الخديعة
لم يكد ذلك الشيخ يخرج من القصر حتى أخذ الأمير يفكر في الموضوع بجد ...وقد بدا على تقاسيم وجهه وفي بريق عينيه الاهتمام الشديد بالأمر ! وأخذ ذهنه يطوف حول إيجاد أي خدعة لأولئك الثائرين في وجهه .
أما الحديث الذي قاله للشيخ ، فلم يكن شيء منه صادرا عن أعماق نفسه ، وإنما أرسله مجاملة فقط .. لتخمد ثورتهم ، ويرجعوا عما عزموا عليه من إثارة الفتنة والحرب . إذ كان يعلم أن قيام ثورة عليه من قبل تاج الدين وشقيقيه لن يكون في صالحه . لا سيما وإن لهم شيعة وأتباعا كثرا في الجزيرة ولذلك ألقى إليهم بهذا الوعد ، ليلهيهم ويتراجعوا عما أجمعوا رأيهم عليه ، بينما يصل هو في تفكيره إلى حيلة يسبقهم بها إلى تدبير الأمر كما يشاء ، ويقطع بها عليهم طريق الثورة والقوة .
ودخل عليه الحاجب بكر ، فألم بالقلق في نفسه ، ولم يخف عليه - وقد كان تسمع إلى كل ما قاله الرسول وأجابه به الأمير - أن الأمير لك يكن مخلصا للرسول فيما قدمه إليه من وعود ، وأنع يحوم بفكره حول أي وسيلة لإنقاذ الموقف ، وحسم هذا الأمر ...
فأخذ يقول وهو يتشاغل بتنظيم جوانب الديوان وإصلاحه :
’’ لقد كنت والله خائفا منذ أمد طويل أن ينتهز الفرصة هؤلاء القوم ، ويتشبثوا بأي سبب مصطنع لإثارة الفتن والقلائل حول هذا القصر . وما مرادهم والله ، كما علمت من أول الأمر ، إلا أن يصلوا بصاحبهم تاج الدين إلى الحلم الذي لا يزال جاثما في أوهام رؤوسهم ...!‘‘
ثم التفت إلى الأمير فقال :
’’ ولكن لا داعي إلى أن يحسب مولاي لهم كل هذا الشأن ، وأن يعيرهم من نفسه القلق والاهتمام ... ففي استطاعته إذا شاء أن يتخلص من كل من تاج الدين وشقيقيه بأيسر الطرق ...
أما ممو فإن الوسيلة إلى قتله أسهل ما يكون ، ولن يكلف ذلك سوى أن يتظاهر مولاي لزين بأنه نادم .. وأنه عقد العزم على أن يعفو عن ممو ويزوجها به . ثم يرسلها إلى زنزانة سجنه لتتولى هي بنفسها إطلاق سراحه ، فقد علمت مولاي بأنه يعشقها عشقا شدشدا ، وأغلب الظن أنه عندما يفاجأ برؤيتها بعد كل غيابه عنها وشوقه إليها واليأس الذي دب في نفسه ، سيخر صريعا وقد فارقته الروح .
أما تاج الدين وشقيقاه فمن السهولة بمكان - إذا شاء مولاي وترك الأمر لي - أن أتقدم إليهم بكؤوس من الشراب المسموم ...‘‘
ورغم أن الأمير كان يتظاهر كالمتشاغل عن حديثه ، إلا أنه كان ملقيا إليه كا باله ، يتتبع حديثه ورأيه باهتمام . فقد كان كل مراده أن يعثر في أقرب وقت على أي حل أو طريقة يتفادى بها ثورة تاج الدين وصحبه ، دون أن ينزل عند طلبهم أو مرادهم .
على أد ذلك لم يمنعه من أن يتضايق من بكر وفظاظة طبعه الذي يأبى إلا أن يشرئب متطاولا إلى هذه الامور التي لا تعنيه في قليل أو كثير ، فقد أصبح يتراءى لعينيه في وجهه الذي يظل متمسكنا في خبث ، كلما لمحه ، مصدر هذه الفتنة التي أخذت حيزا كبيرا من تفكيره ، بقطع النظر عن أنه أكان صادقا ومخلصا له في إثارتها ، أم مفتريا لا يهمه شيء سوى إيقاد نارها واحتراق الأبرياء في لظاها . وحسب هذا في الواقع حاملا للأمير على كراهيته والإشمئزاز من منظره وكلامه الذي لا يبعث إلا التشاؤم . بل ربما كان يدفعه هذا إلى أن يجازف بطرده رغم حاجته إلى حاجب في مثل خبثه ودهائه - لو لم يكن ذلك في هذا الوقت خاصة قد يثير لدى تاج الدين ظنونا بالأمير وبأن كل هذا الذي حدث إنما كان بمكر وافتراء من ذلك الحاجب الذي استطاع أن يغرر بالأمير ويخدعه .
ثم إنه لم يعلق شيئا على كلام بكر الذي ظل متشاغلا من حوله في انتظار أن يجيبه على رأيه الذي أبداه ، بأي كلمة أكثر من أنه أمره بالخروج وإغلاق الباب ، وبأن لا يدع أحدا يدخل عليه في ذلك اليوم .
وظل الأمير بياض نهاره ذلك لا يُرى إلا مختليا يفكر .. أما في الليل فقد استيد به الأرق ، وظل أيضا ساردا في التفكير والإطراق .
أخذ يعرض على ذهنه إلى جانب ما علق برأسه من ذلك الرأي الذي أبداه بكر آراءً كثيرة ، ولكن لم يكن من بينها أبدا فكرة العفو عن ممو وتزويجه من أخته . إذ كان هذا بعيدا جدا خصوصا وقد تتابعت عليه عوامل جعلته كالمستحيل . فقد كان أول عامل هو ما بلغ الأمير أن تاج الدين راح يستعمل نفوذه الخاص في تزويحها من ممو في الخفاء دون أن يعلمه بذلك ، وهو العامل الذي ألهب غضبه إذ ذاك وجعله يقسم أن يحول دون تحقيق ذلك . والعامل الثاني هو ما شاع أخيرا بين الناس ونقله بكر إليه من غرام ممو الشديد بأخته ، ومن زائدات أخرى غير لائقة انتهت إلى مسامعه . والعامل الأخير الذي جعله اليوم يزداد قسوة وتمسكا برأيه ، هو مجيء تاج الدين وقومه في هذه الثورة يطالبون بالعفو عن صاحبهم بالقوة والتهديد !
وأما رأي بكر فقد كان الأمير يحسب للاقدام على تحقيقه حسابا كبيرا ، ولا يكاد يرى وسيلة معقولة إليه ، إذ ليس من السهل أبدا القضاء على تاج الدين وشقيقيه بالسم مثلا كما يقول بكر ، ولا يضمن أن تأتي النتيجة لذلك هادئة سليمة ، سيما وإن من ورائهم شيعة وأتباعا سيتساءلون عن السر وسيظلون يبحثون عن الحقيقة التي لا يبعد أن تنكشف لهم أخيرا .
ثم أنها حيلة بشعة جدا ، لا يصلح أن تصدر إلا من ماكر دنئ من أمقال بكر ... وإن دلت على شيء من الأمير فإنما تدل على الجبن الذي يمنع من المجابهة والمبارزة وجها لوجه ، وعلى أنه ليس في يديه من وسائل القوة إلا هذه الخدعة التي هي سلاح الجبناء والضعفاء ، وما أبعدهما عن الأمير زين الدين من أن يكون كذلك ، وأن ينزل عند شيء من هذا الضعف . وأما الخطوة الأولى من رأي بكر وهي ما رآه من وسيلة للتخلص من ممو ، فقد كان يطمئن إليها قلب الأمير ، لو صح أن رؤيته لأخته على ذلك الشكل ستعدمه الحياة وتجعله يفارق الروح ...! ولا شك أن الأمر إذا تم على هذا النحو فهي وسيلة محكمة تماما .. وهي الخطوة الأولى والأخيرة ، وتنتهي المشكلة بعدها ..
وعلى كل فإن الأمير لم يسلم عينيه للرقاد في تلك الليلة إلا بعد أن عقد العزم لحل هذه المشكلة على أمر ...
لم يكد ذلك الشيخ يخرج من القصر حتى أخذ الأمير يفكر في الموضوع بجد ...وقد بدا على تقاسيم وجهه وفي بريق عينيه الاهتمام الشديد بالأمر ! وأخذ ذهنه يطوف حول إيجاد أي خدعة لأولئك الثائرين في وجهه .
أما الحديث الذي قاله للشيخ ، فلم يكن شيء منه صادرا عن أعماق نفسه ، وإنما أرسله مجاملة فقط .. لتخمد ثورتهم ، ويرجعوا عما عزموا عليه من إثارة الفتنة والحرب . إذ كان يعلم أن قيام ثورة عليه من قبل تاج الدين وشقيقيه لن يكون في صالحه . لا سيما وإن لهم شيعة وأتباعا كثرا في الجزيرة ولذلك ألقى إليهم بهذا الوعد ، ليلهيهم ويتراجعوا عما أجمعوا رأيهم عليه ، بينما يصل هو في تفكيره إلى حيلة يسبقهم بها إلى تدبير الأمر كما يشاء ، ويقطع بها عليهم طريق الثورة والقوة .
ودخل عليه الحاجب بكر ، فألم بالقلق في نفسه ، ولم يخف عليه - وقد كان تسمع إلى كل ما قاله الرسول وأجابه به الأمير - أن الأمير لك يكن مخلصا للرسول فيما قدمه إليه من وعود ، وأنع يحوم بفكره حول أي وسيلة لإنقاذ الموقف ، وحسم هذا الأمر ...
فأخذ يقول وهو يتشاغل بتنظيم جوانب الديوان وإصلاحه :
’’ لقد كنت والله خائفا منذ أمد طويل أن ينتهز الفرصة هؤلاء القوم ، ويتشبثوا بأي سبب مصطنع لإثارة الفتن والقلائل حول هذا القصر . وما مرادهم والله ، كما علمت من أول الأمر ، إلا أن يصلوا بصاحبهم تاج الدين إلى الحلم الذي لا يزال جاثما في أوهام رؤوسهم ...!‘‘
ثم التفت إلى الأمير فقال :
’’ ولكن لا داعي إلى أن يحسب مولاي لهم كل هذا الشأن ، وأن يعيرهم من نفسه القلق والاهتمام ... ففي استطاعته إذا شاء أن يتخلص من كل من تاج الدين وشقيقيه بأيسر الطرق ...
أما ممو فإن الوسيلة إلى قتله أسهل ما يكون ، ولن يكلف ذلك سوى أن يتظاهر مولاي لزين بأنه نادم .. وأنه عقد العزم على أن يعفو عن ممو ويزوجها به . ثم يرسلها إلى زنزانة سجنه لتتولى هي بنفسها إطلاق سراحه ، فقد علمت مولاي بأنه يعشقها عشقا شدشدا ، وأغلب الظن أنه عندما يفاجأ برؤيتها بعد كل غيابه عنها وشوقه إليها واليأس الذي دب في نفسه ، سيخر صريعا وقد فارقته الروح .
أما تاج الدين وشقيقاه فمن السهولة بمكان - إذا شاء مولاي وترك الأمر لي - أن أتقدم إليهم بكؤوس من الشراب المسموم ...‘‘
ورغم أن الأمير كان يتظاهر كالمتشاغل عن حديثه ، إلا أنه كان ملقيا إليه كا باله ، يتتبع حديثه ورأيه باهتمام . فقد كان كل مراده أن يعثر في أقرب وقت على أي حل أو طريقة يتفادى بها ثورة تاج الدين وصحبه ، دون أن ينزل عند طلبهم أو مرادهم .
على أد ذلك لم يمنعه من أن يتضايق من بكر وفظاظة طبعه الذي يأبى إلا أن يشرئب متطاولا إلى هذه الامور التي لا تعنيه في قليل أو كثير ، فقد أصبح يتراءى لعينيه في وجهه الذي يظل متمسكنا في خبث ، كلما لمحه ، مصدر هذه الفتنة التي أخذت حيزا كبيرا من تفكيره ، بقطع النظر عن أنه أكان صادقا ومخلصا له في إثارتها ، أم مفتريا لا يهمه شيء سوى إيقاد نارها واحتراق الأبرياء في لظاها . وحسب هذا في الواقع حاملا للأمير على كراهيته والإشمئزاز من منظره وكلامه الذي لا يبعث إلا التشاؤم . بل ربما كان يدفعه هذا إلى أن يجازف بطرده رغم حاجته إلى حاجب في مثل خبثه ودهائه - لو لم يكن ذلك في هذا الوقت خاصة قد يثير لدى تاج الدين ظنونا بالأمير وبأن كل هذا الذي حدث إنما كان بمكر وافتراء من ذلك الحاجب الذي استطاع أن يغرر بالأمير ويخدعه .
ثم إنه لم يعلق شيئا على كلام بكر الذي ظل متشاغلا من حوله في انتظار أن يجيبه على رأيه الذي أبداه ، بأي كلمة أكثر من أنه أمره بالخروج وإغلاق الباب ، وبأن لا يدع أحدا يدخل عليه في ذلك اليوم .
وظل الأمير بياض نهاره ذلك لا يُرى إلا مختليا يفكر .. أما في الليل فقد استيد به الأرق ، وظل أيضا ساردا في التفكير والإطراق .
أخذ يعرض على ذهنه إلى جانب ما علق برأسه من ذلك الرأي الذي أبداه بكر آراءً كثيرة ، ولكن لم يكن من بينها أبدا فكرة العفو عن ممو وتزويجه من أخته . إذ كان هذا بعيدا جدا خصوصا وقد تتابعت عليه عوامل جعلته كالمستحيل . فقد كان أول عامل هو ما بلغ الأمير أن تاج الدين راح يستعمل نفوذه الخاص في تزويحها من ممو في الخفاء دون أن يعلمه بذلك ، وهو العامل الذي ألهب غضبه إذ ذاك وجعله يقسم أن يحول دون تحقيق ذلك . والعامل الثاني هو ما شاع أخيرا بين الناس ونقله بكر إليه من غرام ممو الشديد بأخته ، ومن زائدات أخرى غير لائقة انتهت إلى مسامعه . والعامل الأخير الذي جعله اليوم يزداد قسوة وتمسكا برأيه ، هو مجيء تاج الدين وقومه في هذه الثورة يطالبون بالعفو عن صاحبهم بالقوة والتهديد !
وأما رأي بكر فقد كان الأمير يحسب للاقدام على تحقيقه حسابا كبيرا ، ولا يكاد يرى وسيلة معقولة إليه ، إذ ليس من السهل أبدا القضاء على تاج الدين وشقيقيه بالسم مثلا كما يقول بكر ، ولا يضمن أن تأتي النتيجة لذلك هادئة سليمة ، سيما وإن من ورائهم شيعة وأتباعا سيتساءلون عن السر وسيظلون يبحثون عن الحقيقة التي لا يبعد أن تنكشف لهم أخيرا .
ثم أنها حيلة بشعة جدا ، لا يصلح أن تصدر إلا من ماكر دنئ من أمقال بكر ... وإن دلت على شيء من الأمير فإنما تدل على الجبن الذي يمنع من المجابهة والمبارزة وجها لوجه ، وعلى أنه ليس في يديه من وسائل القوة إلا هذه الخدعة التي هي سلاح الجبناء والضعفاء ، وما أبعدهما عن الأمير زين الدين من أن يكون كذلك ، وأن ينزل عند شيء من هذا الضعف . وأما الخطوة الأولى من رأي بكر وهي ما رآه من وسيلة للتخلص من ممو ، فقد كان يطمئن إليها قلب الأمير ، لو صح أن رؤيته لأخته على ذلك الشكل ستعدمه الحياة وتجعله يفارق الروح ...! ولا شك أن الأمر إذا تم على هذا النحو فهي وسيلة محكمة تماما .. وهي الخطوة الأولى والأخيرة ، وتنتهي المشكلة بعدها ..
وعلى كل فإن الأمير لم يسلم عينيه للرقاد في تلك الليلة إلا بعد أن عقد العزم لحل هذه المشكلة على أمر ...