سلسلة سيرة المصطفي !!!!

الدفاع عن المدينة(الجزء الأول):
الماء الساكن خلف السد لا تدرك قيمته حتى يتدفق تياره، والحجرة المظلمة لا يرى جمالها حتى تضاء أركانها، وكذلك المد ينة عند الهجرة كان بها كثير من الخير الساكن، وبعض الأركان المظلمة، وتغير ذلك كله كان ينتظر وصول محمد -صلى الله عليه وسلم- والذى ما إن وصل حتى بدأ فى تأسيس مجتمع جديد قبل أن ينزل عن راحلته، لكن أنى للكفر أن يهدأ، وهو يبصر الإيمان ساعده يشتد، وجنوده تتجمع. لم تستطع قريش أن تكظم حقدها فأرسلت تهدد المسلمين وتتوعدهم، وهنا أنزل الله الإذن بالقتال أولاً، ثم فرض القتال بعده، وكما كانت قلوب المسلمين تهفو إلى مكة حوَّل الله صدورهم فى الصلاة إلى الكعبة بنزول الوحى بتحويل القبلة. وما إن مر شهر على تحويل القبلة، حتى ساق الله المسلمين دون تهيؤ منهم إلى غزوة بدر الكبرى فكان نصرًا كبيرًا، ونجاحًا مؤزرًا، تلته أعياد أقيمت، وفروض فرضت. واستمر الجهاد حتى كانت غزوة أحد فى العام الثالث للهجرة، ولم يكد المسلمون يضمدون جراحاتهم، حتى استأنفوا جهادهم دفاعًا عن دولتهم الفتية، وأدركت قريش أنه لا قبل للمشركين بمحاربة المسلمين، إلا إذا اتحدت فصائلهم، وتجمعت أشتاتهم، فألفوا الأحزاب، وأحاطوا بالمدينة ينوون استئصال خضرائها، وإبادة ساكنيها، فكانت غزوة الأحزاب، التى نصر الله فيها عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، وقد كشفت هذه الغزوة عن لؤم اليهود وغدرهم؛ فتلاها الرسول -صلى الله عليه وسلم- بغزوة بنى قريظة، وظل النشاط العسكرى متقدًا بعدها حتى كانت وقعة الحديبية، والحق أن مكائد اليهود، والدور الذى لعبه المنافقون جعل مهمة الدفاع عن المدينة، لاتقتصر على حماية حدودها فحسب، بل تشتمل أيضًا محاربة أعدائها الكامنين داخل الأسوار.

- تهديدات قريش:
إن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- المشغول ببناء مسجده، والمؤاخاة بين أفراد أمته، وعقد المعاهدات مع جيرانه، والعناية بتنظيم شئون مدينته، فوجئ بخطاب من قريش تعلن فيه الحرب عليه وعلى من اتبعه، ثم إن الأنصار قد فوجئوا أيضًا بأنهم ممنوعون من زيارة بيت الله الحرام، وتمادت قريش فى تهديد المهاجرين، فاتخذ المسلمون حذرهم واحتياطهم.

- الإذن بالقتال:
تبدلت الظروف بالمسلمين، وتغيرت أحوالهم بين مكة والمدينة؛ فأذن الله عز وجل- لهم بالقتال؛ دفعًا للظلم عنهم، واعتمادًا على نصر القدير، وكان على المسلمين فى هذا الوقت أن يبسطوا سيطرتهم على جوار المدينة، لا أن يستكينوا بعقرها!. وتحقيقًا لهذا الواجب فقد سلكوا سبيلين، أولهما: عقد معاهدات الحلف، أو عدم الاعتداء على القبائل المجاورة لطريق التجارة من مكة إلى الشام، أو القاطنة بينه وبين المدينة، وثانى هذين السبيلين: إرسال السرايا والغزوات إلى هذه الطريق.

- فرض القتال:
إن قريشًا التى طال تكبرها، قد لقنتها سرية نخلة درسًا لم تنسه، فعبدالله بن جحش ونفر من المسلمين معه يستطيعون بسهولة أن يغيروا على تجارة قري، فيسوقوا عيرها إلى المدينة مع أسيرين، وقد خلفوا وراءهم قتيلاً، لكن قريشًا المعاندة والتى أدركت الخطر على طريق تجارتها إلى الشام، قد اختارت سبيل الحرب من جديد، وهنا وفى شعبان سنة اثنتين من الهجرة نزلت آيات الله تعالى الفارضة للجهاد، والقتال فى سبيله، ثم ما لبثت هذه الآيات غير يسير، حتى تليت بآيات من سورة محمد، تصف طريقة القتال، وتبين أحكامه، وتحث عليه، وتذم أولئك الوجلين منه، الخائفين على أنفسهم.

- غزوة بدر الكبرى:
قلة من المؤمنين ساقهم الله تعالى لملاقاة الكثرة من المشركين المتكبرين، حتى إذا وافوهم لم يلبثوا إلا يسيرًا، ثم نصرهم الله بقدرته عليهم، تلك كانت قصة بدر! القصة التى مهما قلبت صفحاتها طالعتك قدرة الله، وتدبيره لعباده، حين تتأمل سبب الغزوة، أو قوة الجيش المسلم وتنظيمه، وإذا صحبتهم فى الطريق إلى بدر أو استمعت إلى النذير فى مكة، أو رأيت تجهز المشركين للغزو، وتحرك جيشهم، وانفلات عيرهم، وانشقاق جيشهم، فى كل ذلك ستجد حتمًا قدرة الله وتدبيره!. إن مشاهد بدر المتتالية تغرس اليقين فى قلب المسلم، وتورثه صدق التوكل على ربه، توكلاً لاينافيه أخذه بالأسباب، إن هذه المعانى تتسارع إلى قلوبنا ونحن نشاهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- يستشير صحابته قبل الغزوة، ثم حين يقوم بالاستكشاف لمعركته، وتتسارع إلى قلوبنا ونحن نستمع إلى صوت نزول المطر قبيل المعركة، أو ونحن نرى نشر القوات وتهيئة مكان القيادة، ثم حين نستمع إلى صوت القيادة، ثم حين نستمع إلى كلمات المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وهو يقوم بالتعبئة المعنوية، وكذلك حين نولى وجهنا شطر الجانب الآخر فنلحظ الخلاف وقد تجدد فى صفوف المشركين، لكن الأعجب من ذلك كله، هو دقات قلوبنا التى لا زالت بعد أربعة عشر قرنًا من هذه الحادثة تتلاحق وهى تتابع ترائى الجيشين، وقدوم ساعة الصفر، ثم المبارزة الأولى قبل الهجوم العام، ومناشدة الرسول ربه عز وجل، والهجوم المضاد، وانسحاب إبليس من المعركة، ثم الهزيمة الساحقة، ونهاية المعركة. إن مشاهد هذه الغزوة لا تسأم منها قلوب المؤمنين أبدًا، وإن صورة مكة وهى تتلقى أنباء الهزيمة، والمدينة وهى تتلقى أنباء النصر، ثم تستقبل عودة النبى -صلى الله عليه وسلم- وجيشه إليها لترسم فى مخيلتنا نهاية حلقة من حلقات الصراع بين الحق والباطل، أما قضية الخلاف فى الغنائم، وقضية الأسرى، فتؤكدان بشرية حملة ذلك الحق، وحاجتهم الدائمة للتربية والتوجيه.

- غزوة أحد:
لم يكد يمر على يوم بدر سوى عام حتى كانت قريش التى احترقت كمدًا على هزيمتها وقد أخذت أهبتها واستعدت لقتال محمد -صلى الله عليه وسلم- ومن معه، فأعدت جيشًا عرمرمًا أخذ طريقه متجهًا إلى أحد، وما كاد الجيش يخطو أولى خطواته خارج مكة حتى كان خبره قد انكشف لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة، واستعد المسلمون لهذا الطارئ الخطير، وشاورهم النبى -صلى الله عليه وسلم- فى أمرهم، ثم بدأ تنظيم جيش لهم يدرأ عنهم خطر جيش قريش، والتفت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى جيشه فوجد به جمعًا من صغار السن صحبوا الجيش لفرط حماسهم فردهم النبى -صلى الله عليه وسلم-، والعجيب أن هذه الصورة المشرقة قد تليت بضدها تمامًا، فقد تمرد المنافقون، وعاد زعيمهم ابن أبى بثلث الجيش إلى المدينة، وواصل الجيش مسيره حتى بلغ أحدًا، وأعد النبى -صلى الله عليه وسلم- خطة الدفاع، ثم قام بالتعبئة المعنوية لجنوده، وعلى الجانب الآخر كان المشركون يعبئون جيشهم، ثم أخذوا ينسجون مؤامرات لإحداث الفرقة فى جيش المسلمين، إلا أن خيوطها كانت أهون من خيوط العنكبوت، وقامت نسوة قريش بجهدهن استعدادًا للمعركة، وتقارب الجمعان، ثم بدأت أحداث المعركة التى بدأت لصالح المؤمنين، ثم انقلبت ضدهم، أما نهاية المعركة فقد كانت ولا شك ملحمة وحدها أثبتت نفاسة معدن أولئك الرجال الذين عادوا مهزومين من أحد.

- غزوة الأحزاب:
"الآن نغزوهم ولا يغزونا، نحن نسيرإليهم"، هكذا كانت كلمات النبى -صلى الله عليه وسلم- بعد ذهاب الأحزاب وجلائهم عن المدينة، وهكذا كانت بشارته. بدأت الغزوة بمكيدة يهودية دنيئة، تجمع المشركون من قريش والعرب على إثرها، وتوجهوا لمهاجمة المدينة، وعلم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بنيتهم، فاجتمع بمجلس شوراه ليحسم أمره، وهناك كانت المشورة بحفر الخندق، وتحمل المسلمون مواجهة المشاق لإتمام حفره، والتغلب على تثبيط المنافقين، ووصلت جموع المشركين الزاحفة لاستئصال المسلمين، ففوجئت بما لم تحسب، فحاصرت المدينة إلى حين، ولم تستطع أن تداهمها، وإن لم يمنع ذلك من حدوث بعض قتال عبر الخندق، وفى هذه الظروف الخانقة فوجئ المسلمون بخيانة يهود بنى قريظة لهم، ومحالفتهم لعدوهم، فأصبح جيش المسلمين فى حرج كبير لانكشاف ظهره، وهنا ساق الله تعالى لهم فرجًا ومخرجًا بحيلة لنعيم بن مسعود فخرجوا من أزمتهم، وبقى الجيش المشرك متربصًا، حتى أجلاه الله -عز وجل- بريح شديدة سخرها عليهم فكانت نهاية المعركة.

يتبع
 
الدفاع عن المدينة(الجزء الثاني):

غزوة بنى قريظة:
سأل جبريل محمدًا، وقد عاد لتوه من غزوة الأحزاب، فدخل بيت أم سلمة يغتسل: أو قد وضعت السلاح؟، فإن الملائكة لم تضع أسلحتهم. وأمره أن يتقدم بالمسلمين؛ ليحسم أمر بنى قريظة. وفى دقائق معدودة كان الجيش المسلم يتحرك إلى ديارهم، ثم يحاصرهم فى ديارهم، وزلزل الله الأرض من تحت أقدامهم، وقذف فى قلوبهم الرعب، فنزلوا على حكم النبى -صلى الله عليه وسلم-، الذى وكل أمرهم إلى سعد بن معاذ؛ ليحكم فيهم، وحكم سعد فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات كما قال النبى، فتم تنفيذه على الفور، وانتهت الغزوة بتخلص المسلمين من مدبرى الفتن، ومتصيدى فرص الضعف، ثم تليت بوفاة سعد وتوبة الله على أبى لبابة، الصحابى الجليل. وقد وقعت هذه الغزوة فى شهر ذى القعدة للعام الخامس الهجرى.

وقعة الحديبية:
إن وقعة الحديبية -التى تمثل فاصلاً لمرحلة جديدة فى السيرة النبوية- قد بدأت برؤيا للنبى -صلى الله عليه وسلم-، أنه يعتمر مع أصحابه، وما إن أخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- صحابته بذلك، حتى شرع المسلمون فى التحرك إلى مكة، ولم تقبل قريش بادئ الأمر فكرة أن للمسلمين كغيرهم الحق فى زيارة البيت، فتجهزت للصد عن المسجد، ومحاربة النبى ومن معه، ولكنه -صلى الله عليه وسلم- وقد خرج معتمـرًا لا محاربًا، قام بتبديل الطريق وتجنب اللقاء، ورأت قريش أن تلجأ للمفاوضات؛ لصرف النبى -صلى الله عليه وسلم- ومن معه، فتتالت وساطات بديل بن ورقاء، ومكرز بن حفص، والحليس بن علقمة، ثم وساطة عروة بن مسعود، لكن دون جدوى، وهنا عنّ لفتية قريش أن يقوموا بمحاولة طائشة لإنهاء هذا الأمر بالقوة، غير أن المسلمين أعادوهم بخفى حنين، ثم بعث النبى -صلى الله عليه وسلم- عثمان بن عفان سفيرًا إلى قريش، فاحتبسته قريش، وأشيع أنه قتل، فما كان من النبى -صلى الله عليه وسلم- إلا أن بايع من معه على القتال حتى الموت، فى بيعة سميت ببيعة الرضوان، وأسرعت قريش بفض هذه الأزمة، وبإرسال سهيل بن عمرو وسيطًا جديدًا بينها وبين محمد -صلى الله عليه وسلم-، وتمت المعاهدة، وقبل أن تتم كتابتها، طالب سهيل برد أبى جندل إليه، حسب بنودها، فرده -صلى الله عليه وسلم-؛ لكنه التزامًا بكلمات المعاهدة، أبى أن يرد المهاجرات، وقد حزن المسلمون، وخاصة عمر؛ لشعورهم بفوات العمرة، وانعدام العدل فى بنود المعاهدة، لكنه -صلى الله عليه وسلم- أمرهم بالنحر والحلق، حتى يعودوا، ولقد دارت الأيام لتثبت للجميع مقدار المصلحة فى هذه المعاهدة، وجرى حكم الله -عز وجل- بانتهاء أزمة المستضعفين الذين لم يكن باستطاعتهم الذهاب إلى المدينة حسب الاتفاق الممهور، وقد تليت هذه المعاهدة بإسلام أبطال من قريش، كإشارة ربانية لبداية فجر جديد.

مكائد اليهود:
دخل محمد-صلى الله عليه وسلم- يثرب فوجد يهودها على صنفين؛ بعضهم شكل تجمعًا كبيرًا مستقلاً، والبعض الآخر ظل أفرادًا داخل قبائلهم المتعددة، وعاهد -صلى الله عليه وسلم- أتباع أخيه موسى -عليه السلام- على الصدق والنجدة والوفاء، حتى يكونوا معه فى أمة يثرب. وحاول اليهود -الذين احترقت أفئدتهم حين أيقنوا بانتقال النبوة إلى ولد إسماعيل- حاولوا أن يفتتوا المجتمع المسلم وهم إن أخفوا ذلك إلى حين فإن بنى قينقاع قد أظهروه بعد نصر المسلمين ببدر، فأجلاهم النبى عن المدينة، وظنت بنو النضير -بعد هزيمة المسلمين بأحد- أنها قاتلةٌ محمدًا، وهمت بذلك، فألحقها المسلمون بأختها خارج أسوار المدينة الوادعة. ومرة أخرى سعت يهود بالغدر حين ألبت الأحزاب لغزو المدينة، ثم أظهرت بنو قريظة الخيانة، حين ظنت أن المسلمين قد انتهى أمرهم، فحالفت قريشًا ومن معها، ولكن الله تعالى نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده. فدفعت بنو قريظة ثمنًا فادحًا لخطيئتها الفادحة. ويبدو أن تطهير المدينة لم يعد كافيًا؛ إذ تجمعت رؤوس الفتنة والغدر بخيبر، تنسج بليل المكائد للمسلمين. فذهب إليهم النبى ليحاربهم وجهًا لوجه كما ألف، لا دسًّا وغيلة كما اعتاد الخائنون، ولم يعد إلا ونصرالله يخفق بجناحيه فوق جيشه الميمون. وبعد، فقد بقى اليهود فى دين الله، ودولة المسلمين، أمة من الأمم، لها ما للمسلمين، وعليها ما عليهم، ما بقى أتباعها مسالمين وادعين، أما إن أظهروا الغدر والعداء، فجزاء الغادرين المعتدين فى دين الله صارم قاطع، ليهود أو غيرها!.

دور المنافقين:
كحية رقطاء كمنت فى شقوق دار آمنة، تنتظر فرصة بليل فتتسلل إلى فريستها الغافلة، عاش المنافقون فى حنايا المدينة، وخالطوا أهلها. وقد ظهر خطرهم بعد بدر، حين لم يجد زعيمهم عبد الله بن أبى قدرة على مواجهة النبى -صلى الله عليه وسلم- بالعداوة؛ فأظهر-ومن معه- الإسلام وأبطنوا غيره. وكان أول ما بدا من هذا المعسكر يوم بنى قينقاع حين أصر ابن أبى على رأيه فى حمايته، وضغط على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى لا يمسهم بسوء، ثم فضح هذا المعسكر بأكمله يوم أحد حين تولوا إلى المدينة، وأبوا المشاركة فى القتال فلجئوا إلى الدس الخفى، وألبوا يهود بنى النضير، ثم حاولوا إشاعة اليأس بين المسلمين يوم الأحزاب، وأثاروا الفتنة بين المهاجرين والأنصار فى غزوة بنى المصطلق، فلما ردهم الله خاسرين، نسجوا قصة الإفك ليطعنوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فى زوجه، ويطعنوا المؤمنين فى أمهم عائشة، وأمعن المنافقون فى غيهم حين اتصلوا بيهود خيبر يحذرونهم من خروج المسلمين إليهم، لكنهم افتضحوا مرة أخرى فى غزوة تبوك حين احتالوا لبناء وكر لدسهم ومؤامراتهم زعموا أنه مسجد لله وعبادته، ثم هموا بما لم ينالوا وحاولوا قتل المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وهو فى طريق عودته من تبوك، وقدم إليه المخلفون منهم يعتذرون إليه بعد عودته؛ لكن الله سبحانه وتعالى أنزل آيات بينات تظهر نفاقهم، وتعلن طويتهم، وتحذر المسلمين منهم؛ فعادوا بالذلة والهوان.

يتبع
 
المهادنة:
لملك من ملوك الأرض تغدو الهدنة فرصة للراحة والاسترخاء، أو فسحة للاستمتاع بطيب العيش وملذات الحكم، أما لنبىٍّ عظيم كمحمد -صلى الله عليه وسلم-، فإن الهدنة تصبح فرصة؛ لمحاربة ذيول الكفر بعد سكون رأسه، وفسحة لتدعيم أركان الإسلام بدولة المدينة، ودعوةً فى أرجاء الأرض. وهكذا ما إن عقدت الهدنة حتى أخذ النبى الكريم -صلى الله عليه وسلم- فى مكاتبة الملوك والأمراء فى سائر أنحاء الدنيا، وظل الجهاد فى تلك الفترة متصلاً، فقد قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بغزوة الغابة أو غزوة "ذى قرد" ثم تلاها بغزوة خيبر، وبفتحها استراح المسلمون من جناحى البغى والكفر: قريش واليهود، ولم يبق أمامهم سوى الجناح الثالث: جناح الأعراب الذين هم أشد كفرًا ونفاقـًا، فبدأ -صلى الله عليه وسلم- فى ربيع الأول سنة سبع من الهجرة بغزوة ذات الرقاع، ثم تلاها بسرايا عديدة طيلة السنة السابعة، حتى كان "ذو القعدة" فاعتمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون معه عمرة القضاء، وما إن عاد إلى المدينة حتى أرسل عدة سرايا إلى أن كانت معركة مؤتة أعظمُ حرب دامية خاضها المسلمون فى حياة النبى -صلى الله عليه وسلم-، وكانت تمهيدًا لفتوح بلدان النصارى، وقد بعث بعدها النبى -صلى الله عليه وسلم- بسرية ذات السلاسل ثم سرية أبى قتادة إلى خضرة. وما إن جاء شهر شعبان سنة ثمان من الهجرة حتى نقضت قريش الهدنة؛ فكان ذلك إيذانًا بفتح الله على نبيه -صلى الله عليه وسلم-ونصره له بعد سنين طوال، أبت فيها قريش أن تذعن لدين الله، إلى أن طويت هذه الصفحة الأليمة بلا رجعة بفتح مكة المكرمة على يدى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين معه، وقبل أن يغادر النبى -صلى الله عليه وسلم- مكة قام بإرسال بضع سرايا، ثم قفل راجعًا إلى مدينته المحبوبة.

مكاتبة الملوك والأمراء:
ما إن أمن المسلمون حرب قريش، حتى دبت أقدامهم فى أنحاء الأرض، تحمل رسالة رب العالمين إلى العالمين، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعلم أن رسائله ستصل إلى قوم، الشكل عندهم يسبق المضمون؛ ولذا فقد اتخذ لنفسه خاتمًا من فضة، جعل نقشه "محمد رسول الله"، وانتقى صلى الله عليه وسلم- من صحابته أهل المعرفة والخبرة؛ ليرسلهم إلى ملوك العالم فسعوا بكتبه إلى النجاشى، والمقوقس، وإلى كسرى، وقيصر، وإلى المنذر بن ساوى، وهوذة بن على، والحارث بن أبى شمر، وكذلك إلى ملك عمان، فأصاب كل من خير الإسلام ما يحسب ما هو أهل له.

غزوة الغابة:
ركب رباح -غلام رسول الله- فرسًا وأسرع راكضًا إلى المدينة، يسابق الريح، وفوجئ النبى -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون به يخبرهم لاهثًا بأن عبد الرحمن الفزارى قد أغار على أنعام الرسول -صلى الله عليه وسلم- فاستاقها جمـيعًا، بعد أن قتل راعيه، وأن سلمة بن الأكوع يسعى الآن خلفهم وحده. من ناحية أخرى أخذ سلمة يرميهم بنبله فيصيبهم، ويصيب ركائبهم، فإذا رجع إليه فارس منهم، جلس فى أصل شجرة ثم رماه بنبله ليقضى عليه أو يفر. وما زال سلمة يتبعهم بسهامه حتى أجبرهم على ترك كل ما استاقوه من أنعام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم استمر فى ملاحقتهم، فأخذوا يتخلصون مما معهم من الرماح وغيرها؛ حتى تخف أحمالهم فيسرعون المسير، وهنا أقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع صحابته، فقتلوا عبد الرحمن الفزارى، وفر من معه مدبرين، ثم رجع الجميع إلى المدينة، وقد غنموا ما ألقى القوم، واستشهد منهم أخرم، قتله عبدالرحمن قبل أن يقتله.

غزوة ذات الرقاع:
قاد غباء أنمار، أو بنى ثعلبة وبنى محارب من غطفان إلى نهاية سيئة، فقد انتقـوا الوقت المناسب الذى فرغ فيه المسلمون من حرب قريش بصلح الحديبية، ومن حرب اليهود بفتح خيبر؛ ليتجمعوا ويتظاهروا على حرب المسلمين ومحمد!. وعلى العكس من ذلك فإن هذا الوقت -ربيعًا الأول لسنة سبع من الهجرة- كان أنسب الأوقات للمسلمين؛ لتأديب الأعراب قساة القلوب، وكبح جماحهم. فقد أسرع محمد -صلى الله عليه وسلم- فى أربعمائة أو سبعمائة من أصحابه بالخروج إليهم. والأعراب على عكس قريش التى تجمعها مكة، واليهود الذين يلوذون بحصونهم- على عكسهما ليست لهم مقار ثابتة أو منازل مقيمة؛ ولذا فلا يصلح لحربهم إلا حملات الإرهاب والتهديد، ولقد وصل -صلى الله عليه وسلم- إلى موضع يقال له نخل على بعد يومين من المدينة، فلقى جمعًا من غطفان، إلا أنه لم يكن بينهما قتال، والحق أن هدوء معسكرى قريش واليهود لا يعنى أن المسلمين غدوا فى حال يسر ووفرة، بل على العكس من ذلك، فقد روى أبو موسى الأشعرى، أنهم خرجوا لا يجد الستة منهم إلا بعيرًا واحدًا، يتعاقبون عليه، حتى أصيبت أقدامهم، وسقطت أظفارهم، فكانوا يلفون على أرجلهم الخرق، فسميت الغزوة لأجل ذلك بذات الرقاع، ولا شك أن ما قام به المسلمون من الخروج إلى هذه الغزوة لإرهاب عرب غطفان، كان له أبلغ الأثر، فإن غطفان لم ترفع بعد رأسًا، بل استسلمت ثم أسلمت، وشاركت بعض قبائلها فى فتح مكة، ودفعت الصدقة إلى جامعى الصدقات الخارجين من المدينة.

معركة مؤتة:
مضى الحارث بن عمير الأزدى فى طريقه إلى بصرى، حاملاً كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى عظيمها، لكن شرحبيل بن عمرو الغسانى، عامل قيصر على البلقاء من أرض الشام لم يرضه ذلك! فأسر الرسول المسالم وأوثقه، ثم ضرب عنقه بالسيف!! ووصل هذا الخبر إلى المسلمين ونبيهم -صلى الله عليه وسلم- فاشتد ذلك عليهم، إذ أكثر الشعوب همجية تعلم أن الرسل لا تقتل، ولم يعد أمام المسلمين إلا أن ينهضوا فى طلب ثأرهم، وسرعان ما تم تجهيز الجيش، الذى حرص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أن يوصيه قبل خروجه، ثم ودع المسلمون جيشهم الذى بدأ تحركه. على الجانب الآخر، قررت الروم أن تجهز جيشًا يناصر شرحبيل فى حرب محمد -صلى الله عليه وسلم-وانضمت قبائل عدة إلى جيشهم ذاك، حتى صار تعداده أضعاف أضعاف تعداد جيش المسلمين.

يتبع
 
الفتح ودخول الناس أفواجًا:

أبت بعض القلوب المظلمة أن تفتح أبوابها لنور الحق، الذى سطع فى مكة، وغرها شيطانها؛ فوحدت صفوفها؛ لمقاتلة نبى عز عليها أن ترى انتصاره، وعلو دعوته، فخرج النبى -صلى الله عليه وسلم- لمقاتلتهم فى غزوة حنين، وكما يقولون: فعلى نفسها جنت براقش، ومحارب الله ورسوله، ترى إن لم يرجع بالخيبة، ويبؤ بالخزى والفشل، فبم يرجع، وبم يبوء؟!. وعاد الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد هذه الغزوة إلى المدينة منتصرًا؛ ليرسل جامعى الصدقات لمن أسلم من القبائل، و السرايا لمن اعتدى منهم. لكن "أسد الرومان" لم يعجبه استتباب الأمر فى الجزيرة للنبى الجديد ودعوته، وهو يعلم خطره، ونهشة مؤتة لا زالت توجعه، وتنبهه؛ ليترك عرينه، وينقض على غريمه الذى عظم شأنه فى الجوار. أما النبى العظيم -صلى الله عليه وسلم- فهو أشد حرصًا على دعوته من أن يؤتى على غرة؛ لذا فقد بادر بالسعى إليه فى بلده فى غزوة تبوك الشهيرة، والتى ابتليت فيها العزائم، وامتحنت فيها النفوس. ولم تنته السنة التاسعة للهجرة إلا عن بعض الوقائع المهمة، والتى كان آخرها إرسال أبى بكر أميرًا على الحج. ولا شك أن الدعوة بعد فتح مكة قد استقرت أركانها، ورسخت أقدامها؛ ولذا فقد تقاطرت الوفود على النبى -صلى الله عليه وسلم- تدخل فى دين الله أفواجًا، وبقدوم "ذى الحجة" من العام العاشر للهجرة، خرج النبى -صلى الله عليه وسلم- حاجًا حجة الوداع، ثم عاد إلى المدينة ليرسل آخرالبعوث: بعثة أسامة بن زيد إلى أرض الروم، وهى البعثة التى أجل خروجها حتى وفاة النبى -صلى الله عليه وسلم-، وصعود روحه إلى بارئها -عز وجل-، مخلفًا وراءه دولة وأمة، نموذجًا ونبراسًا لمن خلفه، وأمانة وتبعة فى عنق أتباعه، والسائرين على دربه إلى يوم الدين. اللهم صلِّ وسلم على النبى محمد ما بقيت سماء وأرض، حتى تجمعنا معه وتدخلنا مدخله يوم العرض.. آمين.

غزوة حنين:
لئن كانت القبائل المجاورة لمكة قد خضعت لحكم الله تعالى، فإن غيرها ممن نأت ديارهم، غرهم عقلهم العليل، فقد اجتمعت هوازن، وثقيف، ونصر، وجشم، وسعد بن بكر، وأناس من بنى هلال، واتخذوا من مالك بن عوف السعدى قائدًا عامًا لهم، وأجمعوا رأيهم على قتال محمد -صلى الله عليه وسلم- ومن معه من المسلمين، فبدأوا مسيرهم إليه، تحت إمرة مالك الذى أطاعوه رغم اختلافه مع كبيرهم دريد بن الصمة، وعلى الفور بدأ نشاط الاستخبارات من الجهتين، ثم غادر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة إلى حنين، وتلاقى الجيشان، فكانت الهزيمة الأولى للمسلمين،وكادت أن تذهب ريحهم لولا ثبات الرسول -صلى الله عليه وسلم-، والذى أدى إلى رجوع المسلمين واحتدام المعركة، وما مرت سوى سويعات حتى لحقت الهزيمة الساحقة بجيش العدو، وبدأت المطاردة، لكن الأعراب فروا إلى الطائف فاحتموا بها، فجمع المسلمون الغنائم، ثم ساروا إلى الطائف، حيث بدأ الحصار والقتال حولها، لكنها عصيت عليهم، فقرروا الرحيل عنها إلى حين، وانتظر النبى -صلى الله عليه وسلم- بعض الوقت، ثم قسم الغنائم والتى لم ينل منها الأنصار -على كثرتها ووفرتها -شيئًا، فأحزنهم ذلك، حتى حدثهم النبى -صلى الله عليه وسلم- فرضوا بمقامه بينهم بديلاً، وما كادت قسمة الغنائم تتم حتى قدم وفد هوازن يعلن الاستسلام ويطلب الصلح، فأجابه النبى -صلى الله عليه وسلم- إليه، وأنهى غزوته بأداء العمرة ثم الانصراف إلى المدينة.

غزوة تبوك:
قيصر الروم الذى بدأ المسلمين بالعداوة، منذ مؤتة، والمسلمون لايقلقونه فحسب، بل يقضون عليه مضجعه، ويثيرون خوفه أيضًا- لقد اكتسحت جموعه قبائل العرب، فوجدوها تحت أمرهم، ودانت لهم الجزيرة العربية بأسرها. ولن تلبث صخرة الروم أن يجرفها سيل المسلمين العظيم، لن ينتظر قيصر إذن حتى تخلع العرب أبوابه، وتحرق عالى أسواره، لقد بدأهم بالمعاداة، وليس له الآن أن يتنكب الطريق!! على الجانب الآخر لم يكن المسلمون ليغفلوا عمن أصبح جارهم، بعد اتساع رقعتهم. كما لم يكن لهم أن ينسوا ثأرهم بمؤتة، فكانوا دومًا فى ترقب وحذر، هو حذر لا يشغلهم عن عدوهم الذى بين أظهرهم، فما زال للمنافقين بالمدينة دور يؤدونه، بل ومسجد على غير تقوى الله يقيمونه، وفى هذا الجو الملبد، وصلت الأخبار باستعداد الروم للحرب، وكره الناس الغزو لاجتماع ظروف عديدة، لكن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- ما كان يوقفه عن عزمه شىء، فأعلن التهيؤ لغزو الروم، وتم تجهيزالجيش، الذى بدأ مسيره إلى تبوك، ثم وصل إليها وعسكر بها دون حرب أو قتال، لأن عدو المسلمين لم يبق فى أرض المعركة بعد سماعه بخروج النبى -صلى الله عليه وسلم- ومن معه، وصالح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبائل الشام العربية الموالية للروم على الجزية، ثم رجع إلى المدينة، وهناك كان لقاؤه مع المخلفين الذين تكاسلوا عن الخروج، فذمهم الله تعالى سوى ثلاثة منهم.

وقائع مهمة فى السنة التاسعة للهجرة:
لم تمض السنة التاسعة الهجرية حتى أظهرت صفحاتها للمسلمين العديد من الحوادث الجسام، فقد توفى النجاشى أصحمة: ملك الحبشة، وصلى عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلاة الغائب، وتوفيت كذلك أم كلثوم بنت النبى -صلى الله عليه وسلم- فحزن عليها حزنًا شديدًا، وقال لعثمان : لو كانت عندى ثالثة لزوجتكها. وتوفى أيضًا عبدالله بن أبى رأس المنافقين، وقد استغفر له النبى -صلى الله عليه وسلم- وصلى عليه رغم محاولة عمر منعه، ثم نزل القرآن بعد ذلك بموافقة عمر، وفى هذه السنة أيضًا تلاعن عويمر العجلانى وامرأته، كما رجمت الغامدية، التى جاءت فاعترفت على نفسها بالفاحشة، وقد رجمت بعدما فطمت ابنها.

الوفود:
قد يعشق أصحاب العقل الحق لمنطقه، ويهفو إليه آخرون لما تحسه قلوبهم الصافية من جمال، قد لا يدركه عقل أو منطق، أما غالب الناس فإنهم يظلون يرقبون الحق وهو يقاتل، حتى إذا انتصر وعمّ نوره الآفاق، رأوا ما به من جمال، فأسرعوا يتبعونه على عجل!، وقبائل العرب المختلفة، كانت تتابع ما بين محمد -صلى الله عليه وسلم- وقريش من حرب دائرة، ويحدثون أنفسهم قائلين: اتركوه وقومه، فإنه إن ظهر عليهم فهو نبىّ صادق. فلما رأوا بأعينهم ما منّ الله به عليه يوم الفتح، تتابعت وفودهم المتلاحقة تقف بين يديه، وتعلن أن هدى الله قد دخل قلوبها، واستيقنته سويداؤها! ونذكر من بين ما يزيد على السبعين وفدًا هذه الوفود فحسب:
1- وفد بنى تميم.
2- وفد بنى سعد.
3- وفد بنى زبيد.
4- وفد كندة .
5- وفد أزد.
6- وفد بنى الحارث.
7- وفد جذامة.
8- وفد عبد القيس.
9- وفد دوس.
10- وفد طىء.
11- وفد صداء.
12- قدوم كعب بن زهير.
13- وفد عذرة.
14- وفد بلى.
15- وفد ثقيف.
16- وفد اليمن.
17- وفد همدان.
18- وفد بنى فزارة.
19- وفد نجران.
20- وفد بنى حنيفة.
21- وفد بنى عامر بن صعصعة.
22-وفد تجيب.
والحق أن هذه الوفود لم تأت كلها بعد الفتح، بل بعضها قبله قطعًا.


يتبع
 
آخر أيام النبي - صلى الله عليه وسلم:

حجة الوداع:
ماذا بقى من رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- بعد أن تمت للإسلام أركانه، وشيد بناؤه، وأقيمت حدوده؟، ماذا بقى بعد أن أصبح للإسلام أمة تجسد بسلوكها مبادئه وتفترش جزيرة العرب بأسرها؟، ماذا بقى سوى أن يلتقى النبى بأتباعه فيأخذ منهم الشهادة على أنه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ثم يودعهم بنظرة أخيرة؟ ثم أين يكون مكان اللقاء إن لم يكن بمكة بلد الله الحرام؟ وأى مناسبة إذًا أفضل من حج بيت الله حيث اجتماع المسلمين وإقامة الشعيرة التى هفا لها فؤاد المصطفى -صلى الله عليه وسلم؟. إن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- الذى ودع معاذًا حين أرسله إلى اليمن قائلاً: يا معاذ، إنك عسى ألا تلقانى بعد عامى هذا، ولعلك أن تمر بمسجدى هذا وقبرى- إن محمدًا خاتم النبيين والمرسلين قد شعر أن رسالته شارفت على نهايتها، وأن خاتمتها صارت قريبة؛ فأعلن للناس بحجة، وتهيأ لها، ثم ارتحل قاصدًا مكة، وبعد أن أقام جزءًا من شعيرته توجه إلى منى، وفوق جبل النور كانت خطبته الخالدة التى حفظتها الصدور، ووعتها العقول، وانطلق -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك إلى المزدلفة، ثم عاد إلى مكة؛ ليتم حجه، ويرجع إلى مدينته المنورة فى ختام رحلته الأخيرة -صلى الله عليه وسلم-.

خطبة الحج:
يا له من مشهد مهيب! نبى الله الخاتم، يقف خطيبًا فى الناس، وآذان مائة ألف وأربعة وعشرين أوأربعة وأربعين ألفًا من المسلمين ترهف سمعها لكلماته، وعيونهم معلقة به أو متجهة نحوه، وإنه لمشهد عجيب لحجيج العرب، الذين ألفوا التصفيق والضجيج فى عبادتهم لا يسمع بينهم إلا صوت النبى -صلى الله عليه وسلم- أو صوت المبلغ عنه ربيعة -ربيعة بن أمية بن خلف الذى كان أبوه يعذب بلالا-، وتتالت كلمات محمد -صلى الله عليه وسلم- تخرج من فمه الشريف فتطهر القلوب وتغسل عنها أدرانها، وتجلو الأبصار وتنير لها طريقها: أيها الناس، اسمعوا قولى، فإنى لا أدرى لعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا بهذا الموقف أبدًا، إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، فى شهركم هذا، فى بلدكم هذا، ألا كل شىء من أمر الجاهلية تحت قدمى موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع من ربانا ربا عباس بن عبدالمطلب، فإنه موضوع كله، فاتقوا الله فى النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله، أيها الناس، إنه لا نبى بعدى، ولا أمة بعدكم، ألا فاعبدوا ربكم، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، طيبة بها أنفسكم، وتحجون بيت ربكم، وأطيعوا أولات أمركم، تدخلوا جنة ربكم، وأنتم تسألون عنى فما أنتم قائلون؟ فارتجت جنبات الوادى بقول المسلمين: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فرفع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سبابته إلى السماء قائلاً: اللهم فاشهد، يرددها ثلاث مرات. ونزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم نزل عليه قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتى، ورضيت لكم الإسلام دينًا). وهكذا تمت الرسالة التى أداها محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى المسلمين كاملة تامة، وآن للأمة بأسرها، ولكل مسلم بها أن يحملها كاملة غير منقوصة، وانهمرت الدموع من عينى عمر بن الخطاب فقيل له: ما يبكيك؟ فأجاب: إنه ليس بعد الكمال إلا النقصان! فرحم الله عمر، ما أثقب فهمه، وأبعد نظره!.

آخر البعوث:
عاد خاتم أولى العزم من الرسل إلى المدينة؛ ليواجه مشكلة جديدة، فالروم وكنيستها لا يعجبها دخول العرب المتاخمين لحدودها فى دين الله الحنيف، وقد قرروا قتل كل عربى يدخل فى الإسلام، وما كان للنبى -صلى الله عليه وسلم- أن يدع الناس تظن أن الإسلام يجر عليهم الحتوف، وأن الحق صار لا قوة له، فأخذ -صلى الله عليه وسلم- يجهز جيشًا كبيرًا فى صفر سنة إحدى عشرة من الهجرة وأمر عليه أسامة بن زيد بن حارثة وأمره أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والدارون من أرض فلسطين لإرهاب الروم، وإعادة الثقة إلى العرب الضاربين على الحدود، ولكن أزمة عارضة بدأ النبى -صلى الله عليه وسلم- يسمع خطوات مقدمها، ولم تكن هذه المرة من خارج الحدود بل من داخل المدينة، فقد ظهرت فى الأفق بوادر معارضة من المسلمين لإمارة أسامة، واحتوى النبى -صلى الله عليه وسلم- هذه الأزمة فانتظم الجيش، ونزل بالجرف على فرسخ من المدينة، إلا أن أخبار مرض النبى -صلى الله عليه وسلم- قد جعلتهم يتمهلون فى الخروج، فمكثوا حتى وفاته -صلى الله عليه وسلم- وكان خروجه فى أول خلافة أبى بكر الصديق.

يتبع
 
وفاته -صلى الله عليه وسلم-

ما أعجب هذا القلم، حين يتردد الآن عن كتابة وفاة النبى -صلى الله عليه وسلم-. ألم يكن يعلم منذ اللحظة الأولى، التى بدأ فيها سرد حياته أنه مات؟! أم غاضب هو من هذا الموت الذى ظل وسيلتنا الوحيدة للقيا الحبيب -صلى الله عليه وسلم- ؟! لكن لعلها الذكرى تتجدد، فتهيج بريحها العاصف أشواق اللقاء، وهو أمر لا حيلة لنا معه! إلا أن نذكر أن كلماته باقية حولنا، وسننه ووصاياه وهديه بين أيدينا، ثم وعده بوصال لا ينقطع، فى جنة عرضها السماوات والأرض، بادٍ أمام أعيننا. شعر محمد -صلى الله عليه وسلم- بدنو أجله، ولم يمض إلا قليل حتى داهمه المرض. فانتقل -صلى الله عليه وسلم- إلى دار عائشة، ولم يشغله مرضه عن المسلمين، فأخذ يمهد لهم الأمر، حتى يتهيئوا لوفاته، ولا ينزعجوا لفراقه. وفى هذه الساعات العصيبة، لم ينس أيضًا -صلى الله عليه وسلم أن يودع عقول المسلمين وأفئدتهم وصاياه الأخيرة. واشتد المرض عليه -صلى الله عليه وسلم- حتى أقعده، فأمر أبا بكر أن يصلى بالناس، وتخلص من آخر متاعه بالدنيا قبل يومه الأخير بليلة واحدة، وهو اليوم الذى لم يرتفع فيه أذان الظهر، إلا والمصطفى -صلى الله عليه وسلم- مُسَجَّىً فى فراشه قد أصابه الاحتضار. وتسرب النبأ الأليم، فجزع الصحابة، وحزنوا حزنًا أضاق عليهم أفق المدينة، وأظلم عليهم نورها، وهم ما بين مسلم بالخبر ومحتسب، ومنزعج للحدث غير مصدق، كان موقف أبى بكر وعمر -رضى الله عنهما-، والذى تجاوزاه لينشغلا، بما يعتقدانه مراد محمد -صلى الله عليه وسلم- فى اجتماع كلمة المسلمين وأمرهم، فكان اختيار أبى بكر لخلافة المسلمين، وهو العمل الذى سبق تجهيز النبى -صلى الله عليه وسلم- وتوديع جسده الشريف. وبموته -صلى الله عليه وسلم- انقطع الوحى والنبوة عن الأرض، لكن بقى سراجهما منيرًا للعالمين، حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

بداية المرض:
بينما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عائدًا فى طريقه من جنازة شهدها بالبقيع، فى اليوم التاسع والعشرين من شهر صفر سنة إحدى عشرة من الهجرة إذ بصداع أليم يأخذ رأسه، وقد اتقدت حرارته، حتى إنها كانت تحس من فوق العصابة، التى تعصب بها رأسه. لكنه -صلى الله عليه وسلم- تحامل على نفسه وصلى بالناس مريضًا أحد عشر يومًا، حتى أقعده المرض عن ذلك.

فى دار عائشة:
جعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسأل أزواجه: أين أنا غدًا؟ أين أنا غدًا؟، ففهمن مراده، وعلمن أنه -وهو النبى العظيم- يستأذنهن، فأذنَّ له أن يكون حيث يشاء فالمرض قد ثقل به، ولن يستطيع أن ينتقل وهو بحاله تلك بين دور نسائه، وإلى دار عائشة بنت أبى بكر الحبيبة بنت الحبيب كان المسير. يمشى -صلى الله عليه وسلم- بين الفضل بن عباس وعلى بن أبى طالب، عاصبًا رأسه، تخط قدماه، حتى دخل بيتها، فقضى به أسبوعه الأخير، وهى -رضى الله عنها- تقرأ بالمعوذات والأدعية التى حفظتها عنه، ثم تنفث على نفسه، وتمسحه بيده رجاء البركة.

تمهيده الأمر للمسلمين:
بعد أن قال النبى -صلى الله عليه وسلم- فى حجة الوداع: إنى لا أدرى لعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا بهذا الموقف أبدًا؟، وبعد أن أعاد قوله عليهم عند جمرة العقبة حين قال: خذوا عنى مناسككم، فلعلى لا أحج بعد عامى هذا. خرج -صلى الله عليه وسلم- فى أوائل صفر سنة إحدى عشرة من الهجرة إلى أحد، حيث مثوى شهداء المسلمين، الذين قدموا كل شىء، ثم ماتوا دون أن تنعم أعينهم بفرحة الفتح أو لمحة النصر، وقف -صلى الله عليه وسلم- أمامهم مصليًا، ثم انصرف إلى منبره فقال: إنى فرطكم، وإنى شهيد عليكم، وإنى والله لأنظر إلى حوضى الآن، وإنى أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، وإنى والله ما أخاف أن تشركوا بعدى، ولكنى أخاف عليكم أن تنافسوا فيها. ثم خرج -صلى الله عليه وسلم- فى إحدى ليالى صفر إلى البقيع، مخاطبًا أهله بقوله: السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهن لكم ما أصبحتم فيه، مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يتبع آخرها أولها، الآخرة شر من الأولى. ثم بشرهم قائلاً: إنا بكم للاحقون. أما قبل وفاته -صلى الله عليه وسلم- بخمسة أيام، فإنه قد صعد المنبر، وخطب فى المسلمين يوصيهم، ثم أردف قائلاً: إن عبدًا خيره الله أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء، وبين ما عنده، فاختار ما عنده. وهنا لم يتمالك أبو بكر نفسه، فانفجر باكيًا، وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، وتعجب الناس من بكاء الصديق، الذى أدرك ببصيرته، أنه -صلى الله عليه وسلم- هو المخير، وأنه اختار اللحوق بالرفيق الأعلى.

وصاياه الأخيرة:
قبل وفاته -صلى الله عليه وسلم- بخمسة أيام، اتقدت حرارة العلة ببدنه، واشتد به الوجع حتى غمى، فقال: هريقوا علىّ سبع قرب من آبار شتى، حتى أخرج إلى الناس، فأعهد إليهم. فأقعدوه فى مخضب، وصبوا عليه الماء، حتى طفق يقول: حسبكم، حسبكم. وشعر بخفة، فخرج إلى الناس، معصوب الرأس وجلس على المنبر، وعيون المسلمين معلقة به، وأجسادهم كأنما تسمرت فى أماكنها، ينصتون إلى ما يقوله محمد -صلى الله عليه وسلم- فى آخر وصاياه، وتتابعت تلك الوصايا وتلاحقت: لا تتخذوا قبرى بعدى وثنًا يعبد، من كنت جلدت له ظهرًا، فهذا ظهرى فليستقد منه. أهذا ما تخشاه يا محمد -صلى الله عليك- قبل أن ترحل عن الدنيا؟ أن تكون ظلمت أحدًاً من الناس، وأنت من حمل إليهم الخير كله، وتحمل فى سبيل ذلك من العذاب ألوانًا!. ونزل صلى الله عليه وسلم- فصلى الظهر، ثم رجع إلى منبره، وطالعت عيناه وجوه الأنصار، الذين ابتاعوا بدنياهم رجلاً فقيرا مطرودًا من بلده، يسعى فى إثره أشاوس قومه وطغاتهم لثقتهم أنه نبى الله، فقال: إن الناس يكثرون وتقل الأنصار، حتى يكونوا كالملح فى الطعام، فمن ولى منكم أمرًا، يضر فيه أحدا أو ينفعه، فليقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم، وأعلمهم أنه اختار ما عند الله على زهرة الدنيا، ثم أوصى بالصديق فقال: إن آمن الناس على فى صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذًا خليلاً غير ربى لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لايبقين فى المسجد باب إلا سد، إلا باب أبى بكر، وفى اليوم التالى أوصى-صلى الله عليه وسلم- بإخراج اليهود والنصارى والمشركين من جزيرة العرب، وأوصى بإجازة الوفود بنحو ما كان يجيزهم، وأراد أن يكتب للمسلمين كتابًا لا يضلوا بعده، لكن عمر قال: قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن، حسبكم كتاب الله، فاختلف أهل البيت واختصموا، فلما أكثروا اللغط قال لهم -صلى الله عليه وسلم-: قوموا عنى.

التخلص من آخر المتاع:
بقى من الزمن يوم واحد، ويغادر محمد -صلى الله عليه وسلم- دنيا الناس إلى جنات ربه، وأدارالرسول -صلى الله عليه وسلم- بصره فى حجرته البسيطة، فوقعت عيناه على متاعه من الدنيا، ممتلكات نبى آخر الزمان، من بلغت حدود دولته بلاد الفرس والروم، ودانت له جزيرة العرب بأطرافها، فماذا وجد؟، غلمانًا كان أحن عليهم من والد، وسبعة دنانير، وعدة حربه من السلاح، فأعتق الغلمان، وتصدق بالدنانير، ووهب سلاحه للمسلمين. وفى الليل استعارت عائشة الزيت للمصباح من جارتها، وكانت درعه مرهونة عند يهودى بثلاثين صاعًا من الشعير.

اليوم الأخير:
بينا المسلمون صفوف خلف أبى بكر، يصلون فجر الإثنين الثانى عشر من ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة، إذ بستر حجرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرفع، وإذ بوجهه المنير ينظر إليهم متبسمًا، وفرح المسلمون بما رأوا، فأشار إليهم بيده أن أتموا صلاتكم، ثم أرخى الستر على حجرته، ولم يدروا حينئذ أنها المرة الأخيرة، التى يرون فيها وجهه الكريم -صلى الله عليه وسلم-. فحين ارتفع الضحى، دعا محمد -صلى الله عليه وسلم- فاطمة ابنته، ثم سارّها بشىء فبكت، فدعاها وسارّها بشىء آخر فضحكت!، أما ما بكت لأجله، فكان إخباره إياها أنه يقبض فى وجعه الذى توفى فيه، وأما ما ضحكت منه، فكان بشارته لها أنها أول من يتبعه من أهله، وغشيه -صلى الله عليه وسلم- كرب شديد مما يجد، فقالت فاطمة متأوهة: واكرب أباه، فأجابها: ليس على أبيك كرب بعد اليوم، ودعا الحسن والحسين فقبلهما، وأوصى بهما خيرًا، ثم دعا أزواجه فوعظهن وذكرهن، وأخذ الوجع يشتد ويزيد عليه فقال لعائشة: ما أزال أجد ألم الطعام الذى أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهرى من ذلك السم، وكانت آخر وصاياه، التى أخذ يرددها مرارًا الصلاة الصلاة، وما ملكت أيمانكم.

يتبع
 
أعلى