الاحتضار:
حين اشتد الضحى من يوم الإثنين الثانى عشر من ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة، كان عبدالرحمن بن أبى بكر، يدلف إلى حجرة عائشة وفى يده سواك له، فنظر إلى سواكه محمد -صلى الله عليه وسلم- الذى كانت رأسه الشريفة مستندة إلى صدر عائشة، وعرفت أنه يريده فأخذته ولينته واستاك به -صلى الله عليه وسلم-، ثم صار يضع يده فى إناء به ماء، فيمسح بها وجهه ويقول: لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات، ثم شخص بصره نحو السقف، ورفع إصبعه، وتمتم قائلاً: مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم اغفر لى وارحمنى وألحقنى بالرفيق الأعلى، اللهم الرفيق الأعلى، اللهم الرفيق الأعلى، اللهم الرفيق الأعلى، ثم مالت يده، وصعدت روحه الطاهرة إلى بارئها عز وجل.
حزن الصحابة:
يا أبتاه، أجاب ربًا دعاه. يا أبتاه، من جنة الفردوس مأواه. يا أبتاه، إلى جبريل ننعاه. خرجت هذه الكلمات الحارة من صدر فاطمة بنت محمد، لتتسلل إلى أسماع صحابة محمد -صلى الله عليه وسلم- فتعتصر قلوبهم ألمًا، مات الحبيب، الذى عرفوا الحق على يديه، ألفوا سماع حديثه، ورؤياه ماشيًا تارة ومتبسمًا أخرى، ومفكرًا أو مجاهدًا مرات سواها، تعودوا رؤية سيد الخلق، مثال السمو البشرى، من وسع صدره همومهم، وقلبه حبهم، من ملأ دنياهم، وأنار آخرتهم، حين ترك فيهم ما لا يضلوا بعده أبدًا كتاب الله وسنته -صلى الله عليه وسلم-، حزن الصحابة حزنًا، أظلم على المدينة دروبها التى شهدت مسيره، ولعلها الآن حين تحتضن جثمانه فى صعيدها الطيب الطاهر، تجد العزاء. أما صحابته -صلى الله عليه وسلم- فإن عزاءهم وعزاء أتباعه -صلى الله عليه وسلم- فى متابعة طريق شقه فى الدنيا، جزاء السائر فيه، لقيا حبيبه فى الجنة.
موقفا أبى بكر وعمر من الوفاة:
خفق قلب أبى بكر حين وصله النبأ الحزين، وساءل نفسه: هل انتهت رحلتى الطويلة مع نبيى محمد؟، وخرج أبو بكر من بيته، ثم وضع جسده المتعب فوق ظهر فرسه، وغدا إلى المسجد لا يدرى، أينهز فرسه فيفجع برؤيا حبيبه وقد فارقته الحياة؟، أم يكفها فيبقى بعيدًا عن روح قلبه ومفتداه؟! واستسلم أبو بكر لمسير فرسه، تحمله إلى حيث يلقاه، فلما انتهت إلى المسجد، نزل عنها ولم يكلم أحدًا، حتى دخل على عائشة ابنته، فقصد بخطوات لا تقوى على حمله إلى فراش رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ونظر إليه بعينين حانيتين وهو يراه مسجىً لأول مرة، وامتدت يداه لأطراف الثوب، فالتقطها بأنامله، وكشف عن أحب الوجوه إليه، فلما رآه، لم يتمالك نفسه، فأكب عليه، يقبله ويبكى بكاءً حارًا متصلاً، لعله ينفث عن جمرات اتقدت فى صدره الحزين، وتمتم يقول ودموعه قد غطت وجهه: بأبى أنت وأمى، لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التى كتبت عليك فقد متها.، إنها الحقيقة التى علمه محمد -صلى الله عليه وسلم- أن يواجهها ويعاملها، وإنه القدر الذى تعلم من نبيه كيف يستسلم له، وخرج أبو بكر من بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد نفض عن وجهه ملامح الجزع، وأبرقت عيناه ثقة وحزمًا. وها هو عمر بن الخطاب، يرفض قلبه الدافق بحب محمد -صلى الله عليه وسلم- أن يستسلم لهذا الخبر، فوقف صائحًا: إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله توفى، وإن رسول الله ما مات، لكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران فغاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات، ووالله، ليرجعن رسول الله فليقطعن أيدى رجال وأرجلهم يزعمون أنه مات. وأراد أبو بكر أن يجلس عمر فأبى، لكن الناس أقبلوا على الصديق يستمعون، فقال لهم: أما بعد، من كان منكم يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حى لا يموت، قال الله: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئًا وسيجزى الله الشاكرين). وهنا استقر أمر المسلمين، لكنْ هوى عمر إلى الأرض، وعلم أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- قد مات.
اختيار أبى بكر لخلافة المسلمين:
اجتمع كثير من المسلمين فى سقيفة بنى ساعدة، وجرى بينهم خلاف فى أمر الخلافة، وتبادل القوم النقاش والجدال بين المهاجرين والأنصار، وأصبح لزامًا على الصحابيين الكبيرين، أبى بكر وعمر أن يدركا المسلمين فى سقيفتهم، ودخل أبو بكر فأبدى رأيه فى تقديم قريش على من سواها حفاظًا على وحدة العرب، ثم رفع يدى عمر وأبى عبيدة ليختار المسلمون بينهما، لكن المسلمين ظلوا يتجادلون دون حسم لأمرهم أو اختيارهم، وهنا بادر عمر القوم، فسأل أبا بكر أن يبسط يده، فبسطها، فبايعه عمر، فتزاحم المسلمون على أبى بكر يبايعونه وقد مضى فى ذلك بقية يوم الإثنين حتى دخل الليل وشغل الناس عن جهاز رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى اليوم الثانى.
التجهيز وتوديع الجسد الشريف:
آن للجسد الذى حرك صاحبه الدنيا بأسرها، فأسقط عروش الظلم والجاهلية بها، وأنار جوانبها، وترك فيها حركة قوية من دين متجدد إلى يوم الساعة- آن لهذا الجسد أن يسكن ويستريح، وآن له أن يعود إلى منشئه، التراب!. أقبل العباس وابناه الفضل وقثم يقلبان جسده -صلى الله عليه وسلم- ويصب الماء عليه دون أن يجرده من ثيابه أسامة بن زيد وشقران مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وكان الذى يغسله على بن أبى طالب. وأسنده أوس بن خولى إلى صدره، وانتهى الغسل فكفنوه -صلى الله عليه وسلم- فى ثلاثة أثواب بيض، ثم حفروا تحت فراشه لحدًا، ليكون له -صلى الله عليه وسلم- قبرًا، ودخل الناس أرسالاً عشرة فعشرة، يصلون على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا يؤمهم أحد، وصلى عليه أولاً أهل عشيرته، ثم المهاجرون، ثم الأنصار. وصلت عليه النساء بعد الرجال، ثم صلى عليه الصبيان، ومضى فى ذلك يوم الثلاثاء كاملاً، حتى دخلت ليلة الأربعاء، وما انتهى الصحابة من دفنه -صلى الله عليه وسلم- إلا فى جوف ليلة الأربعاء.
يتبع
حين اشتد الضحى من يوم الإثنين الثانى عشر من ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة، كان عبدالرحمن بن أبى بكر، يدلف إلى حجرة عائشة وفى يده سواك له، فنظر إلى سواكه محمد -صلى الله عليه وسلم- الذى كانت رأسه الشريفة مستندة إلى صدر عائشة، وعرفت أنه يريده فأخذته ولينته واستاك به -صلى الله عليه وسلم-، ثم صار يضع يده فى إناء به ماء، فيمسح بها وجهه ويقول: لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات، ثم شخص بصره نحو السقف، ورفع إصبعه، وتمتم قائلاً: مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم اغفر لى وارحمنى وألحقنى بالرفيق الأعلى، اللهم الرفيق الأعلى، اللهم الرفيق الأعلى، اللهم الرفيق الأعلى، ثم مالت يده، وصعدت روحه الطاهرة إلى بارئها عز وجل.
حزن الصحابة:
يا أبتاه، أجاب ربًا دعاه. يا أبتاه، من جنة الفردوس مأواه. يا أبتاه، إلى جبريل ننعاه. خرجت هذه الكلمات الحارة من صدر فاطمة بنت محمد، لتتسلل إلى أسماع صحابة محمد -صلى الله عليه وسلم- فتعتصر قلوبهم ألمًا، مات الحبيب، الذى عرفوا الحق على يديه، ألفوا سماع حديثه، ورؤياه ماشيًا تارة ومتبسمًا أخرى، ومفكرًا أو مجاهدًا مرات سواها، تعودوا رؤية سيد الخلق، مثال السمو البشرى، من وسع صدره همومهم، وقلبه حبهم، من ملأ دنياهم، وأنار آخرتهم، حين ترك فيهم ما لا يضلوا بعده أبدًا كتاب الله وسنته -صلى الله عليه وسلم-، حزن الصحابة حزنًا، أظلم على المدينة دروبها التى شهدت مسيره، ولعلها الآن حين تحتضن جثمانه فى صعيدها الطيب الطاهر، تجد العزاء. أما صحابته -صلى الله عليه وسلم- فإن عزاءهم وعزاء أتباعه -صلى الله عليه وسلم- فى متابعة طريق شقه فى الدنيا، جزاء السائر فيه، لقيا حبيبه فى الجنة.
موقفا أبى بكر وعمر من الوفاة:
خفق قلب أبى بكر حين وصله النبأ الحزين، وساءل نفسه: هل انتهت رحلتى الطويلة مع نبيى محمد؟، وخرج أبو بكر من بيته، ثم وضع جسده المتعب فوق ظهر فرسه، وغدا إلى المسجد لا يدرى، أينهز فرسه فيفجع برؤيا حبيبه وقد فارقته الحياة؟، أم يكفها فيبقى بعيدًا عن روح قلبه ومفتداه؟! واستسلم أبو بكر لمسير فرسه، تحمله إلى حيث يلقاه، فلما انتهت إلى المسجد، نزل عنها ولم يكلم أحدًا، حتى دخل على عائشة ابنته، فقصد بخطوات لا تقوى على حمله إلى فراش رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ونظر إليه بعينين حانيتين وهو يراه مسجىً لأول مرة، وامتدت يداه لأطراف الثوب، فالتقطها بأنامله، وكشف عن أحب الوجوه إليه، فلما رآه، لم يتمالك نفسه، فأكب عليه، يقبله ويبكى بكاءً حارًا متصلاً، لعله ينفث عن جمرات اتقدت فى صدره الحزين، وتمتم يقول ودموعه قد غطت وجهه: بأبى أنت وأمى، لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التى كتبت عليك فقد متها.، إنها الحقيقة التى علمه محمد -صلى الله عليه وسلم- أن يواجهها ويعاملها، وإنه القدر الذى تعلم من نبيه كيف يستسلم له، وخرج أبو بكر من بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد نفض عن وجهه ملامح الجزع، وأبرقت عيناه ثقة وحزمًا. وها هو عمر بن الخطاب، يرفض قلبه الدافق بحب محمد -صلى الله عليه وسلم- أن يستسلم لهذا الخبر، فوقف صائحًا: إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله توفى، وإن رسول الله ما مات، لكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران فغاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات، ووالله، ليرجعن رسول الله فليقطعن أيدى رجال وأرجلهم يزعمون أنه مات. وأراد أبو بكر أن يجلس عمر فأبى، لكن الناس أقبلوا على الصديق يستمعون، فقال لهم: أما بعد، من كان منكم يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حى لا يموت، قال الله: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئًا وسيجزى الله الشاكرين). وهنا استقر أمر المسلمين، لكنْ هوى عمر إلى الأرض، وعلم أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- قد مات.
اختيار أبى بكر لخلافة المسلمين:
اجتمع كثير من المسلمين فى سقيفة بنى ساعدة، وجرى بينهم خلاف فى أمر الخلافة، وتبادل القوم النقاش والجدال بين المهاجرين والأنصار، وأصبح لزامًا على الصحابيين الكبيرين، أبى بكر وعمر أن يدركا المسلمين فى سقيفتهم، ودخل أبو بكر فأبدى رأيه فى تقديم قريش على من سواها حفاظًا على وحدة العرب، ثم رفع يدى عمر وأبى عبيدة ليختار المسلمون بينهما، لكن المسلمين ظلوا يتجادلون دون حسم لأمرهم أو اختيارهم، وهنا بادر عمر القوم، فسأل أبا بكر أن يبسط يده، فبسطها، فبايعه عمر، فتزاحم المسلمون على أبى بكر يبايعونه وقد مضى فى ذلك بقية يوم الإثنين حتى دخل الليل وشغل الناس عن جهاز رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى اليوم الثانى.
التجهيز وتوديع الجسد الشريف:
آن للجسد الذى حرك صاحبه الدنيا بأسرها، فأسقط عروش الظلم والجاهلية بها، وأنار جوانبها، وترك فيها حركة قوية من دين متجدد إلى يوم الساعة- آن لهذا الجسد أن يسكن ويستريح، وآن له أن يعود إلى منشئه، التراب!. أقبل العباس وابناه الفضل وقثم يقلبان جسده -صلى الله عليه وسلم- ويصب الماء عليه دون أن يجرده من ثيابه أسامة بن زيد وشقران مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وكان الذى يغسله على بن أبى طالب. وأسنده أوس بن خولى إلى صدره، وانتهى الغسل فكفنوه -صلى الله عليه وسلم- فى ثلاثة أثواب بيض، ثم حفروا تحت فراشه لحدًا، ليكون له -صلى الله عليه وسلم- قبرًا، ودخل الناس أرسالاً عشرة فعشرة، يصلون على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا يؤمهم أحد، وصلى عليه أولاً أهل عشيرته، ثم المهاجرون، ثم الأنصار. وصلت عليه النساء بعد الرجال، ثم صلى عليه الصبيان، ومضى فى ذلك يوم الثلاثاء كاملاً، حتى دخلت ليلة الأربعاء، وما انتهى الصحابة من دفنه -صلى الله عليه وسلم- إلا فى جوف ليلة الأربعاء.
يتبع