووضعها بيد السائق واتجه إلى الباب بدون أن يشكره أو يستقبله بكأس شاي , مثلما يفعل القرويين الكرام .
تلمس السائق مقبض علبة السرعة وشفط السيارة بحركة جنونية غاضبا من تصرفه الغير لائق .
خرج أولاده فرحين بعودته من المدينة وهم يتلقفون تلك الأكياس المرمية على الأرض ولكنهم لاحظوا عليه تلك العلامات المحبطة والميؤسة و التي ذكرتهم بأيامهم المريرة عندما كانوا في قريتهم .
أسرع أحدهم إلى والدته لأخبارها بحالة والدهم , رمت ما بيدها وخرجت مسرعة الخطى وهي تردد ( عندما ذهب إلى المدينة لم يشكو من شيء , أترى قد تشاجر مع صاحب الأرض , أعرف المزارعين الملاكين لايشبعون , أنهم كالجراد , يأكلون الأخضر واليابس , يستلفون النقود من كل الناس وعند الحساب يقولون إنتاجنا كان خاسرا أو أن المصرف حجز على الأموال ) . دنت منه متسائلة :
- ما بك يا رجل ...؟ ماذا حصل لك ...؟
- وبصوت خافت رد :لا شيء ...لاشيء .
- كيف لا شيء ووجهك أصفر كالليمون .
- كل ما هنالك تعبت من السفر .
- أي سفر يا رجل ؟! وهل تحسب مدة ربع ساعة سفر , لولا الخجل من الناس بإمكانك الذهاب سيرا على الأقدام , المدينة قريبة , إنها رمية حجر , ثم أنك تعمل في الأرض ليلا نهارا ولم يصيبك مما أصابك ألآن , أنت منهار تماما , انظر إلى نفسك في المرآة , أكيد تشاجرت مع المالك , أليس كذلك ؟
- (هز رأسه ) ... نعم ..نعم ..تشاجرت معه , ارتحت ألان ...؟ اذهبي وافرشي أن رأسي يؤلمني سآخذ قسطاً من الراحة وإذا غفوت لا أحد يستيقظني , والتفت إلى أولاده قائلاً : هل فهمتم ...؟
ما أن أغمض عينيه , حتى رآه منتصبا أمامه بلباس أسود فاحم وبلهجته المعتادة حيث فتح قاموسه المليء بالشتائم ومصطلحا ته التي يجعل من المرء أن يندم طيلة حياته بأنه جاء على وجه الخليقة . وفي قبضته الحديدية كبلا رباعيا لايعرف مذاقه إلا من كتب عليه الشقاء .
- لماذا هربت مني ولا..؟ هل تعتقد بأنك ستنفذ بجلدك إذا هاجرت إلى محافظة ثانية ولا , لا.. يا (.......) أمثالك لو تخبوا تحت سابع أرض , لو بدنا ... نجرك مثل (الك........)
- بس يا سيدي ...
- قاطعه – لا تبسبس ولا , شو نسيت أصول ألحكي , بهالسرعة .
- ياسيدي صار لي أربع سنوات بعيد عن أهلي , نسيت كل شيء . وأنت لاحقتني إلى هنا ؟ تركت أرضي وقريتي وصرت فلاح عند العالم ولسه عم تحاسبونني على شيء ما بفهم منه , أنا غير الأرض والزراعة ما بعرف شي , صدقني يا سيدي أنا بخاف من ظلي . هات يدك أبوسها. يا ناس اتركوني بحالي والله العظيم نسيت .
- بس نحنا مابننسى شيء , كلو في اللوح المحفوظ , الارشبف جاهز وما نكذب .
- قال في سره : صحيح ما تكذبوا بس التلفيق على أبو جنب .
- شو قلت ولا .
- لا ياسيدي ما قلت شي .
- شو ولا , عم تكذب كمان , شو قلت في سرك , نحن عم نلفق على أبو جنب ولا , ورفع سوطه . دوى صريخه عاليا وهو يتوسل طالباً الرحمة والسماح و بحرقة يقول : أنا كذاب , ياسيدي كذاب ابن كذاب .
ارتعبت زوجته وأولاده من ذاك الصريخ وتوجهوا إليه وانتشلوه من الفراش مذعورين من حالة معينهم وهو مبلول بالعرق.
 
أعلى