ملحمة مموزين

الوفاء

انتهت الشمس إلى مغيبها ، وعادت فلول الناس الذين كانوا غائبين في الرياض إلى بيوتهم ، ودبت الحياة في المدينة ثانية بعد الوجوم الطويل ، والحبيبان السعيدان لا يزالان في مجلسهما ذاك ، منتشيين بخمر اللقاء ، وغاب عن فكرهما معنى الزمن وحدوده فلا يشعر أحدهما منه بشيء .
وعاد الأمير وصحبه من الصيد .. وجاءوا يؤمون الحديقة ليطلقوا في أنحائها ما صادوه من الغزلان والخشاف ونحو ذلك ... وامتلأت الحديقة بالناس .. وثارت الأصواتوالضجة في كل جهاتها ، والحبيبان لا يزالان في غشية تامة عن كل ما يطوف حولهما .
وأحس الأمير وهو واقف مع صحبه فيإحدى جهات الحديقة بالتعب يسري في مفاصله ، وشعر بالحاجة إلى أن يستريح مع صحبه قليلا فتوجهوا حميعا وفيهم تاج الدين وشقيقاه وبكر إلى القاعة .. القاعة التي لا يزال ممو وزين يتبادلان فيغبش ظلامهما حديث الحب في ذهول عن كل شيء . ولم يستيقظا من نشوتهما تلك إلا حينما داهمتهما الأشباح .. وأغلقت أمام عينيهما فضاء باب القاعة ...!
هنالك انتبه كل منهما إلى ما حوله .. وأسقط في أيديهما ...
وهنالك .. لم يكن من زين إلا أن اندست تحت عباءة ممو وتضائلت خلفه . بينما دخل الأمير الفاعة ، ومن خلفه جماعته ، ليجدوا شبحا منزويا في ركن من أركانها وسط ذلك الغبش من الظلام ...! فصرخ الأمير فيه قائلا :
’’ من هذا القابع هنا ، وسط هذه الظلمة ، من غير أي رخصة أو استئذان ...؟‘‘
فاستجمع ممو جرأته ، ثم قال ، دون أن يتحرك من مكانه :
’’ أنا ممو يا مولاي الأمير ... لم يكن يخفى على مولاي أنني كنت أعاني إلى هذا اليوم مرضا شديدا أقعدني فيالفراش ، مما منعني عناللحوق بركب مولاي إلى الصيد . غير أنه أدركتني في هذه الأمسية وحشة الإنفراد ، فغادرت الفراش لأمشي قليلا .. ووجدتني أمام هذه الحديقة .. فاشتهيت الراحة فيها بضع دقائق ..‘‘
فقال له الأمير ، وهو يتوجه إلى الركن الأعلى في المكان ليجلس فيه :
’’ حسنا . وكيف حالك اليوم ...؟ وهلا أسرجت لنفسك ...؟؟ ‘‘
فقال : ’’ لو وجدت في نفسي الطاقة إلى ذلك لقمت بواجب التحية .. ونهضت من مكاني لقدوم مولاي .. ولكن أرجو أن يعذرني ويعفو عن تقصيري ..‘‘
وأسرج المكان وجلس القوم .. وأخذ تاج الدين يلحظ ممو من مكانه في المجلس ، ويقرأ في وجهه وفي هيأة جلوسه وجمودها دلائل ارتباك لم ينتبه غيره إليها ، إذ كان هو الوحيد الذي يدري سر قلبه وآلام نفسه ، وساوره القلق .. وتطلعت نفسه إلى نعرفة السر الحقيقي لجلوس ممو هنا ... في هذا الوقت ... بهذا الشكل !! فانتهز فرصة طلب الأمير كأسا من الماء بينما راحت عيناه تسألانه عن حكايته وسره .. فلم يكن من ممو إلا أن مد يده في هدوء إلى داخل العبائة ، وأخرج له طرفا من ضفيرة زين يريه إياها ..
فرفع تاج الدين رأسه وقد أذهله الأمر .. وأدرك أن خليله بين يدي كارثة قريبة .. ما من ريب فيأنها ستأتي على حياته . وأخذ حاول السيطرة والضغط على أعصابه ليتصنع الهدوء اللازم ، بينما راح عقله يبحث في ثورة لاهبة عن أي وسيلة لإنقاذ حياة صديقه من فاجعة محققة .
ولاحت لذهنه الفكرة ... فكرو واحدة لم يجد أمامه سواها فتظاهر في لباقة بالحاجة إلى الإختفاء قليلا في بعض جهات القصر . وما هو إلا أن انثنى خلف باب القاعة حتى أسلم ساقيه إلى الريح متجها نحو داره ..!
ودخل الدار لاهثا ، وعلى ملامح وجهه ثورة كالجنون . فاستقبلته زوجته في رعب شديد ودهشة قائلة :
’’ ماذا . ..ماذا حدث هل هناك أي عدو ؟! ‘‘
فأجابها بصوت خافت كي لا يسمعه أحد وهو يسرع إلى الداخل :
’’ عليك أن تسرعي بإنقاذ طفلك وما خف حمله من هنا . أما أنا فيجب أن أبادر إلى إحراق هذا القصر ..! ‘‘
ثم تابع حديثه وهو في عجلة مضطربة نحو مكان الوقود قائلا :
’’ إن ممو و زين واقعان تحت ورطة عظيمة ، في انتظار كارثة محققة توشك أن تقع بهما . ولا بد أن أسرع في مسابقة هذه الكارثة لأقضي عليها قبل أن تقضي هي عليهما ..‘‘
ثم راح يشعل النار في أثاث ذلك القصر الرائع وجنباته بسرعة ثائرة وهو يقول :
’’ لقد ظل الناس يطفئون النار بالماء ، ولكن ها أنا اليوم سأطفى النار بالنار ...‘‘
وفي مثل غمضة عين انطلقت ألسنة اللهب تتصاعد من نوافذ ذلك الصرح الذي شيده تاج الدين على أحسن ما تخيلته أحلام حبه جمالا وبذخا وإتقانا ، وأخذت النيران تسري في ذلك الأبنوس المنقوش والأثاث الرائع ، في سبيل إنقاذ صديقه .. والوفاء له ..!
وانطلق تاج الدين يستنجد .. وراح الخبر يسري في كل مكان .. وسرعان ما وصل النبأ إلى الأمير وصحبه وهم في مجلسهم ذلك .. فهبوا جميعا في اندفاع وذهول يسرعون إلى النجدة والإطفاء .. بينما تباطأ ممو في مجلسه إلى أن خلت القاعة تماما .. وهناك تنفس الصعداء والتفت إلى زين قائلا :
’’ أرأيت كيف ضحى تاج الدين بقصره من أجل إنقاذنا ؟! والآن وداعا يا زين .. فعلي أن أدرك القوم لإطفاء هذه النار ، أما أنت فينبغي أن تسرعي الآن وتعودي إلى القصر
 
وقفة عابرة

أيها الساقي حسبي ... حسبي فإن العقل لا يزال مخمورا ويوم عمري قد أدركه المغيب ، وأخشى أن يداهمني سلطان الأجل كما داهم الأمير ممو ثم لا أجد من حولي خليلا وفيا مثل تاج الدين ينجيني وينقذني ..
أيها الساقي ، لقد عفت والله كؤوس هذه الأوهام الكاذبة .. فأبعدها عن شفتي .. أبعدها ، فلقد كفاني عربدة حول بريق هذا السراب .. أبعدها ويحك قبل أن يطرحني وهج الشمس أمام رقراقه الكاذب ، ويتلفني هناك الظمأ والضنى ...
ولكن .. ولكن حدثني ، أليس بين زجاجاتك هذه ما فيه تلك الخمرة الأخرى ..؟ تلك الخمرة التي تعلو بي إلى رحاب القدس ، وتسكرني بروعة الجمال الخالد .. وتنشلني من بين هذه الأوهام الفانية وبريقها الخداع .
آه ما أحوجني إلى كأس قد اعتصرت من جنى الروح الصافية عن شوائب الدنيا .. ما أحوجني إلى كأس تسكرني سكرة تاج الدين بخمر إخلاصه ونشوة وفائه ، لكي أعلو بها فوق هام هذه المادة ، وأسحق بريقها تحت قدمي في سبيل الروح التي أعزها ، والوفاء الذي أدين به .
ماذا يفيدني تألق القصر الذي ضمني ، وبريق السرير الذي أمتد عليه ، إذا كانت الروح التي يصافحها قلبي قد أشرقت على الانطفاء ثم لم أفدها بنور ذلك القصر والزينة والسرير ؟ وماذا يضيرني من اللهب المتصاعد من حولي ، إذا كان بعيدا عن قلبي تاركا له برد سلامته وذخيرة حبه ؟.
هذه المادة الفانية ، ما أثمنها في القلب ، وأبعثها للنشوة في النفس ، عندما تكون فداء للمعاني القدسية الخالدة . وما أخسها في اليد وأهونها على هذه الأرض عندما تتكبر متطاولة إلى مركز البقاء والخلود ...
 
عودة الفتنة

لم يكن سلطان الحب يوما ليجلس فوق عرش القلوب من وراء الستر المرخاة والحجب المسدلة . وليطل وقت اختفائه عن الأنظار والأسماع مهما طال ، فلا بد أخيرا أن يهتك كل ما يحيط به من حجب ، ولا بد أن يتراءى أمام الناس في جبروته القوي ، وسلطانه القاهر ، ولا بد أخيرا أن يعلن عن نفسه وعن شوكته سواء أرضي الناس أم غضبوا ...
ولقد استطاع ممو وزين حينا من الزمن أن يخفيا عن الناس سريرة حبهما ، وأن يحجبا عنهم جبروت هذا السلطان الذي يتحكم في قلب كل منهما من غير رحمة ، ولكن هذه الطاقة لم تدم لهما طويلا .. فسرعان ما هتك من حول قلبيهما الستر ، وانترثرت مدامعهما بين أبصار الناس ، وراحت الألسن تتحدث عن حبهما ، وتتخذ من خبرهما لحنا يسري إلى كل مكان ، وينتهي إلى سمع السادة والعبيد ، وراحت التعليقات المتخيلة تنسج حول ذينك المسكينين البريئين اللذين لم يذوقا من الحب إلا صابه وعلقمه أقاويل كاذبة . وتسرب الخبر إلى ’’ بكر ‘‘ .
تسرب الخبر أيضا إلى سمع هذا الحبيث ، فراح يلفقه ويجمع خيوطه ويجري وراء الإيضاحات اللازمة له . وفي يوم ما كان قد انتهز الفرصة ، وراح ينشر كل ما سمعه من الأفواه ، وتلقفه من المجالس بين يدي الأمير وسمعه ...!
فثار جنون الأمير - ويا لجنون الأمراء حين يثور - واشتعل الدم لهيبا في كل جسمه ، وراحت عيناه المتألقتان تشعان بشرر يكاد يحرق ما حوله ، وقام يذرع المكان الذي ليس فيه إلا هو وذلك الخبيث جيئة وذهابا ، وتقلبت على ذهنه المستعر أفكار جهنمية شتى . فقد كان يدفعه الغيظ مرة إلى أن ينطلق من توِّه بنفسه إلى حيث يجد ممو منفردا فيطير رأسه ، ثم يعود دون أن يعلم بالأمر أحد ، ويدعوه جنونه أخرى إلى أن يعلنها حربا لاهبة على ممو وصاحبه تاج الدين وكل أعوانهما .
ولكنه عاد أخيرا ، فتذكر أن هذا الذي يخبره بهذا النبأ حاجب حقير فتان . لا يستأهل إثارة غضبه قبل أن يتريث ويتحقق . فنظر إليه وقد راحت عيناه تنفجران بكل تلك الثورة والغضبة عليه وحده قائلا :
’’ يبدو أيها الحقير الوغد ، أنه يعجبك كثيرا منظر الدماء المسفوكة ..! ولكن إعلم أن هذه الدماء لن تسفك إلا من مذابحك ، إن لم تخلق أمامي البرهان القاطع لهذا الذي تقول ‘‘.
فجمدت ملامح بكر قليلا ، وزاغ عقله من صدمة ذلك التهديد .. ثم عاد فتمالك رشده قائلا :
’’ يستطيع مولاي أن يتحقق من هذا الذي أقول إذا دعا ممو إلى مبارزة بالشطرنج الذي يفتخر بالمهارة في لعبه . وليكن الشرط بينه وبين مولاي أن يحقق المغلوب للغالب كل ما يقترحه ويتمناه . فسوف يضطر إلى كشف ذات نفسه وعشقه للأميرة زين سواء أصبح غالبا أم مغلوبا عندما يطلب منه مولاي ذلك ..‘‘
فأعجب الأميربهذا الرأي .. وسرعان ما التفت فدعا خدمه ، وأمرهم بإعداد القاعة الكبرى - وهي القاعة التي كان يتخذ فيها مجلسه للهو والمرح - وتهيئتها لسمر حافل تلك الليلة ، بينما بعث بعض غلمانه الآخرين وراء ممو ليأتوه به ، ويبلغوه دعوة الأمير له للحضور إلى سمر في القصر ...
وراح الأمير ينتظر .. وفي قلبه مثل الجمر اللاهب ، ودمه يغلي في رأسه . إنه في ظمأ شديد إلى أن يعرف .. إلى أن يعرف حقيقة هذه العاصفة التي نقلها له بكر ، لكي يشفي بعد ذلك غيظه ، ويتصرف في الأمر على النحو الذي يشاء ...
وجاء المساء . وهيئ مجلس الأمير كما أراد .. ووضعت منضدة الشطرنج المرصعة بالذهب في وسط المكان ، وقد صفت من فوقها أحجارها العاجية النادرة . وامتلأت القاعة بالخاصة من حاشية الأمير ورجاله ، إلا تاج الدين وشقيقيه ، فقد تعمد الأمير أن لا يبعث ورائهم . وغصت سائر أطرافها بالحرس والخدم ، واقفين على أرجلهم صفوفا في أحسن لباسهم وكامل أسلحتهم .
ودخل الأمير . وهب المجلس قائما ، بينما راح هو يأخذ طريقه إلى الأريكة المقامة له في صدر المجلس . وجلس الأمير .. وسكت الحاضرون .. وأخذ يقلب عينيه فيهم في هدوء ورهبة إلى أن وقع بصره على ممو ، فمد إليه رأسه وقد إتكأ على جانب من أريكته قائلا :
’’ سمعنا أنك تزعم لنفسك مهارة في لعب الشطرنج يا ممو . فهل لك أن تعرض أمامنا الليلة مهارتك هذه ، وتقوم لنا بالمبارزة والنضال .‘‘
فأجاب ممو في هدوء ، وقد أدهشته القسوة التي شعر بها في نبرات كلامه : ’’ لم يكن لي يوما ما أدعي يا مولاي أمامكم هذه المهارة ، ولكن لمولاي السمع والطاعة إذا أمرني بما شاء ‘‘.
فنهض الأمير إلى منضدة الشطرنج يشيرإليه ، قائلا :
’’ بل قم .. فإن بيننا وبينك الليلة حربا لا بد أن تتقدم إليها ...‘‘
وقام ممو من مجلسه وقد أوجس خيفة في نفسه .. فجلس تلقاء الأمير ومن بينهما المنضدة . وقبل أن يبدأ باللعب قال له الأمير :
’’ إن الشرط الذي بيننا وبينك هو أنه يجب على الطرف المغلوب ثلاث مرات أن يحقق كل ما يقترحه الطرف الغالب ويتمناه ‘‘
وكان في المجلس ابن شاب للأمير يخلص الود لممو اسمه ’’ كركون ‘‘ ولم يكن يخفى عليه ما بينه وبين عمته زين من الحب .. وقد ألم بطرف مما في نفس أبيه من الموجدة عليه ، وخشي أن ينتهي ذلك المجلس بأي عقاب أو بلاء ينزل بممو . فتسلل من قصره ، وانطلق متوجها إلى تاج الدين يخبره بالأمر ، كيما يحضر ليهون الأمر إذا حدث شيء ، بما له من قرب إلى الأمير .
ولم تكن سوى دقائق حتى كان كل من تاج الدين وجكو وعارف قد اتخذ مكانه في ذلك المجلس ، يترقبون ما سيحدث ...
وتغلب ممو على الأمير مرتين متواليتين .. وأخذا يبدآن بالمرة الثالثة وقد أعجب الأمير بدهائه ومهارته ، وبدا على وجه ممو وهو منكب على اللعب في استغراق شديد إشراق واضح من الأمل والسرور .
بينما راح بكر الذي كان يرمقه من بعيد ، يطوف حول نفسه في قلق بحثا عن أي حيلة يتعثر بها ممو عن التغلب على الأمير في هذه المرة . إذ لا شك أن نجاحه يعني ضرورة وفاء الأمير له بالوعد ، وذلك يعني زواج ممو من زين ...
وفي تلك الأثناء لمح بكر زينا واقفة مع فتيات من القصر أمام النافذه المطلة من أعلى جدار القاعة المقابل لظهر ممو ، ترقب اللعب باهتمام .. فالتفت إلى الأمير قائلا :
’’ ولكن كان على مولاي أن يستبدل المكان من خصمه بين حين وآخر كما هو الشأن في اللعب ...‘‘
فنهض كل من المتبارزين ، واستبدلا مكانيهما دون أن يدرك أحد الحيلة التي استهدفها .. وما إن مرت لحظات حتى انخطفت عينا ممو إلى أعلى جدار القاعة الذي يقابله ، ليجد زينا واقفة أمامه ترمقه
وهنالك تشتت ذهنه ، وعبثا راح يحاول جمع فكره والتغلب على الأمير كانت عيناه لا تنفكان عالقتين بالاعلى ، ويده تعثو بالعساكر والفرسان من غير هدى ، يفدي الجنود مرة بالخيول ، ويخلط أخرى بين الفيل والوزير وكانت النتيجة أن تغلب الأمير عليه خمس مرات متواليات وختم اللعب على ذلك !
وعاد الأمير إلى مكانه وقد غشي ممو الخجل والحياء فنظر إليه قائلا :
’’ إيه أنسيت الشرط يا ممو ؟‘‘
فأجابه ممو وقد توزعت أحساسيسه بين الغضب من المكيدة التي انتبه إليها والخجل من الإخفاق الذي انتهى إليه :
’’ لا ...فليتفضل مولاي بالأمر بما أشاء .. ‘‘
فقال له الأمير :’’ إنك لست تجهل أننا لن نطلب منك مالا تغنينا به ، أو جاها ترفعنا إليه . و إنما يعنينا أن نعرف السرائر ... فحدثنا عن قلبك . قل لنا من هي التي تكن لها حبا ، وتمني شبابك بها ، كي ننظر .. فإن كانت لائقة لك ، حاولنا إسعادك بها ...‘‘
فأطرق ممو قليلا ، كأنما أخذت نفسه تحوم حول تفسير هذه الكلمات التي ألقيت إليه . وانتهز بكر فرصة هذه الإطراقة منه ، فقال :
’’ يا مولاي : يبدو أن ممو خجل من أن يكشف للأمير النقاب عن تلك التي يهواها . فلقد كنت رأيتها مرة ، وعلمت أنها جارية سوداء معيبة ، لا يليق أن يتحدث عنها في مجلس الأمير ...‘‘
فأثار هذا الكلام غضب ممو ، والهبته حميته وإبائه ، وأخذ ينبض في مشاعره عرق العزة والمجد . وأسكرت الطعنة عقله . فنسي الأمير الذي أمامه ، والناس الذين من حوله ، وانتفض منتشيا يقول لبكر :
كذبت والله أيها الحقير النذل ، فما تلك الصفة إلا قرينة خستك ، وكفؤ دنائتك . أما التي عندها قلبي ، فرفيعة المجد ، ليس لذلك البدر أن يتسامى إليها ، رائعة الجمال ، لا تبلغ الشمس أن تكون أختا لها ... أصيلة النسب ليس لغيرها في هذه البلاد أن ينازعها فخر ذلك . إنها أكمل أنثى أبدعتها يد الخلاق .
إنها ... إنها أميرة هذه الجزيرة ...! ‘‘
وما كاد أن يطلق هذه الكلمة الأخيرة من فمه حتى قاطعه الأمير وقد صوب نحوه فوهة الغضب قائلا :
’’ ولأجل ذلك ، فأنت لا تخجل من استطالتك إلى تلك المكانة بالغرام بها ، مدنسا بدنائتك قصري هذا ...؟‘‘
ثم التفت إلى الحرس الواقفين على الأبواب وصرخ فيهم قائلا :
’’ ما وقوفكم وانتظاركم بعد هذا ؟ هيا .. فاقطعوا الرأس الذي تطاول فيه هذا اللسان فقد آن أن يعتبر بع غيره ...‘‘
وقبل أن ينقض الحرس على ممو ، هب من عرض المجلس ثلاثة أبطال أشقاء ، كل منهم هامة ، وساعد ، وقامة ..! وقد ظهر في يمين كل منهم خنجر يلتهب . وراح أوسطهم وهو تاج الدين يصعق في أولئك الشرطة الذين بادروا إلى ممو .. قائلا :
’’ مكانكم أيها الاوغاد ، فلستم سكارى ولا مجانين حتى تتجاهلو بطشنا ! أم أنكم نسيتم ذلك الكثير الذي لاقيتموه من أيدينا ...؟
ربما تستطيعون أن تصلوا إلى ممو ، ولكن بعد أن نحقن ما حوله بلجة من دمائكم ، وتتخذوا إليه جسرا من مئات منكم ..‘‘
ثم دار رأسه نحو الأمير ، يرمقه بطرف عينه قائلا :
’’ أما مولانا الامير .. فله إذا شاء التصرف أن يتصرف فيما يريد بنفسه .. فإن له في أيدينا قيودا من نعمته وسلطانه ... قد لا يكون من المناسب أن ننكرها ..‘‘
وبعد قليل نهض الأمير بنفسه إلى ممو فقيد يديه ، وأمر به إلى السجن ..! وسكت تاج الدين وشقيقاه وقد تجرعوا غصة السم نزل إلى قلوبهم . ولكنهم لم يجدوا من الحكمة - وقد نزل الامير في حكمه من القتل إلى الحبس - أن يلحوا في العناد مرة واحدة ورأوا أن يرجئوا محاولة العفو عنه إلى وقت أخر يكون الأمير فيه أهدأ ثورة وأخف غضبا .
ثم فض المجلس ، وانصرف الناس في وجوم و حزن . بينما كان ممو يتخذ طريقه إلى قاع السجن !
 
صفاء الروح

حكم الفلك أزلي قديم ، وإصرار الدهر قضاء لا يتراجع ، وأمر الله قدر لا بد له من نفاذ .
فماذا يغني التأوه ولضجر ، وأي فائدة يجني الألم والتوجه ، وأي نتيجة تأتي بها القوة والانفعال إذا كانت سطور القضاء حاكمة بالبؤس والسجن والحرمان ؟!
على أن السجن الذي انتهى القدر بممو إليه لم يكن كأي سجن آخر ، وإنما كان مغارة ممتدة في قاع الأرض ، ضيقة الأعلى متسعة الأسفل لا يكاد يمتد شيء من ضياء الدنيا أو نور الشمس إلى داخلها ، اللهم إلا من تلك الكوة العليا ، التي هي وحدها الباب والنافذة والمنور وكل شيء .
وأنزل ممو إلى قاع الزنزانة التي استقبلته مظلمة موحشة خالية من أي أحد غيره . فالتف حول عينيه الظلام الذي داهمه ولم يعد يبصرشيئا سوى أشبح السواد المدلهمة المطبقة من حوله ، فجمد قليلا في مكانه بين ذلك الظلام الدامس ، وراح يخطو في حذر متلمسا بيديه الهواء ، إلى أن مسّتا الزنزانة وهناك وقف مستندا إليه ، وقد ترنح بين أمواج من الذكريات أخذت تنبعث من نفسه البائسة ...
تكر شبابه الغص وقوته النابضة ... عزته وبأسه .. إذ كان هو وتاج الدين من أسعد الناس ، ولم يكن قد مس قلبيهما شيء من هذه الآلام . ثم تذكر ميلاد هذا الشقاء في قلبه ، ويومه البهيج المرح الذي قضياه معا ، والسكرة التي غشيتهما في مسائه ...
وتذكر الآلام .. والآمال التي ترعرعت في نفسه ، والتي شبت وأخذت تزدهر في قلبه أيام فرح تاج الدين وليالي عرسه وكيف كان يمني نفسه بمثل تلك البهجة والأفراح في عرسه هو أيضا ... وتذكر بعد ذلك خيبة آماله ، وتصدع قلبه .. قلبه الذي لم يرحمه أحد ، ولم يعطف عليه إنسان ، وراح يستعرض الليالي التي أحياها بالزفرات على ضفاف دجلة ، حيث لا مخلوق يبصره أو يشعر به ، والدموع التي قرحت عينيه ، وروى بها الآكام والسفوح ، حيث لم تكن هناك أي عين أخرى تواسيه بدمعة ! ثم تلك السويعات الجميلة ... التي كانت كل أيام سعادته من دنياه ، والتي شهدتها نسمات ذلك الروض وورده . ثم تصور كيف عاد الليل بعد ذلك إلى قلبه فأغطش .. وراح يكابد ألوان الشقاء الذي كتبه له الدهر : هذا الظلم له من الناس دون أي جريرة أو موبقة ارتكبها .. افتراآتهم عليه ، واستعانتهم بدموعه وآلامه .. وضع شباك المكر والفتنة في طريق سعادته .. وأخيرا هذا الغضب عليه من الأمير .. الأمير الذي لم يترك له فوق بؤسه وحرمانه حتى حريته التي كان يهيم بها على وجهه ، ليسري عن نفسه بمظاهر الطبيعة التي كانت الشيء الوحيد الذي له أن يشارك الناس في رؤيته والاستمتاع به . لقد أبى إلا أن يعصب عينيه بهذا الظلام حتى لا يرى شيئا من ذلك ، وأبى إلا أن يحبسه في هذه الموحشة حتى لا يجد الأنس إلى قلبه أي سبيل .
وما إن راح يستعرض في فكره كل هذا .. حتى رق قلبه عليه ، وأدركته الرحمة لنفسه ، وراح يبلل ثرى تلك الأرض بدموع أليمة يبكي فيها عمره الذي ضاع ، وأمله الذي خاب ، وقلبه الدامي الذي سحقته الأقدام .
ثم التفت حوله ، وقد أخذت أطراف الزنزانة وجدرانها السود تلوح لعينيه ، وترائت تحت بصره أرضها العفراء اليابسة خالية من أي شيء يستند إليه الجنب ، إلا دكة ترابية صغيرة في ناحية منها ، يمتد عليها بساط مهلهل .
وأدار بصره الذي غشاه الدمع في سائر تلك الأطراف ، كأنما يبحث عن أي شيء يتخيل فيه الرحمة والعطف ، ليتعلق به ويبثه كربه ولكن الزنزانة السوداء قطعة واحدة صماء ، لا تسمع صوتا ولا تفهم نحيبا . فانقطع من نفسه إذ ذاك آخر خيط من أنسه بالدنيا ومن فيها ، ولم يجد أمامه إلا السماء .. السماء التي هي وحدها مثابة المكروبين ومآل البائسين والمظلومين . فرفع رأسه ونظر بعينيه إلى الأعلى نظرة بعث فيها كل آماله وزفراته المتجمعة بين جنبيه قائلا :
’’ رباه ألست تبصرني ..؟
ألست تبصرني ، وأنا عبدك الضعيف ، كيف أذوب بين كل هذه الآلام التي لا أطيقها ...؟
رباه إن عبيدك في الأرض لم يرقوا لحالي ولتعاستي وشقائي ، وإنما سحقوا جراحي ، كما ترى ، في التراب ، وحرموني حتى من الزاد الذي أتبلغ به في طريق فنائي . فارحمني أنت يا رب ، فوحقك لن أتوسل بعد اليوم إلى غيرك ، ولن أسكب دموعي إلا بين يديك ، ولن أتذلل إلا لجلالتك ...‘‘
ولم يطبق جفنيه على هذه النظرة والكلمات التي قالها إلا وقد سرت إلى نفسه روح جديدة ، أخذت تمتد من وراء ضلوعه كما يمتد لسان من النور المتوهج بين تلافيف الظلام ، ولمست قلبه لمسة بعثت فيه بردا من الراحة والهدوء ، واضمحلت تلك الوحشة القائمة من حوله في روح من الأنس الغريب ..
وما إن شعر بكل هذا في نفسه ومن حوله حتى عاد فرفع رأسه وقد قام مستندا إلى جدار الزنزانة ، يناجي الله سبحانه قائلا :
’’ إلهي ، لقد اهتديت إلى لطفك إذ فقدت الدنيا كل أسبابها وآمالها ، فوحق وجهك لن أحيد عن بابك بعد اليوم وإن عادت إلي الدنيا بكل ما فيها . فليظلمني الظالمون ، وليكد من أجلي الكائدون ، وليشعلوا قلبي بما شاؤوا من نارهم ، وليحبسوني في الظلمات وفي أوكار الوحوش . فوحق ربوبيتك التي لم أبرح ساجدا لها ، إن ذلك كله لا يضيرني في شيء ولا يقطع قلبي أوهى خيط من خيوط آماله .
ما أعذب إلى نفسي الصبر .. ما دمت أستمتع بهديك الذي يشع في روحي ، وما أسهل هذا الظلام ما دمت أجد بين ضلوعي نورك الذي يؤنسني ، وما أهنأ إلى قلبي التعذيب ما دمت محاطا بخفّي رحمتك ولطفك .
أما اليأس .. فهل للدنيا كلها أن تجعل لليأس سبيلا إلى قلبي ؟ّ أقسم بالقدّ الذي سبيتني باعتداله ، أقسم باللحظ التي أسكرتني بجمله ، أقسم بالنور الذي أضرمته علي نارا ، أقسم بالحسن الذي لم أذق منه إلا علقما وصابا ، أقسم بكل ذلك أن هذا العذاب مهما أفقدني الهدوء والقرار ، فإنه لن يفقدني الأمل في الوصال حتى ولو أسدلوا بيني و بينه حجاب الموت ! فما أجمل أن يسعد بمناه في ظل خلدك وتحت جناح لطفك .
ولماذا لن يسعد ...؟ وهما وحقك يا مولاي ، كما تعلم ، روحان طاهرتان عفيفتان ، لم يتزودا من هذه الدنيا إلا بسعيرها وبؤسها ، تقدمان إلى رحاب الملك الخبير اللطف ، ذي الرحمة الواسعة ، والعدل الشامل .
واشوقاه يا مولاي إلى ذلك اليوم ...! إذ نمضي إلى رحابك ، فتمسح بيمين لطفك عن كلينا مدامع الظالمين ، وتضمنا بين ذراعي رحمتك ، آمنين مقبولين ..‘‘
وهكذا أخذ يهبط إلى قلب ممو ، وهو في قعر تلك الموحشة ، أنس إلهي يحف به ويخفف من آلامه وأحزانه ، بعد أن انقطعت صلته من المخلوقين واستبد به اليأس منهم . وبمقدار انصرافه ويأسه من الدنيا ومن فيها أخذت تعظم صلته بالله تعالى وتتعلق آماله به وحده . فاتخذ من مغارته تلك صومعة لا يفتأ يناجي فيها الله تعالى ، ويتعبده لياليه وأيامه . يدخل إليه حارسه لإحضار طعامه إليه فلا يجده إلا قائما في صلاة أو ساجدا في مناجاة ...
وأخذ جسمه يهبط إلى الرقة والذوبان بينما أخذت روحه تشب نحو القوة والطوق . وكلما راح منه الجسم نحو الرقة والإضمحلال وانطلقت روحه نحو الإنتعاش والقوة ، ازداد غيبوبة عن الدنيا وأسبابها وتعلقاً بالسماء ومعانيها إلى أن غذا ذلك الهيكل الجسمي منه لعبة في يد الروح تصرفه كما تشاء ، وبدأت المادة تضمحل في سلطانها فلم يعد للزفرات في الجسم معناها المحرق ، ولا لسعير الفراق في الكبد أثره المذيب .
وبدأت الروح ترقب في شوق ولهفة شيئا واحدا .. وهو الإنطلاق لا من زنزانة السجن إلى الدنيا ، ولكن من قفص ذلك الجسم إلى الرحاب التي هيئت له
 
اليأس

لم تكن زين قبل أن يصير ممو إلى هذه النهاية ، يائسة من السعادة .. رغم ما كانت تكابده من الآلام . فقد كان لها أمل كبير في أن تنال هي الأخرى مع ممو آمال قلبها ، كما نالت أختها ستي مع تاج الدين . ولكن ما أن علمت بذلك العقاب الشديد الذي أنزله الأمير بممو .. ذلك العقاب الذي جاء فدية له من القتل ! حتى بتر من قلبه كل ما كان يمتد فيه من عروق الأمل ، وأخذ فؤادها ينزف باللهب وخنقتها العبرات ، وضاقت رحاب الدنيا أمام عينيها . و كأنما أطبق عليها ذلك القصر ونعيمه والتصق بخناقها ، فلم تعد تشعر من حولها حتى بالهواء الذي تملأ به رئتيها . وتجمعت على مشاعرها آلام عدة .. أقلها يذيب النفس .
كانت تتوجع مرة لمصير ممو وتبكي وحشته وانفراده في ذلك البئر .. وتتألم أخرى من أنه ربما يتخيل وهو في عذابه ذالك أنها سعيدة في رحاب هذا الصرح ، تتقلب في نعيم الحرية والإنطلاق . ثم تتألم لنفسها ، ولغروب آمالها ، ومن أنها لم تعد تبصر بقية أيام عمرها أي بريق من الرجاء والأمل . ثم تعود فتتقلب بين جمر من زفرات شوقها ولواعج حبها .وكثيرا ما كان يمتزج في آلامها هذه معنى الحيرة والتعجب من كل هذا السواد والبؤس في حظها ، فتتسائل قائلة :
’’ أي حكمة ترى يا إلهي تكمن وراء كل هذا الوابل الذي أمطرته على أيامي من التعاسة والشقاء ...؟
مرة واحدة .. لم تدر هذا الفلك نحو إسعادي وتفريح قلبي . يوما واحدا .. لم تدع هذه الدنيا تتألق أيضا في عيني ؟!
أسكرت أولا ذلك المسكين ، وطرحته في وهج من حبي . ثم عكست ذلك الوهج إلى قلبي أيضا ، وتركته يكابد حره ولظاه . أسرجت بيني وبينه الضياء قليلا ، حتى إذ لمحني ولمحته ، وهفا إلي وانصرفت إليه ، أسرعت فأطفأت السراج وأسدلت بيني وبينه الظلام وتركت كلا ما ينطوي على ناره ، وينفرد لشوقه وحرمانه . أقمت من حول أعيننا أفراح الناس وأعراسهم ، بينما تركت وراء جوانحنا مأتما من الأحزان والآلام .
فماذا جنيت يا إلهي ...؟ بل ماذا جنى ذلك المسكين الذي أرسلته .. ليبحث عن آماله في ظلام المقام في باطن الأرض ..؟
ولكن ...
لماذا أعتب .. ولمَ أقول هذا ؟ فقد علمت أن هذه قسمتي من الأزل ، وقد رضيت بها قبل اليوم . وعليّ أن أرضاها اليوم أيضا صابرة شاكرة .
غفارانك اللهم ... لك مني الرضى والقبول بكل ما حكمت به عليّ أقدارك ...‘‘
ويتراءى أما عينيها شبح ممو ، وكأنما ينظر إليها من وراء سجنه ، وهي طليقة في جنبات القصر ، بعين كاسفة ووجه متألم ، فيثير ذلك لواعجها ، وتحدثه قائلة :
’’ أو تحسب يا ممو أن رحب هذا القصر أوسع علي من مضيق سجنك ؟ أو أن إشراق هذه الدنيا من حولي أقل سوادا في ناظري من ظلمتك التي أنت فيها ؟ أو أن شيئا من النعيم الذي حولي يسليني عنك ويشغلني ؟
لا والله يا ممو ... أقسم لك وأنت قبلة فؤادي الولهان ، وأمل روحي الهائمة - أن سعة آفاق الدنيا أماي لا تزيدني إلا حسرة وكربا ، وأن إشراق هذا القصر من حولي لا يبصرني إلا بسواد حظي الحالك ..
نعيمي .. الزفرات التي تشق صدري ، وطعامي .. السُعار الذي يمزق أحشائي ، وشرابي الدموع التي تذيب كبدي . أما فراشي ، فهو ذلك القتاد الذي يظل يدمي مني سويداء القلب ، ليست لي عين يفرغ منها الدمع لتغمض ، ولا شعور تهدأ منه الثورة ليستكين .
هذه حالتي يا ممو وأنا في رحاب هذا القصر ، فقل لي كيف حالك وأنت في غياهب ذلك السجن ..؟
قل لي من هو أنيسك فيذلك الظلام ؟ ومن هو جليسك الذي تشكر إليه الآلام ؟ كيف تقضي الليل ، وأنت لا ترى سمائك كوكبا يواسيك أو يطل عليك ؟! وكيف يمر نهارك دون أن ترى من حولك أي إنسان يحدثك ، أو تمر بك نسمة تنعشك ، أو تبصر أمامك غصنا أو طائرا يسليك ؟
آه لو كان لروحي التي بين جنبي أن تنطلق مرة إلى ذلك الغور لتبصر ذلك المسكين ، وتعود إلي بالخبر عن حالته وصحته وجسمه . أخشى أن يكون الجزع قد استبد به والآلام استحكمت في نفسه فيكون في ذلك المكان قضاؤه .
بل آه لو امتد غضب هذا الأمير إلي أيضا ، فاثقلني بالسلاسل والأغلال وزجني معه في ذلك الظلام . إذا والله لاطلقني من سجن هذه الدنيا إلى رحب الجنان ، وافلتني من قيود هذه النعمة التي حطمتني إلى حيث أستطيع أن أرى فيه سعادتي ، وأدواي ذلك القلب الذي لم يرق لحاله أحد .
ما أشد ظلام هذا اليأس في عيني ، وما أشد خوفي من أن يكون الدهر قد انطوى على آخر لقاء بيني وبين هذا إنسان قلبي ، وقرر أن يحرمني حتى من مشاهدته والإطمئنان على حاله ‘‘
وهكذا أخذت زين تفقد أخيرا بقية ما في جسمها من حول وقوة ، وعافت كل طعام وشراب ، وأضناها الهزال واليأس إلى أن غدت نهبة للعلل والأمراض .
ولم يعد يخفى على أخيها ما تكابده من ألم وحب شديد لممو ولكنه مع ذلك ظل متجاهلا أمرها غير مكترث بحالها فقد كانت سكرة الغيرة والحمية في نفسه قد غشت على عقله وعاطفته حيال هذهين العاشقين ، تلك السكرة التي نفخها في رأسه حاجبه الخبيث ، إذ رماهما له بتهم باطلة ، وأدخله إلى وهمه أن ممو لم يعد يجد مانعا من أن يلوث سمعة قصره بمعاني العشق والغرام بأخته بعد أن رفض أن يزوجه بها .
وانقطع الأمير عن الإلتفات إلى أخته الصغيرة مرة واحدة لا يسأل عنها بكلمة ، ولا يرحمها بنظرة ، بل ولا يحاول أن يمر ولو مرة بجناحها من القصر ليعلم ما حالها وما الذي انتهى إليه أمرها .
 
الثورة

انقضى عام كامل على ممو وهو لا يزال ملقى في سجنه ، ورفيقة شقائه لا تزال تعاني كربها وعلل نفسها وجسمها . وأصدقاؤهما لا يجلو عنهم ذاك الحزن والهم من أجلهما ، لا سيما تاج الدين وستي ، ذاك لا يبارح خياله ممو وهو قابع في وحشة الإنفراد يكابد هذه النهاية التي حكم بها القضاء بعد كل حرمانه وشقائه . وتلك لا تفتأ تتوجع لحالة أختها زين التي تدهورت صحتها وطرحها الضنى والعذاب ، حتى إنها عافت واستثقلت كل مظاهر نعيمها وسعادتها التي آتاها الدهر بعد أن عافت أختها من كل ذلك ونكبها هذه النكبة المريرة . وقد بائت كل محاولات أولئك الأصدقاء لإطلاق سراح ممو والعفو عنه بالخيبة ، فلم يكن أحد ليستطيع أن يستدر بشكل ما عطف الأمير وشفقته عليه .
وفي ليلة صامتة هادئة ... كان أصدقاء ممو كلهم مجتمعين في دار تاج الدين ، تلك الدار التي يعرف الناظر إليها أنها كانت في يوم ما قصرا رائعا .. يتبادلون المشورة والآراء لإيجاد حل حاسم لهذه المشكلة . وقد بلغ بهم الكرب أقصاه ، وانتهى الصبر فيهم إلى آخر مرحلة .
وارتأى بعضهم أن يغدو جميعا مع صبح اليوم التالي إلى الأمير لآخر مرة .. يستشفعونه في ممو ، ويستدرون عطفه .. و يلحون في الرجاء بإطلاقه .. فإن استجاب فذاك وإلا عادوا فقرروا سبيلا آخر أصلب من هذا ...
ولكن عارفاً لم يعجبه الرأي وقال :
’’ إن من الضعف والخور بعد كل الذي عرضناه من رجاء ، وتصنعناه من ذل - أن نعود إلى هذا الإسلوب بعينيه .
إن إخراج ممو من السجن لم يعد يمكن عن طريق الرجاء والكلام في الدواوين ، وإنما يخرجه اليوم شيء واحد ، هو هذه السواعد التي نملكها .. فعلينا أن نتركها هي اليوم ترجو وتتكلم ، لا في المجالس والدواوين ولكن في الفلاة والميادين ...!
علينا إذا أردنا أن يعود ممو إلينا أن نبادر مع صبح الغد فنرتدي دروعنا ، ونشتمل سيوفنا ، ثم يستوي كل منا على جواده ، فننطلق بالحراب والسنان نهزها ، ونستدر بها وحدها عطف الأمير ، ليطلق سراح ممو . فإن رقق ذلك من قلبه وقضى مرادنا فذاك .. وإلا أعلنا حربا مستعرة هوجاء ، عليه وعلى كل من ستثكله أمه من اتباعه وبطانته ، وعلى رأسهم كلبه اللئيم الحقير .
ولتنفتل رحى الآجال إذ ذاك ، تعصف بالرؤوس ، ولتصبح ’’ بوطان ‘‘ حلبة لرقصة الموت ، وليستمتع أهلها بلحن الأتراس والسيوف . فإما شققنا غبار ذلك كله إلى ممو فأنقذناه برماحنا وسواعدنا ، وإما لحقنا به وعانقنا معه الموت والردى .‘‘
وما إن أبدى هذا الرأي ، وأتم كلامه الملتهب حتى أثار حماسة الجالسين ، وأشعل دمائهم ، وأجمعوا على أن يتلاقوا جميعا في صبح اليوم التالي في عدة الحرب ليشنوها غارة على الأمير ...!
وفي صبح ذلك اليوم فوجئ أهل الجزيرة من هؤلاء الأشقاء الثلاثة بأمر لم يكونوا يحسبوا له حسابا .وطاف هؤلاء الثلاثة ومن معهم من الأصدقاء والأصحاب على أهلهم وذويهم - وقد حزموا أمرهم على الحرب ، ولبسوا لها لباسها ، وأعدوا لها عدتها - يستسمحونهم ويودعونهم .
ثم انطلقوا في خيلهم ورجلهم ، وقد اجتمع منهم عدد كبير ، يؤمون قصرالأمير .. ولما صاروا على مقربة منه اختارتاج الدين ممن معه شيخا مسنا ، فبعثه رسولا إلى الأمير ، يخبره بالشأن .. وأمره أن يقول ما يلي :
’’ أيها الأمير ، هؤلاء الأخوة الأربعة - ممو وتاج الدين وعارف وجكو - لست تجهل أن أحدا منهم لم يتهاون يوما ما في خدمتك ، ولم يتبدل منه الإخلاص في محبتك . فبأي حق وإنصاف تمر سنة كاملة ، وأنت حابس عنهم أعز أخ بينهم .. وملق به في ذلك القبر .. ليس له هناك من راع ولا صاحب ؟!
أيقظت عليهم شماتة الحساد ، وأقمت من حولهم هموم الأصدقاء والأصحاب ، وتنكرت لهم ، فلم تستمع منهم إلى استعطاف أو رجاء !
ما هو ذنب ممو ...؟
أليس كل ذنبه الذي جعله يستحق منكم هذا العقاب أنه عاشق ....؟
ولكن ماذا يصنع .. وإن للعشق سلطانا أقوى من سلطانك ؟ فهلاّ انتقمت إن كنت ذا طول وطود من ذلك السلطان الذي عاندك فاسترقّه - عوضا عن أن تنتقم من هذا البريء الضعيف الذي ليس له من الأمر شيء ..؟!
أيها الأمير : إن هؤلاء الأخوة الأربعة ليس أحد يجهل أنهم أركان أربعة لسعادتك وسلطانك .. وهم اليوم يتقدمون إلى رحابكم باسم الوفاء والعدل طالبين لآخر مرة إطلاق سراح رابعهم من ذلك السجن . وإلا فإن أحداً من البقية .. لا يجد في نفسه ضرورة إلى الحياة بعد اليوم ...‘‘
وراح الشيخ .. واستأذن على الأمير بعد أن رآه بكر وعرف المسألة كلها .. فأبلغه هذه الرسالة كما حمّله إياها تاج الدين ، ووقف ينتظر الجواب . فأخذ الأمير يفكر وقد بدا على ملامحه الحذر والتريث . ثم نظر إلى الشيخ قائلا وقد أسرّ في نفسه أمرا :
’’ أيها الشيخ . عد إلى هؤلاء الذين أرسلوك ، فقل لهم : من أين ارتكزت في أذهانهم هذه الأوهام الفاسدة حتى تقوم في رؤوسهم هذه الثورة التي لا داعي لها ..؟ وليحدث كل ما يفرض أن يكون ، فهل يعقل أن نفوت ونترك أصدقائنا ، وأن نتخلى عن تقديرهم ومحبتهم ، سيما وإن لهم عندنا خدمات وأيادي لا تنسى ، أما ممو فإنا رأينا أن نفعل به ذلك تأديبا وإيقافا له عند حده ، وها أنا اليوم سأجعل كلا من ممو وزين فداء لتاج الدين وأخويه ، فليطب خاطرهم . بل وسأهبها لهم ليتحققوا من إخلاصنا في حبهم وتقديرهم ..‘‘
فتهللت أساسير الشيخ ، وانحنى شاكرا بين يديه ، ثم انصرف عائدا إلى القوم الذين كانوا في انتظاره . وما إن أخبرتهم بما قاله الأمير حتى سري عنهم وخمدت ثورتهم وتفرقوا عائدين إلى دورهم في انتظار الابتهاج بإطلاق سراح ممو وتزويجه من حبيبته زين .
 
أعلى